الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا ونَذِيرًا ولا تُسْألُ عن أصْحابِ الجَحِيمِ﴾ ﴿وَلَنْ تَرْضى عنكَ اليَهُودُ ولا النَصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم قُلْ إنَّ هُدى اللهِ هو الهُدى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنَ ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ المَعْنى: "بَشِيرًا" لِمَن آمَنَ، و"نَذِيرًا" لِمَن كَفَرَ، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ "وَلا تَسْألْ" بِالجَزْمِ عَلى النَهْيِ، وفي ذَلِكَ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما لا تَسْألُ عَلى جِهَةِ التَعْظِيمِ لِحالِهِمْ مِنَ العَذابِ، كَما تَقُولُ: فُلانٌ لا تَسْألُ عنهُ، تَعْنِي أنَّهُ في نِهايَةٍ تُشْهِرُهُ مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ. والمَعْنى الثانِي رُوِيَ فِيهِ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: «لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوايَ؟" فَنَزَلَتْ: "وَلا تُسْألُ"»، وحَكى المَهْدَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: «لَيْتَ شِعْرِي أيُّ أبَوَيَّ أحْدَثَ مَوْتًا؟" فَنَزَلَتْ». قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا خَطَأٌ مِمَّنْ رَواهُ أو ظَنَّهُ، لِأنَّ أباهُ ماتَ وهو (p-٣٣٦)فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وقِيلَ: وهو ابْنُ شَهْرٍ، وقِيلَ: ابْنُ شَهْرَيْنِ، وماتَتْ أُمُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِ سِنِينَ مُنْصَرِفَةً بِهِ مِنَ المَدِينَةِ مِن زِيارَةِ أخْوالِهِ، فَهَذا مِمّا لا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ ﷺ. وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ "وَلا تَسْألُ" بِضَمِّ التاءِ واللامِ، وقَرَأ قَوْمٌ "وَلا تَسْألُ" بِفَتْحِ التاءِ وضَمِّ اللامِ، ويَتَّجِهُ في هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما الخَبَرُ، أنَّهُ لا يَسْألُ عنهُمْ، أو لا يَسْألُ هو عنهُمْ، والآخَرُ أنْ يُرادَ مَعْنى الحالِ كَأنَّهُ قالَ: وغَيْرُ مَسْؤُولٍ أو غَيْرُ سائِلٍ عنهُمْ، عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "وَما تَسْألُ"، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَلَنْ تَسْألَ" وهاتانِ القِراءَتانِ تُؤَيِّدانِ مَعْنى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ في غَيْرِهِما. والجَحِيمُ إحْدى طَبَقاتِ النارِ. ويُقالُ: رَضِيَ يَرْضى رِضى ورِضا ورِضْوانًا، وحُكِيَ رِضاءً مَمْدُودًا، وقالَ: "مِلَّتَهُمْ" وهُما مِلَّتانِ مُخْتَلِفَتانِ بِمَعْنى لَنْ تَرْضى اليَهُودُ حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، ولَنْ تَرْضى النَصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم فَجَمَعَهم إيجازًا لِأنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ. والمِلَّةُ: الطَرِيقَةُ، وقَدِ اخْتَصَّتِ اللَفْظَةُ بِالشَرائِعِ والدِينِ، وطَرِيقٌ مُمِلٌّ أيْ قَدْ أثَّرَ المَشْيُ فِيهِ. ورُوِيَ أنَّ سَبَبَ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اليَهُودَ والنَصارى طَلَبُوا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ الهُدْنَةَ، ووَعَدُوهُ أنْ يَتَّبِعُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ خِداعًا مِنهُمْ، فَأعْلَمَهُ اللهُ تَعالى أنَّ إعْطاءَ الهُدْنَةِ لا يَنْفَعُ عِنْدَهُمْ، وأطْلَعُهُ عَلى سِرِّ خِداعِهِمْ. (p-٣٣٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ هُدى اللهِ هو الهُدى﴾ أيْ ما أنْتَ عَلَيْهِ يا مُحَمَّدُ مِن هُدى اللهُ الَّذِي يَضَعُهُ في قَلْبِ مَن يَشاءُ هو الهُدى الحَقِيقِيُّ لا ما يَدَّعِيهِ هَؤُلاءِ، ثُمَّ قالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ﴾ الآيَةُ، فَهَذا شَرْطٌ خُوطِبَ بِهِ النَبِيُّ ﷺ، وأُمَّتُهُ مَعَهُ داخِلَةٌ فِيهِ. و"أهْواءُ": جَمْعُ هَوًى، ولَمّا كانَتْ مُخْتَلِفَةً جُمِعَتْ، ولَوْ حُمِلَ عَلى إفْرادِ المِلَّةِ لَقِيلَ: هَواهُمْ، والوَلِيُّ الَّذِي يَتَوَلّى الإصْلاحَ والحِياطَةَ والنَصْرَ والمَعُونَةَ، و"نَصِيرٌ" بِناءُ مُبالِغَةٍ في اسْمِ الفاعِلِ مِن نَصَرَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ الآيَةُ، "الَّذِينَ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، و﴿آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ صِلَتُهُ، وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ بِـ "الَّذِينَ" في هَذا المَوْضِعِ مَن أسْلَمَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. و"الكِتابَ" عَلى هَذا التَأْوِيلِ التَوْراةُ، و"آتَيْناهُمُ": مَعْناهُ أعْطَيْناهُمْ، وقالَ قَوْمٌ: هَذا مَخْصُوصٌ في الأرْبَعِينَ الَّذِينَ ورَدُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في السَفِينَةِ فَأثْنى اللهُ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِـ "الَّذِينَ" العُمُومُ في مُؤْمِنِي بَنِي إسْرائِيلَ والمُؤْمِنِينَ مِنَ العَرَبِ، ويَكُونُ "الكِتابُ" اسْمَ الجِنْسِ، و"يَتْلُونَهُ" مَعْناهُ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّباعِهِ بِامْتِثالِ الأمْرِ والنَهْيِ، وقِيلَ: "يَتْلُونَهُ": يَقْرَؤُونَهُ حَقَّ قِراءَتِهِ، وهَذا أيْضًا يَتَضَمَّنُ الِاتِّباعَ والِامْتِثالَ، و"يَتْلُونَهُ" -إذا أُرِيدَ بِـ "الَّذِينَ" الخُصُوصُ فِيمَنِ اهْتَدى- يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرُ الِابْتِداءِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "يَتْلُونَهُ" في مَوْضِعِ الحالِ، والخَبَرُ "أُولَئِكَ". وإذا أُرِيدَ بِـ "الَّذِينَ" العُمُومُ لَمْ يَكُنِ الخَبَرُ إلّا "أُولَئِكَ"، و"يَتْلُونَهُ" حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها، وفِيها الفائِدَةُ لِأنَّهُ لَوْ كانَ الخَبَرُ في "يَتْلُونَهُ" لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَتْلُو الكِتابَ ﴿حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾. و"حَقَّ" مَصْدَرٌ، والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ وهو بِمَعْنى أفْعَلَ، ولا يَجُوزُ إضافَتُهُ إلى (p-٣٣٨)واحِدٍ مُعَرَّفٍ، وإنَّما جازَتْ هُنا لِأنْ تُعَرَّفَ التِلاوَةُ بِإضافَتِها إلى الضَمِيرِ لَيْسَ بِتَعَرُّفٍ مَحْضٍ، وإنَّما هو بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ واحِدٌ أُمَّةٌ، ونَسِيجٌ وحْدَهُ، والضَمِيرُ في "بِهِ" عائِدٌ عَلى "الكِتابَ"، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، لِأنَّ مُتَّبِعِي التَوْراةِ يَجِدُونَهُ فِيها فَيُؤْمِنُونَ بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى الهُدى الَّذِي تَقَدَّمَ، وذَلِكَ أنَّهُ ذِكْرُ كَفّارِ اليَهُودِ والنَصارى في أوَّلِ الآيَةِ وحَذَّرَ رَسُولَهُ مِنَ اتِّباعِ أهْوائِهِمْ، وأعْلَمَهُ ( بِأنَّ هُدى اللهِ هو الهُدى ) الَّذِي أعْطاهُ وبَعَثَهُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أنَّ المُؤْمِنِينَ التالِينَ لِكِتابِ اللهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ بِذاكَ الهُدى المُقْتَدُونَ بِأنْوارِهِ، والضَمِيرُ في "يَكْفُرْ بِهِ" يُحْتَمَلُ مِنَ العَوْدِ ما ذُكِرَ في الأوَّلِ. و﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ ابْتِداءٌ وعِمادٌ وخَبَرٌ، أوِ ابْتِداءٌ وابْتِداءٌ وخَبَرٌ، والثانِي وخَبَرُهُ خَبَرُ الأوَّلِ. والخُسْرانُ: نُقْصانُ الحَظِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب