﴿إِنِّیۤ أُرِیدُ أَن تَبُوۤأَ بِإِثۡمِی وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلظَّـٰلِمِینَ ٢٩ فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِیهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ ٣٠﴾ [المائدة ٢٩-٣٠]
﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ فَتَكُونَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الإرادَةَ هُنا مَجازٌ لا مَحَبَّةُ إيثارِ شَهْوَةٍ، وإنَّما هي تَخْيِيرٌ في شَرَّيْنِ كَما تَقُولُ العَرَبُ في الشَّرِّ خِيارٌ؛ والمَعْنى: إنْ قَتَلْتَنِي؛ وسَبَقَ بِذَلِكَ قَدَرٌ، فاخْتِيارِي أنْ أكُونَ مَظْلُومًا يَنْتَصِرُ اللَّهُ لِي في الآخِرَةِ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الإرادَةَ هُنا حَقِيقَةٌ لا مَجازٌ، لا يُقالُ: كَيْفَ جازَ أنْ يُرِيدَ شَقاوَةَ أخِيهِ وتَعْذِيبَهُ بِالنّارِ ؟ لِأنَّ جَزاءَ الظّالِمِ حَسَنٌ أنْ يُرادَ، وإذا جازَ أنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ تَعالى جازَ أنْ يُرِيدَهُ العَبْدُ لِأنَّهُ لا يُرِيدُ إلّا ما هو حَسَنٌ، قالَهُالزَّمَخْشَرِيُّ، وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: إنَّما وقَعَتِ الإرادَةُ بَعْدَ ما بَسَطَ يَدَهُ لِلْقَتْلِ وهو مُسْتَقْبَحٌ، فَصارَ بِذَلِكَ كافِرًا؛ لِأنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، والكافِرُ يُرِيدُ أنْ يُرادَ بِهِ الشَّرُّ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ لَمّا قالَ: لَأقْتُلَنَّكَ اسْتَوْجَبَ النّارَ بِما تَقَدَّمَ في عِلْمِ اللَّهِ، وعَلى المُؤْمِنِ أنْ يُرِيدَ ما أرادَ اللَّهُ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُما آثِمانِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ وقَتادَةُ: تَحْمِلُ إثْمَ قَتْلِي، وإثْمَكَ الَّذِي كانَ مِنكَ قَبْلَ قَتْلِي، فَحُذِفَ المُضافُ؛ هَذا قَوْلُ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ. وقالَ الزَّجّاجُ: بِإثْمِ قَتْلِي وإثْمِكَ الَّذِي مِن أجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبانُكَ، وهو راجِعٌ في المَعْنى إلى ما قَبْلَهُ. وقِيلَ: المَعْنى: بِإثْمِي أنْ لَوْ قاتَلْتُكَ وقَتَلْتُكَ، وإثْمِ نَفْسِكَ في قِتالِي وقَتْلِي، وهَذا هو الإثْمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ، ﷺ:
«إذا التَقى المُسْلِمانِ بِسَيْفَيْهِما فالقاتِلُ والمَقْتُولُ في النّارِ " . قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذا القاتِلُ، فَما بالُ المَقْتُولِ ؟ قالَ: إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ» فَكَأنَّ هابِيلَ أرادَ أنِّي لَسْتُ بِحَرِيصٍ عَلى قَتْلِكَ، فالإثْمُ الَّذِي كانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلى قَتْلِكَ أُرِيدُ أنْ تَحْمِلَهُ أنْتَ مَعَ إثْمِكَ في قَتْلِي.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ يَحْتَمِلُ إثْمَ قَتْلِهِ لَهُ
﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] ؟ (قُلْتُ): المُرادُ بِمِثْلِ إثْمِي عَلى الِاتِّساعِ في الكَلامِ كَما تَقُولُ: قَرَأْتُ قِراءَةَ فُلانٍ، وكَتَبْتُ كِتابَتَهُ، تُرِيدُ المِثْلَ وهو اتِّساعٌ فاشٍ مُسْتَفِيضٌ لا يَكادُ يُسْتَعْمَلُ غَيْرُهُ. (فَإنْ قُلْتَ): فَحِينَ كَفَّ هابِيلُ عَنْ قَتْلِ أخِيهِ واسْتَسْلَمَ وتَحَرَّجَ عَمّا كانَ مَحْظُورًا في شَرِيعَتِهِ مِنَ الدَّفْعِ، فَأيْنَ الإثْمُ حَتّى يَتَحَمَّلَ أخُوهُ مِثْلَهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الإثْمانِ ؟ (قُلْتُ): هو مُقَدَّرٌ؛ فَهو يَتَحَمَّلُ مِثْلَ الإثْمِ المُقَدَّرِ، كَأنَّهُ قالَ: إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِمِثْلِ إثْمِي لَوْ بَسَطْتُ إلَيْكَ يَدِي. انْتَهى. وقِيلَ: بِإثْمِي، الَّذِي يَخْتَصُّ بِي فِيما فَرَطَ لِي؛ أيْ: يُؤْخَذُ مِن سَيِّئاتِي فَتُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي، وتَبُوءُ بِإثْمِكَ في قَتْلِي. ويُعَضِّدُ هَذا قَوْلُ النَّبِيِّ، ﷺ:
«يُؤْتى بِالظّالِمِ والمَظْلُومِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُؤْخَذُ مِن حَسَناتِ الظّالِمِ فَيُزادُ في حَسَناتِ المَظْلُومِ حَتّى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ المَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ» وتَلَخَّصَ مِن قَوْلِهِ
﴿بِإثْمِي وإثْمِكَ﴾ وجْهانِ؛ أحَدُهُما: بِإثْمِي اللّاحِقِ لِي؛ أيْ: بِمِثْلِ إثْمِي اللّاحِقِ لِي عَلى تَقْدِيرِ وُقُوعِ قَتْلِي لَكَ، وإثْمِكَ اللّاحِقِ لَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي. والثّانِي: بِإثْمِي اللّاحِقِ لَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي، وأضافَهُ إلَيْهِ لَمّا كانَ سَبَبًا لَهُ، وإثْمِكَ اللّاحِقِ لَكَ قَبْلَ قَتْلِي. وهَذانِ الوَجْهانِ عَلى إثْباتِ الإرادَةِ المَجازِيَّةِ والحَقِيقِيَّةِ. وقِيلَ المَعْنى عَلى النَّفْيِ؛ التَّقْدِيرُ: إنِّي أُرِيدُ أنْ لا تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ كَقَوْلِهِ:
﴿رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] أيْ: أنْ لا تَمِيدَ، و
﴿أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ٤٤]؛ أيْ: لا تَضِلُّوا، فَحَذَفَ لا. وهَذا التَّأْوِيلُ فِرارٌ مِن إثْباتِ إرادَةِ الشَّرِّ لِأخِيهِ المُؤْمِنِ، وضَعَّفَ القُرْطُبِيُّ هَذا الوَجْهَ بِقَوْلِهِ، ﷺ:
«لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها، لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ إثْمَ القاتِلِ حاصِلٌ. انْتَهى. ولا يُضَعَّفُ هَذا القَوْلُ بِما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ، لِأنَّ قائِلَ هَذا لا يَلْزَمُ مِن نَفْيِ إرادَتِهِ القَتْلَ أنْ لا يَقَعَ القَتْلُ، بَلْ قَدْ لا يُرِيدُهُ ويَقَعُ. ونَصَرَ تَأْوِيلَ النَّفْيِالماوَرْدِيُّ وقالَ: إنَّ القَتْلَ قَبِيحٌ، وإرادَةُ القَبِيحِ قَبِيحَةٌ، ومِنَ الأنْبِياءِ أقْبَحُ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ مَن قَرَأ (أنّى أُرِيدُ) ؟ أيْ: كَيْفَ أُرِيدُ ؟ ومَعْناهُ اسْتِبْعادُ الإرادَةِ ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذا الِاسْتِفْهامَ عَلى جِهَةِ الإنْكارِ؛ أيْ: أنّى، فَحَذَفَ الهَمْزَةَ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، لِأنَّ إرادَةَ القَتْلِ مَعْصِيَةٌ؛ حَكاهُ القُشَيْرِيُّ. انْتَهى. وهَذا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ ظاهِرِ اللَّفْظِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وقَدْ تَقَدَّمَ إيضاحُ الإرادَةِ، وجَوازُ وُرُودِها هُنا، واسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ:
﴿فَتَكُونَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾، عَلى أنَّ قابِيلَ كانَ كافِرًا لِأنَّ هَذا اللَّفْظَ إنَّما ورَدَ في القُرْآنِ في الكُفّارِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، ولا يَقْوى هَذا الِاسْتِدْلالُ لِأنَّهُ يُكَنّى عَنِ المُقامِ في النّارِ مُدَّةً بِالصُّحْبَةِ.
﴿وذَلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ﴾ أيْ: وكَيْنُونَتُكَ مِن أصْحابِ النّارِ جَزاؤُكَ، لِأنَّكَ ظالِمٌ في قَتْلِي. ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
﴿الظّالِمِينَ﴾، عَلى السَّبَبِ المُوجِبِ لِلْقَتْلِ، وأنَّهُ قَتْلٌ بِظُلْمٍ لا بِحَقٍّ. والظّاهِرُ أنَّهُ مِن كَلامِ هابِيلَ، نَبَّهَهُ عَلى العِلَّةِ لِيَرْتَدِعَ. وقِيلَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، لا حِكايَةُ كَلامِ هابِيلَ، بَلْ إخْبارٌ مِنهُ تَعالى لِلرَّسُولِ، ﷺ .
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَعَثَتْهُ عَلى قَتْلِهِ. وقالَ أيْضًا هو ومُجاهِدٌ: شَجَّعَتْهُ. وقالَ قَتادَةُ: زَيَّنَتْ لَهُ. وقالَ الأخْفَشِ: رَخَّصَتْ. وقالَ المُبَرِّدُ: مِنَ الطَّوْعِ، والعَرَبُ تَقُولُ: طاعَ لَهُ كَذا؛ أيْ: أتاهُ طَوْعًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تابَعَتْهُ وانْقادَتْ لَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وسَّعَتْهُ لَهُ ويَسَّرَتْهُ، مِن طاعَ لَهُ المَرْتَعُ إذا اتَّسَعَ. وهَذِهِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ في المَعْنى، وهو فِعْلٌ مِنَ الطَّوْعِ وهو الِانْقِيادُ، كَأنَّ القَتْلَ كانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مُتَعاصِيًا. وأصْلُهُ: طاعَ لَهُ قَتْلُ أخِيهِ؛ أيِ: انْقادَ لَهُ وسَهُلَ، ثُمَّ عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ فَصارَ الفاعِلُ مَفْعُولًا؛ والمَعْنى: أنَّ القَتْلَ في نَفْسِهِ مُسْتَصْعَبٌ عَظِيمٌ عَلى النُّفُوسِ، فَرَدَّتْهُ هَذِهِ النَّفْسُ اللَّحُوحُ الأمّارَةُ بِالسُّوءِ طائِعًا مُنْقادًا حَتّى أوْقَعَهُ صاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ.
وقَرَأ الحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والجَرّاحُ، والحَسَنُ بْنُ عِمْرانَ، وأبُو واقِدٍ: (فَطاوَعَتْهُ)، فَيَكُونُ فاعَلَ، فِيهِ الِاشْتِراكُ، نَحْوَ: ضارَبْتُ زَيْدًا، كَأنَّ القَتْلَ يَدْعُوهُ بِسَبَبِ الحَسَدِ إصابَةَ قابِيلَ، أوْ كَأنَّ النَّفْسَ تَأْبى ذَلِكَ ويَصْعُبُ عَلَيْها، وكُلٌّ مِنهُما يُرِيدُ أنْ يُطِيعَهُ الآخَرُ، إلى أنْ تَفاقَمَ الأمْرُ وطاوَعَتِ النَّفْسُ القَتْلَ فَوافَقَتْهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وجْهانِ: أنْ يَكُونَ مِمّا جاءَ مِن فاعَلَ بِمَعْنى فَعَلَ، وأنْ يُرادَ أنْ قَتَلَ أخِيهِ، كَأنَّهُ دَعا نَفْسَهُ إلى الإقْدامِ عَلَيْهِ فَطاوَعَتْهُ ولَمْ تَمْتَنِعْ، و(لَهُ) لِزِيادَةِ الرَّبْطِ؛ كَقَوْلِكَ: حَفِظْتُ لِزَيْدٍ مالَهُ. انْتَهى. فَأمّا الوَجْهُ الثّانِي فَهو مُوافِقٌ لِما ذَكَرْناهُ، وأمّا الوَجْهُ الأوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: ضاعَفْتُ وضَعِفْتُ، مِثْلَ: ناعَمْتُ ونَعِمْتُ. وقالَ: فَجاءُوا بِهِ عَلى مِثالِ عاقَبْتُهُ، وقالَ: وقَدْ يَجِيءُ فاعَلْتُ لا يُرِيدُ بِها عَمَلَ اثْنَيْنِ، ولَكِنَّهم بَنَوْا عَلَيْهِ الفِعْلَ كَما بَنَوْهُ عَلى أفْعَلْتُ، وذَكَرَ أمْثِلَةً مِنها عافاهُ اللَّهُ. وهَذا المَعْنى وهو أنَّ فاعَلَ بِمَعْنى فَعَلَ، أغْفَلَهُ بَعْضُ المُصَنِّفِينَ مِن أصْحابِنا في التَّصْرِيفِ: كابْنِ عُصْفُورٍ، وابْنِ مالِكٍ، وناهِيكَ بِهِما جَمْعًا واطِّلاعًا، فَلَمْ يُذْكَرْ أنَّ فاعَلَ يَجِيءُ بِمَعْنى فَعَلَ، ولا فَعَلَ بِمَعْنى فاعَلَ. وقَوْلُهُ: و(لَهُ) لِزِيادَةِ الرَّبْطِ؛ يَعْنِي: في قَوْلِهِ
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾؛ يَعْنِي: أنَّهُ لَوْ جاءَ فَطَوَّعَتْ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ لَكانَ كَلامًا تامًّا جارِيًا عَلى كَلامِ العَرَبِ، وإنَّما جِيءَ بِهِ عَلى سَبِيلِ زِيادَةِ الرَّبْطِ لِلْكَلامِ، إذِ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. كَما إنَّكَ لَوْ قُلْتَ: حَفِظْتُ مالَ زَيْدٍ، كانَ كَلامًا تامًّا.
﴿فَقَتَلَهُ﴾ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ قَتَلَهُ وتَكَلَّمَ المُفَسِّرُونَ في أشْياءَ مِن كَيْفِيَّتِهِ، ومَكانِ قَتْلِهِ، وعُمْرِهِ حِينَ قُتِلَ، ولَهم في ذَلِكَ اخْتِلافٌ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ.
﴿فَأصْبَحَ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ أصْبَحَ: بِمَعْنى صارَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُقِيمَ بَعْضُ الزَّمانِ مَقامَ كُلِّهِ، وخُصَّ الصَّباحُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ بَدْءُ النَّهارِ والِانْبِعاثِ إلى الأُمُورِ ومَظِنَّةُ النَّشاطِ، ومِنهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ:
أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا، وقَوْلُ سَعْدٍ: ثُمَّ أصْبَحَتْ بَنُو سَعْدٍ تُعَزِّزُنِي عَلى الإسْلامِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمالِ العَرَبِ لِما ذَكَرْناهُ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ مِن تَعْلِيلِ كَوْنِ (أصْبَحَ) عِبارَةً عَنْ جَمِيعِ أوْقاتِهِ، وأُقِيمَ بَعْضُ الزَّمانِ مَقامَ كُلِّهِ بِكَوْنِ الصَّباحِ خُصَّ بِذَلِكَ لِأنَّهُ بَدْءُ النَّهارِ - لَيْسَ بِجَيِّدٍ. ألا تَرى أنَّهم جَعَلُوا أضْحى، وظَلَّ، وأمْسى، وباتَ؛ بِمَعْنى: صارَ، ولَيْسَ مِنها شَيْءٌ بَدْءَ النَّهارِ ؟ فَكَما جَرَتْ هَذِهِ مَجْرى صارَ كَذَلِكَ أصْبَحَ، لا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَها ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خَسِرَ في الدُّنْيا بِإسْخاطِ والِدَيْهِ وبَقائِهِ بِغَيْرِ أخٍ، وفي الآخِرَةِ بِإسْخاطِ رَبِّهِ وصَيْرُورَتِهِ إلى النّارِ. وقالَ الزَّجّاجُ: مِنَ الخاسِرِينَ لِلْحَسَناتِ. وقالَ القاضِي أبُو يَعْلى: مِنَ الخاسِرِينَ أنْفُسَهم بِإهْلاكِهِمْ إيّاها. وقالَ مُجاهِدٌ: خُسْرانُهُ أنْ عُلِّقَتْ إحْدى رِجْلَيِ القاتِلِ لِساقِها إلى فَخْذِها مِن يَوْمِئِذٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ووَجْهُهُ إلى الشَّمْسِ حَيْثُ ما دارَتْ، عَلَيْهِ في الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِن نارٍ وعَلَيْهِ في الشِّتاءِ حَظِيرَةٌ مِن ثَلْجٍ. قالَ القُرْطُبِيُّ: ولَعَلَّ هَذا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلى القَوْلِ بِأنَّهُ عاصٍ لا كافِرٌ، فَيَكُونُ خُسْرانَهُ في الدُّنْيا. وقِيلَ: مِنَ الخاسِرِينَ بِاسْوِدادِ وجْهِهِ وكُفْرِهِ بِاسْتِحْلالِهِ ما حُرِّمَ مِن قَتْلِ أخِيهِ، وفي الآخِرَةِ بِعَذابِ النّارِ. وثَبَتَ في الحَدِيثِ: «ما قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنها، وذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» . ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: إنّا لَنَجِدُ ابْنَ آدَمَ القاتِلَ يُقاسِمُ أهْلَ النّارِ قِسْمَةً صَحِيحَةً في العَذابِ عَلَيْهِ شِطْرُ عَذابِهِمْ.
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ في الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخِيهِ﴾ [المائدة: ٣١] رُوِيَ أنَّهُ أوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ عَلى وجْهِ الأرْضِ، ولَمّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالعَراءِ لا يَدْرِي ما يَصْنَعُ بِهِ، فَخافَ السِّباعَ فَحَمَلَهُ في جِرابٍ عَلى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتّى أرْوَحَ، وعَكَفَتْ عَلَيْهِ السِّباعُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابَيْنِ فاقْتَتَلا، فَقَتَلَ أحَدُهُما الآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنقارِهِ ورِجْلَيْهِ ثُمَّ ألْقاهُ في الحُفْرَةِ فَقالَ: يا ويْلَتى ! أعْجَزْتُ. وقِيلَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وقِيلَ: طَلَبَ في ثانِي يَوْمٍ إخْفاءَ قَتْلِ أخِيهِ فَلَمْ يَدْرِ ما يَصْنَعُ. وقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرابًا إلى غُرابٍ مَيِّتٍ، فَجَعَلَ يَبْحَثُ في الأرْضِ ويُلْقِي التُّرابَ عَلى الغُرابِ المَيِّتِ. وقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرابًا واحِدًا فَجَعَلَ يَبْحَثُ ويُلْقِي التُّرابَ عَلى هابِيلَ. ورُوِيَ أنَّهُ أوَّلُ مَيِّتٍ ماتَ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وكَذَلِكَ جَهِلَ سُنَّةَ المُواراةِ. والظّاهِرُ أنَّهُ غُرابٌ بَعَثَهُ اللَّهُ يَبْحَثُ في الأرْضِ لِيُرِيَ قابِيلَ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ هابِيلَ، فاسْتَفادَ قابِيلُ بِبَحْثِهِ في الأرْضِ أنْ يَبْحَثَ هو في الأرْضِ فَيَسْتُرَ فِيهِ أخاهُ، والمُرادُ بِالسَّوْءَةِ هُنا قِيلَ: العَوْرَةُ؛ وخُصَّتْ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ المُرادَ مُواراةُ جَمِيعِ الجَسَدِ لِلِاهْتِمامِ بِها، ولِأنَّ سَتْرَها أوْكَدُ. وقِيلَ: جَمِيعُ جِيفَتِهِ. قِيلَ: فَإنَّ المَيِّتَ كُلَّهُ عَوْرَةٌ، ولِذَلِكَ كُفِّنَ بِالأكْفانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بِالسَّوْءَةِ هَذِهِ الحالَةُ الَّتِي تَسُوءُ النّاظِرَ بِمَجْمُوعِها، وأُضِيفَتْ إلى المَقْتُولِ مِن حَيْثُ نَزَلَتْ بِهِ النّازِلَةُ، لا عَلى جِهَةِ الغَضِّ مِنهُ، بَلِ الغَضُّ لاحِقٌ لِلْقاتِلِ وهو الَّذِي أتى بِالسَّوْءَةِ. انْتَهى. والسَّوْءَةُ الفَضِيحَةُ لِقُبْحِها؛ قالَ الشّاعِرُ:
يَــا لَقَـوْمِـي لِلسَّــوْءَةِ السَّــوْءاءِ
أيْ: لِلْفَضِيحَةِ العَظِيمَةِ. قالُوا: ويَحْتَمِلُ إنْ صَحَّ أنَّهُ قَتَلَ غُرابٌ غُرابًا أوْ كانَ مَيِّتًا، أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في (أخِيهِ) عائِدًا عَلى الغُرابِ؛ أيْ: لِيُرِيَ قابِيلَ كَيْفَ يُوارِي الغُرابُ سَوْءَةَ أخِيهِ وهو الغُرابُ المَيِّتُ، فَيَتَعَلَّمَ مِنهُ بِالأداةِ كَيْفَ يُوارِي قابِيلُ سَوْءَةَ هابِيلَ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. لِأنَّ الغُرابَ لا تَظْهَرُ لَهُ سَوْءَةٌ، والظّاهِرُ أنَّ الإراءَةَ هُنا مِن جَعْلِهِ يَرى؛ أيْ: يُبْصِرُ، وعَلَّقَ
﴿لِيُرِيَهُ﴾ [المائدة: ٣١] عَنِ المَفْعُولِ الثّانِي بِالجُمْلَةِ الَّتِي فِيها الِاسْتِفْهامُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، و(كَيْفَ) مَعْمُولَةٌ لِـ (يُوارِيَ) و(لِيُرِيَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَبْحَثُ) . ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ:
﴿فَبَعَثَ﴾ [المائدة: ٣١]، وضَمِيرُ الفاعِلِ في
﴿لِيُرِيَهُ﴾ [المائدة: ٣١] الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، لِأنَّ الإراءَةَ حَقِيقَةٌ هي مِنَ اللَّهِ، إذْ لَيْسَ لِلْغُرابِ قَصْدُ الإراءَةِ وإرادَتُها. ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى الغُرابِ؛ أيْ: لِيُرِيَهُ الغُرابُ؛ أيْ: لِيُعَلِّمَهُ لِأنَّهُ لَمّا كانَ سَبَبَ تَعْلِيمِهِ فَكَأنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، ويَظْهَرُ أنَّ الحِكْمَةَ في أنْ كانَ هَذا المَبْعُوثُ غُرابًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ ومِنَ الطُّيُورِ - كَوْنُهُ يُتَشاءَمُ بِهِ في الفِراقِ والِاغْتِرابِ، وذَلِكَ مُناسِبٌ لِهَذِهِ القِصَّةِ. وقِيلَ:
﴿فَبَعَثَ﴾ [المائدة: ٣١]، جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْها المَعْنى، تَقْدِيرُهُ: فَجَهِلَ مُواراتَهُ فَبَعَثَ.