الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ- فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ")] البقرة: ١٣٣]، فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِّهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَهَا مِنْ إِنْكَارِهِمِ الْأَذَانَ، فَهُوَ جَامِعٌ لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَلِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ، وَالْمُتَنَاقِضُ دِينُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لَا دِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْكُلِّ. وَيَجُوزُ إدغام اللام في التاء لقربها منها. و "تَنْقِمُونَ" مَعْنَاهُ تَسْخَطُونَ، وَقِيلَ: تَكْرَهُونَ وَقِيلَ: تُنْكِرُونَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، يُقَالُ: نَقَمَ مِنْ كَذَا يَنْقِمُ وَنَقِمَ يَنْقَمُ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غضبوا وفي التنزيل "وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ" [[راجع ج ١٩ ص ٢٩٢.]]] البروج: ٨] وَيُقَالُ: نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ فَأَنَا نَاقِمٌ إِذَا عَتَبْتُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: مَا نَقِمْتُ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: نَقِمْتُ بِالْكَسْرِ لُغَةً، وَنَقَمْتُ الْأَمْرَ أَيْضًا وَنَقِمْتُهُ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ عَاقَبَهُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ النَّقِمَةُ، وَالْجَمْعُ نَقِمَاتٌ وَنَقِمَ مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَكَلِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ سَكَّنْتَ الْقَافَ وَنَقَلْتَ حَرَكَتَهَا إِلَى النُّونِ فَقُلْتَ: نِقْمَةٌ وَالْجَمْعُ نِقَمٌ، مِثْلُ نِعْمَةٍ وَنِعَمٍ، (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- تَنْقِمُونَ "وَ" تَنْقِمُونَ" بِمَعْنَى تَعِيبُونَ، أَيْ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا بِاللَّهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أَيْ فِي تَرْكِكُمُ الْإِيمَانَ، وَخُرُوجِكُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَلْ تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي عَفِيفٌ وَأَنَّكَ فَاجِرٌ. وَقِيلَ: أَيْ لِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تَنْقِمُونَ مِنَّا ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ﴾ أَيْ بِشَرٍّ مِنْ نَقْمِكُمْ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: بِشَرٍّ مَا تُرِيدُونَ لَنَا مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: مَا نَعْرِفُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ. "مَثُوبَةً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ وَأَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الثَّاءِ فَسُكِّنَتِ الْوَاوُ وَبَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ مَقُولَةٌ وَمَجُوزَةٌ وَمَضُوفَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ [[هو: أبو جندب الهزلي. والمضوفة: الامر يشق منه ويخاف.]]: وَكُنْتُ إِذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفَةٍ ... أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي وَقِيلَ: مَفْعُلَةٌ كَقَوْلِكَ مَكْرُمَةٌ وَمَعْقُلَةٌ. (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) "مِنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا قَالَ: "بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ" [[راجع ج ١٢ ص ٩٥.]]] الحج: ٧٢] وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ على الْبَدَلِ مِنْ شَرٍّ وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الطَّاغُوتِ [[راجع ج ٣ ص ٢٨١ وما بعدها.]]، أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَالْمَوْصُولُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ النَّخَعِيُّ "أنبئكم" بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: "عَبُدَ الطَّاغُوتِ" بِضَمِ الْبَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعُلَ كَعَضُدٍ فَهُوَ بِنَاءٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ كَيَقُظٍ وَنَدُسٍّ [[الندس (بفتح فضم أو فتح فكسر): الفهم الكيس.]] وَحَذُرٍ، وَأَصْلُهُ الصِّفَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ [[هو الذبياني، ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، قال الأصمعي: هي أربعون ميلا ليس فيها منزل، فهي مرت للوحش. والوشي في ألوان البهائم بياض في سواد في بياض- طاوي: ضامر. المصير: المصران. والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. والفرد والفرد (بفتح الراء وضمها): أي هو منقطع القرين لا مثيل له في جودته.]]: مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُوشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرُدِ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَنَصْبِهِ بِ"- جَعَلَ"، أَيْ جعل منم عَبُدًا لِلطَّاغُوتِ، وَأَضَافَ عَبُدَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَخَفَضَهُ. وَجَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ، وَجَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَعَطَفُوهُ عَلَى فعل ماضي وَهُوَ غَضِبَ وَلَعَنَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، أَوْ مَنْصُوبًا بِ"- جَعَلَ"، أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطَّاغُوتِ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي عَبَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ "مِنْ" دُونَ مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ "وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ" عَلَى الْمَعْنَى. ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ"، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبْدٍ كَمَا يُقَالُ: رَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَسَقْفٌ وَسُقُفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عِبَادٍ كَمَا يُقَالُ: مِثَالٌ وَمُثُلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبِيدٍ كَرَغِيفٍ ورغف، ويجوز أن يكون جمع عابد كَبَازِلٍ وَبُزُلٍ، وَالْمَعْنَى: وَخَدَمَ الطَّاغُوتَ. وَعِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا "وَعُبَّدَ الطَّاغُوتِ" [[قال ابن عطية: وهذه القراءة تتخرج على أنه أراد و (عبدا) منونا ثم حذف للالتقاء كما قال: (ولا ذاكر الله).]] جَعَلَهُ جَمْعَ عَابِدٍ كما يقال: شاهد وشهد وغائب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت لِلْمُبَالَغَةِ، جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَعَامِلٍ وَعُمَّالٍ، وَضَارِبٍ وَضُرَّابٍ. وَذَكَرَ مَحْبُوبٌ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ قَرَءُوا: (وَعُبَّادُ الطَّاغُوتِ) جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَقَائِمٍ وَقُيَّامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ عَبْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ [[راجع هامش ج ٤ ص ١ في ضبط (الرؤاسى).]] (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ. وَقَرَأَ عَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ بُرَيْدَةَ: [[في ابن عطية والشواذ قراءة ابن بريدة (بفتح الدال) و (ضم الدال) قراءة العقيلي ولعله يقرأ كالعقيلي في رواية أخرى عنه.]] (وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ يُؤَدِّي عَنْ جَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا (وَعُبِدَ [[قال ابن عطية: (بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء) اسم مفرد يراد به الجمع كحطم ولبد.]] الطَّاغُوتُ) وَعَنْهُ أَيْضًا] وَأُبَيٍّ [[[من ج وك وع وز.]] (وَعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ) عَلَى تَأْنِيثِ الجماعة، كما قال تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ) [[راجع ج ١٦ ص ٣٤٨.]]] الحجرات: ١٤] وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: (وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتَ) مِثْلَ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ وَجْهًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً﴾ لِأَنَّ مَكَانَهُمُ النَّارَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَرَّ فِي مَكَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا عَلَى قَوْلِكُمْ. النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا لَحِقَكُمْ مِنَ الشَّرِّ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افْتِضَاحًا، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليهود ... إن اليهود إخوة القرود
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب