الباحث القرآني

ولَمّا تَضَمَّنَ هَذا السِّياقُ الشَّهادَةَ بِصِحَّةِ رِسالَتِهِ ﷺ وأنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلّا البَيانُ صَرَّحَ بِالأمْرَيْنِ في قَوْلِهِ مُؤَكِّدًا لِكَثْرَةِ المُنْكِرِينَ ﴿إنّا أرْسَلْناكَ﴾ هَذا عَلى أنْ يَكُونَ المُرادُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الأُمَمِ، (p-١٣٧)أمّا إذا أُرِيدَ هَذِهِ الأُمَّةُ فَقَطْ فَيَكُونُ المَعْنى: قَدْ بَيَّنّا الآياتِ الدّالّاتِ عَلى طَرِيقِ الحَقِّ بِأعْظَمِ بُرْهانٍ وبِالإخْبارِ عَنْ دَقائِقَ لا يَعْلَمُها إلّا حُذّاقُ أهْلِ الكِتابِ لِقَوْمٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الإيقانُ لِما وضُحَ لَهم مِنَ الأدِلَّةِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ﴾ إرْسالًا مُلْتَبِسًا ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ: بِالأمْرِ الكامِلِ الَّذِي يُطابِقُهُ الواقِعُ في كُلِّ جُزْئِيَّةٍ يُخْبِرُ بِها. قالَ الحَرالِّيُّ: والحَقُّ التّامُّ المُكَمَّلُ بِكَلِمَةِ ”ألْ“ هو اسْتِنْطاقُ الخَلْقِ عَنْ أمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ عَلى وجْهٍ أعْلى لِرِسالَتِهِ العَلِيَّةِ الخاصَّةِ بِهِ عَنْ عُمُومِ ما وقَعَتْ بِهِ رِسالَةُ المُرْسَلِينَ مِن دُونِ هَذا الخُصُوصِ، وذَلِكَ ”حَقٌّ“ مُنْكَرٌ، كَما تَقَدَّمَ أيْ: عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١] لِأنَّ ما أحَقَّ غَيْبًا مِمّا أنْزَلَهُ اللَّهُ فَهو ”حَقٌّ“ حَتّى السِّحْرَ، وما أظْهَرَ غَيْبَ القَضاءِ والتَّقْدِيرِ وأعْلَنَ بِإبْداءِ حِكْمَةِ اللَّهِ عَلى ما أبْداها مِن نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ في مُتَقابِلِ ما أبْداهُ مِن خَلْقِهِ فَهو ”الحَقُّ“ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّماواتُ والأرْضُ ابْتِداءً وبِهِ خُتِمَتِ الرِّسالَةُ انْتِهاءً لِتَطابُقِ الأوَّلِ والآخَرِ كَمالًا، حالَ كَوْنِكَ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾ وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا أجْرى اللَّهُ سُبْحانَهُ مِنَ الخِطابِ عَنْ أهْلِ الكِتابِ والعَرَبِ نَبَّأ رَدَّهم لِما أنْزَلَ أوَّلًا وآخِرًا ونَبَّأ ما افْتَرَوْهُ مِمّا لا شُبْهَةَ فِيهِ دَعَواهُ أعْرَضَ بِالخِطابِ عَنِ الجَمِيعِ وأقْبَلَ بِهِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ تَسْلِيَةً لَهُ وتَأْكِيدًا لِما أعْلَمَهُ بِهِ في أوَّلِ السُّورَةِ مِن أنَّ الأمْرَ مُجْرى عَلى (p-١٣٨)تَقْدِيرِهِ وقِسْمَتِهِ الخَلْقَ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ ومُنافِقٍ، فَأنْبَأهُ تَعالى أنَّهُ لَيْسَ مَضْمُونُ رِسالَتِهِ أنْ يَدْعُوَ الخَلْقَ إلى غَيْرِ ما جُبِلُوا عَلَيْهِ، وأنَّ مَضْمُونَ رِسالَتِهِ أنْ يَسْتَظْهِرَ خَبايا الأفْئِدَةِ والقُلُوبِ عَلى الألْسِنَةِ والأعْمالِ، فَيُبَشِّرَ المُهْتَدِيَ والثّابِتَ عَلى هُدًى سابِقٍ، ويُنْذِرَ الأبِيَّ والمُنْكِرَ لِما سَبَقَ إقْرارُهُ بِهِ قَبْلُ، فَعَمَّ بِذَلِكَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ مِنَ المُبَشِّرِينَ والمُنْذِرِينَ. انْتَهى. أيْ: فَلَيْسَ عَلَيْكَ إلّا ذَلِكَ فَبَشِّرْ وأنْذِرْ فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ ولَيْسَ عَلَيْكَ خَلْقُ الهِدايَةِ في قُلُوبِ أهْلِ النَّعِيمِ ﴿ولا تُسْألُ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ”أرْسَلْناكَ“ أوْ مِن ﴿بَشِيرًا﴾ ﴿عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ﴾ والمُرادُ بِهِمْ مَن ذُكِرَ في الآيَةِ السّابِقَةِ مِنَ الجَهَلَةِ ومَن قَبْلَهم، أيْ: عَنْ أعْمالِهِمْ لِتَذْهَبَ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ لِعَدَمِ إيمانِهِمْ، كَما قالَ تَعالى ﴿ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٤] أيْ فَحالُكَ مُسْتَوٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا وإلَيْهِمْ. لِأنَّكَ إنْ بَلَّغْتَهم جَمِيعَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ إلَيْهِمْ لَمْ نُحاسِبْكَ بِأعْمالِهِمْ، وإنْ تَرَكْتَ بَعْضَ ذَلِكَ مُحاسَنَةً لَهم لَمْ يُحِبُّوكَ ما دُمْتَ عَلى دِينِكَ فَأقْبِلْ عَلى أمْرِكَ ولا تُبالِ بِهِمْ، وهو مَعْنى قِراءَةِ نافِعٍ ولا تَسْألُ عَلى النَّهْيِ، أيْ (p-١٣٩)احْتَقِرْهم فَإنَّهم أقَلُّ مِن أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِمْ، فَبَلِّغْهم جَمِيعَ الأمْرِ فَإنَّهم لا يُحِبُّونَكَ إلّا إذا انْسَلَخْتَ مِمّا أنْتَ عَلَيْهِ؛ وفي الحُكْمِ بِكَوْنِهِمْ أصْحابَها إثْباتٌ لِما نَفَوْهُ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ﴾ [البقرة: ٨٠] ونَفْيٌ لِما خَصَّصُوا بِهِ أنْفُسَهم في قَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ١١١] الآيَةَ، والجَحْمُ قالَ الحَرالِّيُّ: انْضِمامُ الشَّيْءِ وعِظَمٌ فِيهِ، ومِن مَعْنى حُرُوفِهِ الحَجْمُ وهو التَّضامُّ وظُهُورُ المِقْدارِ إلّا أنَّ الحَجْمَ فِيما ظَهَرَ كالأجْسامِ والجَحْمُ - بِتَقْدِيمِ الجِيمِ - فِيما يَلْطُفُ كالصَّوْتِ والنّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب