الباحث القرآني

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ أَيْ سَوَّلَتْ وَسَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَشَجَّعَتْهُ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعٌ سَهْلٌ] لَهُ [[[من ج، و، ز، هـ.]] يُقَالُ: طَاعَ الشَّيْءُ يُطَوِّعُ أَيْ سَهُلَ وَانْقَادَ. وَطَوَّعَهُ فُلَانٌ لَهُ أَيْ سَهَّلَهُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: طَوَّعَتْ وَأَطَاعَتْ [[في ك: وطاوعت، وفي ز، و، هـ: وطاعت.]] وَاحِدٌ، يُقَالُ: طَاعَ لَهُ كَذَا إِذَا أَتَاهُ طَوْعًا. وَقِيلَ: طَاوَعَتْهُ نَفْسُهُ فِي قَتْلِ أَخِيهِ، فنزع الخافض فانتصب. وروي أنه جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُهُ فَجَاءَ إِبْلِيسُ بِطَائِرٍ- أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ- فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ليقتدي به قابيل ففعل، قال ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَجَدَهُ نَائِمًا فَشَدَخَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَوْرٍ- جَبَلٌ بِمَكَّةَ- قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءٍ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ. وَكَانَ لِهَابِيلَ يَوْمَ قَتَلَهُ قَابِيلُ عِشْرُونَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ قَابِيلَ كَانَ يَعْرِفُ الْقَتْلَ بِطَبْعِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ لَمْ يَرَ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِطَبْعِهِ أَنَّ النَّفْسَ فَانِيَةٌ وَيُمْكِنُ إِتْلَافُهَا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَتَلَهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فَقَعَدَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ إِذْ أَقْبَلَ غُرَابَانِ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ثُمَّ حَفَرَ له حفرة فدفنه، ففعل القاتل بأخيه كذلك. وَالسَّوْءَةُ يُرَادُ بِهَا الْعَوْرَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهَا جِيفَةُ الْمَقْتُولِ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ إِلَى أَرْضِ عَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ أَخِيكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ النَّارَ، فَانْصِبْ أَنْتَ أَيْضًا نَارًا تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ النَّارَ فِيمَا قِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ وَآدَمُ بِمَكَّةَ اشْتَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَطْعِمَةُ، وَحَمُضَتِ الْفَوَاكِهُ، وَمَلُحَتِ الْمِيَاهُ، وَاغْبَرَّتِ الْأَرْضُ، فَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، فَأَتَى الْهِنْدَ فَإِذَا قَابِيلُ قَدْ قَتَلَ هَابِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَابِيلَ هُوَ الَّذِي انْصَرَفَ إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَيْنَ هَابِيلُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي كَأَنَّكَ وَكَّلْتَنِي بِحِفْظِهِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَفَعَلْتَهَا؟! وَاللَّهِ إِنَّ دَمَهُ لَيُنَادِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ أَرْضًا شَرِبَتْ دَمَ هَابِيلَ. فَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ حِينِئِذٍ مَا شَرِبَتْ أَرْضٌ دَمًا. ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَقِيَ مِائَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ، حَتَّى جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: حَيَّاكَ اللَّهُ يَا آدَمُ وَبَيَّاكَ. فَقَالَ: مَا بَيَّاكَ؟ قال: أضحكك، قاله مُجَاهِدٌ [[مجاهد ساقط من ج، ز، و.]] وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ. وَلَمَّا مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً- وَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلِ بِخَمْسِ سِنِينَ وَلَدَتْ لَهُ شيثا، وَتَفْسِيرُهُ هِبَةُ اللَّهِ، أَيْ خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قَبْلَ قَتْلِ قَابِيلَ هَابِيلَ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ تَسْتَأْنِسُ بِآدَمَ [[في ك: بابن آدم.]]، فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ هَرَبُوا [[كذا في الأصول.]]، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بِالْهَوَاءِ، وَالْوُحُوشُ بالبرية، و] لحقت [[[من ك.]] السِّبَاعُ بِالْغِيَاضِ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا تَغَيَّرَتِ الحال قال: تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كُلُ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةً الْوَجْهُ الْمَلِيحُ فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَكَذَا هُوَ الشِّعْرُ بِنَصْبِ "بَشَاشَةً" وَكَفِّ التَّنْوِينِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قَالَ آدَمُ الشِّعْرَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، لَكِنْ لَمَّا قُتِلَ هَابِيلُ رَثَاهُ آدَمُ وَهُوَ سُرْيَانِيُّ، فَهِيَ مَرْثِيَّةٌ بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّةِ أَوْصَى بِهَا إِلَى ابْنِهِ شِيثَ وَقَالَ: إِنَّكَ وَصِيِّي فَاحْفَظْ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ لِيُتَوَارَثَ، فَحُفِظَتْ مِنْهُ إِلَى زَمَانِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، فَتَرْجَمَ عَنْهُ يَعْرُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ [[في ج، ز، و، هـ: بالعبرانية وهو خطأ.]] وَجَعَلَهُ شِعْرًا [[قال الألوسي: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والاولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. وقال أبو حيان في البحر: ويروى بنصب (بشاشة) من غير تنوين على التمييز ورفع (الوجه المليح) وليس بلحن.]]. الثَّانِيَةُ- رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ فَقَالَ: (يَوْمُ الدَّمِ فِيهِ حَاضَتْ حَوَّاءُ وَفِيهِ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ). وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ). وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ عَلَى إِبْلِيسَ كِفْلٌ مِنْ مَعْصِيَةِ كُلِّ مَنْ عَصَى بِالسُّجُودِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَى بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، قَالَ ﷺ: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ ﷺ:) إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ (. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ، وَنَصٌّ صَحِيحٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَتُبِ الْفَاعِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ فِي أَكْلِ ما نهى عنه، ولا يكون عليه شي مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَصَى بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عنه ولا شربه ممن بَعْدِهِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ آدَمَ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وتاب الله عليه، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَجْنِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: فَإِنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٣٠٦، وهذا هو اللائق بالعصمة النبوية.]] وَالنَّاسِي غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُؤَاخَذٍ. الثَّالِثَةُ- تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْبَيَانَ عَنْ حَالِ الْحَاسِدِ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ حَسَدُهُ عَلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ بِقَتْلِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ قَرَابَةً، وَأَمَسُّهُ بِهِ رَحِمًا، وَأَوْلَاهُمْ بِالْحُنُوِّ عَلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَذِيَّةِ عَنْهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ أَيْ مِمَّنْ خَسِرَ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ، عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ، وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُسْرَانِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ وَإِلَّا فَالْخُسْرَانُ يَعُمُّ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى "فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ" أَيْ فِي الدنيا. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب