الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) ﴾ قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: ﴿ولا تسئل عن أصحاب الجحيم﴾ ، بضم"التاء" من"تسئل"، ورفع"اللام" منها على الخبر، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق، وكان من أهل الجحيم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: ﴿ولا تَسألْ﴾ جزما. بمعنى النهي، مفتوح"التاء" من"تسأل"، وجزم"اللام" منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:- ١٨٧٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله ﷺ: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت: ﴿ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم﴾ . ١٨٧٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله ﷺ: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ " ثلاثا، فنزلت: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم﴾ ، فما ذكرهما حتى توفاه الله. [[الحديثان: ١٨٧٥، ١٨٧٦ - هما حديثان مرسلان. فإن محمد بن كعب بن سليم القرظي: تابعي. والمرسل لا تقوم به حجة، ثم هما إسنادان ضعيفان أيضًا، بضعف راويهما: موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي: ضعيف جدا، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ /١/ ٢٩١، والصغير: ١٧٢ - ١٧٣، وابن أبي حاتم ٤ /١ /١٥١، فقال البخاري: "منكر الحديث قاله أحمد بن حنبل. وقال علي بن المديني، عن القطان: كنا نتقيه تلك الأيام". وروى ابن أبي حاتم عن الجوجزاني قال: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أبا عبد الله، لا يحل؟ قال: عندي، قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه". وقال ابن معين: "لا يحتج بحديثه". وقال أبو حاتم: "منكر الحديث". وأبوه"عبيدة"، بالتصغير، ووقع في المطبوعة في الإسنادين"عبدة". وهو خطأ.]] ١٨٧٧- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم، أن النبي ﷺ قال ذات يوم:"ليت شعري أين أبواي؟ " فنزلت: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم﴾ . [[الحديث: ١٨٧٧ - وهذا مرسل أيضًا، لا تقوم به حجة. داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة، ويروى عن بعض التابعين أيضًا. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢١٠. والجرح ١/٢/٤٢١. ووقع في المطبوعة"داو عن أبي عاصم". وهو تحريف، صححناه من ابن كثير ١: ٢٩٧. ونقل ابن كثير ١: ٢٩٦ عن القرطبي أنه قال: "وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: إن أبي وأباك في النار". ثم علق ابن كثير، فقال: "الحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام - ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف". وأنا أرى أن الإفاضة في مثل هذا غير مجدية، وما أمرنا أن نتكلف القول فيه.]] * * * قال أبو جعفر: والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه ﷺ: ﴿إنا أرسلناك﴾ يا محمد ﴿بالحق بشيرا﴾ ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه، ﴿ونذيرا﴾ من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله ﷺ ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي ﷺ نهي عن أن يسأل -في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. [[حجة قوية لا ترد، وبصر بسياق معاني القرآن وتتابعها. ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن مواطن الحق في موضع بعينه، لاختلاط الأمر عليهم لمشابهته لموطن آخر في موضع غيره، كما سترى في التعليق التالي رقم: ٤٠.]] * * * فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا﴾ ، بـ "الواو" - بقوله: ﴿ولا تسأل عن أصحاب الجحيم﴾ ، وتركه وصل ذلك بأوله بـ "الفاء"، وأن يكون:"إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم" - [[كان في المطبوعة: "بالواو يقول: فلا تسئل عن أصحاب الجحيم. . . بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم" وهو خطأ كما استدركه مصحح المطبوعة في تعليقه.]] أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: [[في المطبوعة: "أوضح الدلائل" بالجمع، والإفراد هو الصواب، وكأنه سبق قلم من ناسخ.]] "ولا تسئل"، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: ﴿وما تسأل﴾ ، وفي قراءة ابن مسعود: ﴿ولن تسأل﴾ ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه، دون النهي. [[قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٩٧" وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك؛ لاستحالة الشك من الرسول ﷺ في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح. ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم". ينسى ابن كثير غفر الله له، ما أعاد الطبري وأبدأ من ذكر سياق الآيات المتتابعة، والسياق كما قال هو في ذكر اليهود والنصارى وقصصهم، وتشابه قلوبهم في الكفر بالله، وقلة معرفتهم بعظمة ربهم، وجرأتهم على رسل الله وأنبيائه، وكل ذلك موجب عذاب الجحيم، فما الذي أدخل كفار العرب في هذا السياق؟ نعم إنهم يدخلون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، كما يدخل فيه كل مشرك من العرب وغيرهم. وقد بينا آنفًا ص: ٥٢١ تعليق: ١ أن هذه الآيات السالفة والتي تليها، دالة أوضح الدلالة على أن قصتها كلها في اليهود والنصارى، ولا شأن لمشركي العرب بها. وإن دخل هؤلاء المشركون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، وإذن فسياق الآيات يوجب أن تكون في اليهود والنصارى، فتخصيص شطر من آية بأنه نزل في أمر بعض مشركي الجاهلية. تحكم بلا خبر ولا بينة. (وانظر ص: ٥٦٥) . إن ابن كثير غفل عن معنى الطبري، فإن الطبري أراد أن يدل على شيئين: أن خبر محمد بن كعب لا يصح، وأنه إن صح عنه من وجه، فإن نزول الآية لم يكن لهذا الذي روي عنه. وبيان ذلك: أن الخبر لا يصح، لأنه جاء على صيغة التشكك من رسول الله ﷺ، في أمر بعض أهل الجاهلية: ما فعل به، في جنة أو نار! وهذا مما يتنزه عنه رسول الله ﷺ. وفرق كبير بين أن يستغفر رسول الله ﷺ لأبويه اللذين كانا من أهل الجاهلية، وعلى مثل أمرها من الشرك، وبين أن يتشكك في أمرهما فيقول:"ليت شعري ما فعل أبواي؟ ". وإنما يصح كلام ابن كثير، إذا كان بين هذا التشكك، وبين الاستغفار رابط يوجب أن يكون أحدهما ملازما للآخر، أو بسبب منه. ثم يرد الخبر أيضًا، لأن سياق الآيات يدل ظاهرها البين على أنها في اليهود والنصارى نزلت، فلا يمكن تخصيص شطر من آية من هذه الآيات المتتابعة، على خبر لا يصح، لعلة موهنة له. فلست أدري لم أقحم ابن كثير الاستغفار والتبرؤ في هذا الموضع، مع وضوح حجة الطبري في الفقرة السالفة. من جهة السياق، وفي هذه الفقرة من جهة العربية؟ إن بعض المشكلات التي يدور عليها جدال الناس، ربما أغفلت مثل ابن كثير عن مواطن الدقة والصواب والتحري، وهم يفسرون كتاب الله الذي لا يخالف بعضه بعضا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، ونستهديك في البيان عن معاني كتابك.]] * * * وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: ﴿ولا تسأل عن أصحاب الجحيم﴾ إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم"التاء"، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته:"ولا تسأل"، بفتح"التاء" وضم"اللام" على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك. وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة، [[في المطبوعة: يرفعهما ما روي. . . " والصواب ما أثبت.]] لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من"ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: ﴿ولا تسأل﴾ . وإذا كان ابتداء لم يكن حالا. * * * وأما ﴿أصحاب الجحيم﴾ ، ف"الجحيم"، هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: إذا شبت جهنم ثم دارت ... وأَعْرَض عن قوابسها الجحيم [[ديوانه: ٥٣، وروايته: "ثم فارت"، وكأنها هي الصواب، وأخشى أن يكون البيت محرفا. لم أعرف معنى"قوابسها" هناك، وأظنه"قدامسها" جمع قدموس، وهي الحجارة الضخمة الصلبة، كقوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة"، وأعرض الشيء اتسع وعرض، وقوله"عن" أي بسبب قذف هذه الحجارة فيها. هذا أقرب ما اهتديت إليه من معناه، ويرجح ذلك البيت الذي يليه، وفيه جواب"إذا": تحش بصندل صم صلاب ... كأن الضاحيات لها قضيم وكأنه يعني بالضاحيات: النخيل. وشعر أمية مشكل على كل حال.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب