الباحث القرآني

فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَرَاكِزِهِمْ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ- خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَةِ فلا يصرف إليهم شي، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَجُورُ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَتَّهِمُوهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَلِ السَّبَبُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ طَلَائِعَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ ثُمَّ غَنِمَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، فَقَسَمَ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَقْسِمْ لِلطَّلَائِعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِتَابًا: "وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ" أَيْ يَقْسِمُ لِبَعْضٍ وَيَتْرُكُ بَعْضًا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم: نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ فِي الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ: لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ أَخَذَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُؤْمِنِينَ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُودَ كَانَ سَيْفًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُخَرَّجُ عَلَى قِرَاءَةِ "يَغُلَّ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ. وَرَوَى أَبُو صَخْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ "وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ" قَالَ: تَقُولُ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِيهِ مَنْقُولَةٌ، أَيْ وَمَا كَانَ نَبِيٌّ لِيَغُلَّ، كَقَوْلِهِ: ﴿مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ﴾ [مريم: ٣٥] [[راجع ج ١١ ص ١٠٥.]]. أي ما كان الله ليتخذ ولدا. وقرى "يُغَلِّ" بِضَمِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: [لَمْ نَسْمَعْ فِي الْمَغْنَمِ إِلَّا غَلَّ غلولا، وقرى [[زيادة عن الصحاح واللسان.]] و [ما كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَيُغَلَّ. قَالَ: فَمَعْنَى "يَغُلَّ" يَخُونُ، وَمَعْنَى "يُغَلَّ" يَخُونُ، وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُخَانُ أَيْ يُؤْخَذُ مِنْ غَنِيمَتِهِ، وَالْآخَرُ يُخَوَّنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْغُلُولِ: ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي خَفَاءٍ فَقَدْ غَلَّ يَغُلُّ غُلُولًا: قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِيَ مَغْلُولَةٌ مِنْهَا، أَيْ مَمْنُوعَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُلُولُ مِنَ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً، وَلَا نَرَاهُ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَا مِنَ الْحِقْدِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يُغِلُّ، وَمِنَ الْحِقْدِ: غَلَّ يَغِلُّ بِالْكَسْرِ، وَمِنَ الْغُلُولِ: غَلَّ يَغُلُّ بِالضَّمِّ. وَغَلَّ الْبَعِيرُ أَيْضًا [يَغَلُّ غَلَّةً] [[زيادة عن كتب اللغة.]] إِذَا لَمْ يَقْضِ رِيَّهُ وَأَغَلَّ الرَّجُلُ خَانَ، قَالَ النَّمِرُ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا حَمْزَةَ [[كذا في الأصول واللسان، وفى الصحاح للجوهري "جمرة" بالجيم المعجمة والراء.]] ابْنَةَ نَوْفَلٍ ... جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ) أَيْ لَا خِيَانَةَ وَلَا سَرِقَةَ، وَيُقَالُ: لَا رِشْوَةَ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ. وَقَالَ ﷺ: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ) مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ [[أي بفتح الياء.]] فَهُوَ مِنَ الضِّغْنِ. وَغَلَّ [دخل] [[زيادة عن كتب اللغة.]] يتعدى ولا يتعدى، يقال: غَلَّ فُلَانٌ الْمَفَاوِزَ، أَيْ دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَهَا. وَغَلَّ مِنَ الْمَغْنَمِ غُلُولًا، أَيْ خَانَ. وَغَلَّ الْمَاءَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ إِذَا جَرَى فِيهَا، يَغُلُّ بِالضَّمِّ [[أي بضم الغين.]] فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْغُلُولُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَغْنَمِ شَيْئًا يَسْتُرُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ الْمَاءُ فِي الشَّجَرِ إِذَا تَخَلَّلَهَا. وَالْغَلَلُ: الْمَاءُ الْجَارِي فِي أُصُولِ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ بِالْأَشْجَارِ، كَمَا قَالَ [[البيت للحويدرة، كما في اللسان.]]: لَعِبَ السُّيُولُ بِهِ فَأَصْبَحَ مَاؤُهُ ... غَلَلًا يُقَطِّعُ فِي أُصُولِ الْخِرْوَعِ وَمِنْهُ الْغِلَالَةُ لِلثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ. وَالْغَالُّ: أَرْضٌ مُطْمَئِنَّةٌ ذَاتُ شَجَرٍ. وَمَنَابِتُ السَّلْمِ [[في ب ود: الساج.]] وَالطَّلْحِ يُقَالُ لَهَا: غَالٌّ. وَالْغَالُّ أَيْضًا نَبْتٌ، وَالْجَمْعُ غُلَّانُ بِالضَّمِّ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ مَعْنَى "يَغُلَّ" يُوجَدُ غَالًّا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا. فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى "يَغُلَّ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ. وَمَعْنَى "يَغُلُّ" عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلَّهُ، أَيْ يَخُونُهُ فِي الْغَنِيمَةِ. فَالْآيَةُ فِي مَعْنَى نَهْيِ النَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْغَنَائِمِ، وَالتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَانَ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ مَعَهُ أَشَدُّ وَقْعًا وَأَعْظَمُ وِزْرًا، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ تَعْظُمُ بِحَضْرَتِهِ لِتَعَيُّنِ تَوْقِيرِهِ. وَالْوُلَاةُ إِنَّمَا هُمْ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَهُمْ حَظُّهُمْ مِنَ التَّوْقِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَى "يَغُلَّ" أَيْ مَا غَلَّ نَبِيٌّ قَطُّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ النَّهْيَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَرَقَبَتِهِ، مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَلِهِ، وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ، وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَهَذِهِ الْفَضِيحَةُ الَّتِي يُوقِعُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَالِّ نَظِيرُ الْفَضِيحَةِ الَّتِي تُوقَعُ بِالْغَادِرِ، فِي أَنْ يُنْصَبَ لَهُ لِوَاءٌ عِنْدَ إِسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ. وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمُعَاقَبَاتِ حَسْبَمَا يَعْهَدُهُ الْبَشَرُ وَيَفْهَمُونَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ ... رُفِعَ اللِّوَاءُ لَنَا بِهَا في المجمع وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَرْفَعُ لِلْغَادِرِ لِوَاءً، وَكَذَلِكَ يُطَافُ بِالْجَانِي مَعَ جِنَايَتِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: (لَا ألفين أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ [[حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل، والثغاء: صياح الغنم.]] فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ [[الرقاع (بالكسر جمع رقعة بالضم) وهى التي تكتب. وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة. وخفوقها: حركتها.]] تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ [[الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.]] فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ [[في سنن أبى داود: "عن عبد الله بن عمرو"، وكذا في مسند الامام أحمد بن حنبل.]] بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ وَيَقْسِمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ النِّدَاءِ بِزِمَامٍ مِنَ الشَّعْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ: (أَسْمَعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فما منعك أن تجئ به)؟ فاعتذر إليه. فقال: (كلا [[في سنن أبى داود "كن أنت تجئ به".]] أنت تجئ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ). قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَرَادَ يُوَافِي بِوِزْرِ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الانعام: ٣١] [[راجع ج ٦ ص ٣١٤.]]. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ، أَيْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ شَهَّرَ اللَّهُ أَمْرَهُ كَمَا يُشَهَّرُ لَوْ حَمَلَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ. قُلْتُ: وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ، وَإِذَا دَارَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَالْحَقِيقَةُ الْأَصْلُ كَمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بالحقيقة، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا يُمَثَّلُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ، فَيَهْبِطُ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ سَقَطَ عَنْهُ إِلَى أَسْفَلِ جَهَنَّمَ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ، لَا يَزَالُ هَكَذَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ. وَيُقَالُ "يَأْتِ بِما غَلَّ" يَعْنِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِلْكَ الْخِيَانَةُ وَالْغُلُولُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْغُلُولُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ. وَقَدْ قَالَ ﷺ فِي مُدْعِمٍ [[مدعم: عبد أسود أهداه رفاعة بن زيد لرسول اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ.]]: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا) قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ). أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ. فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ غَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ الْغُلُولِ وَتَعْظِيمِ الذَّنْبِ فِيهِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقِصَاصِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ صَاحَبَهُ فِي الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُهُ: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) مِثْلَ قَوْلِهِ: (أَدُّوا الْخِيَاطَ [[الخياط هاهنا الخيط. والمخيط بالكسر: الإبرة.]] وَالْمِخْيَطَ). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ لَا يَحِلُّ أَخْذُهُ فِي الْغَزْوِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْمَطَاعِمِ [[في هـ ود وج وب: الطعام، وكلها: أرض العدو، الأب: أرض الغزو.]] فِي أَرْضِ الْغَزْوِ وَمِنَ الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ الطَّعَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّ الْآثَارَ تُخَالِفُهُ، عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا افْتَتَحُوا الْمَدِينَةَ أَوِ الْحِصْنَ أَكَلُوا مِنَ السَّوِيقِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ الطَّعَامَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَيَعْلِفُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْمُسُوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي الْغُزَاةِ يَكُونُونَ فِي السَّرِيَّةِ فَيُصِيبُونَ أَنْحَاءَ [[أنحاء: جمع نحى بالكسر وهو زق السمن. وقيل مطلقا.]] السَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَالطَّعَامِ فَيَأْكُلُونَ، وَمَا بَقِيَ رَدُّوهُ إِلَى إِمَامِهِمْ، وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ. الرَّابِعَةُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَالَّ لَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُحَرِّقْ مَتَاعَ [[في هـ وج وب: لم يحرق رحل الذي أخذ الشملة.]] الرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَةَ، وَلَا أَحْرَقَ مَتَاعَ صَاحِبِ الْخَرَزَاتِ [[صاحب الخرزات: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (لم يسمه أبو داود في سننه) توفى يوم خيبر، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال (إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوى درهمين (عن سنن أبى داود).]] الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَرْقُ مَتَاعِهِ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ ﷺ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ). فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ وَمَعَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مَتَاعًا فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ، وَطِيفَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ سَهْمَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْحَدِيثَيْنِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنِ الْوَلِيدِ- وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ-: وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ بَعْضُ رُوَاةٍ هَذَا الْحَدِيثِ: وَاضْرِبُوا عُنُقَهُ وَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُورُ عَلَى صَالِحِ ابن مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) وَهُوَ يَنْفِي الْقَتْلَ فِي الْغُلُولِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ). وَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ. وَالْغَالُّ خَائِنٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ فَأَحْرَى الْقَتْلُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ صَالِحٍ الْمَذْكُورُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حِينَ كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا قال في مانع الزَّكَاةِ: (إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) [[في نهاية ابن الأثير: "قال الحربي غلط الراوي في لفظ الرواية، إنما هو وشطر ماله شطرين، أي يجعل ماله شطرين، ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا تلزمه فلا". وعزمة حق من حقوقه وواجب من واجباته.]]. وَكَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثله مَعَهَا. وَكَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلْدَاتُ نَكَالٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- فَإِذَا غَلَّ الرَّجُلُ فِي الْمَغْنَمِ وَوُجِدَ أُخِذَ مِنْهُ، وَأُدِّبَ وَعُوقِبَ بِالتَّعْزِيرِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَاللَّيْثِ: لَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ ودَاوُدُ: إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عُوقِبَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ مَتَاعُ الْغَالِّ كُلُّهُ إِلَّا سِلَاحَهُ وَثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ وَسَرْجَهُ، وَلَا تُنْزَعُ مِنْهُ دَابَّتُهُ، وَلَا يُحْرَقُ الشَّيْءُ الَّذِي غُلَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ مُصْحَفًا. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضَرَبَا الْغَالَّ وَأَحْرَقَا مَتَاعَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِمَّنْ قَالَ يُحَرَّقُ رَحْلُ الْغَالِّ وَمَتَاعُهُ مَكْحُولٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا حَدِيثُ صَالِحٍ الْمَذْكُورُ. وَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ لَا يَجِبُ بِهِ انْتَهَاكُ حُرْمَةٍ، وَلَا إِنْفَاذُ حُكْمٍ، لِمَا يُعَارِضُهُ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصَحُّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَصَحِيحِ الْأَثَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَدَنِ، فَأَمَّا فِي الْمَالِ فَقَالَ فِي الذِّمِّيِّ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنَ الْمُسْلِمِ: تُرَاقُ الْخَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُنْزَعُ الثَّمَنُ مِنَ الذِّمِّيِّ عُقُوبَةً لَهُ، لِئَلَّا يَبِيعَ الْخَمْرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ فِي الْمَالِ. وَقَدْ أَرَاقَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ. السَّابِعَةُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْغَالِّ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ مَا غَلَّ إِلَى صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّاسُ إِنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ تَوْبَةٌ لَهُ، وَخُرُوجٌ عَنْ ذَنْبِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَلُ بِهِ إِذَا افْتَرَقَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَدْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ خُمُسَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي. هَذَا مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَمُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أحمد ابن حَنْبَلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذَا عِنْدِي فِيمَا يُمْكِنُ وُجُودُ صَاحِبِهِ وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى ورثته، وأما إن لم يكن شي مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَكْرَهُ الصَّدَقَةَ حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَهَا وَانْقِطَاعِ صَاحِبِهَا، وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ- مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وفي تحريم الْغُلُولِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتَرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ، فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْهَا أُدِّبَ اتِّفَاقًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الثَّامِنَةُ- وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. التَّاسِعَةُ- وَمِنَ الْغُلُولِ هَدَايَا الْعُمَّالِ، وَحُكْمُهُ فِي الْفَضِيحَةِ فِي الْآخِرَةِ حُكْمُ الْغَالِّ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ [[ابن اللتبية (بضم فسكون) هو عبد الله بن اللتبية الصحابي، واللتبية أمة. ويروى بفتح اللام والمثناة.]] [قَالَ ابْنُ السَّرْحِ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ] [[هذه الزيادة في صلب: ج وهـ ود، وابن السرح هو أحمد بن عمرو الأموي أبو الطاهر المصري.]] عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً فَلَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ([[اليعار (بضم الياء): صوت الغنم والمعزى. يعرف بفتح العين تيعر بالكسر والفتح يعارا بالضم.]] - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ [[العفرة (بضم فسكون): بياض ليس بالناصح الشديد، ولكن كلون عفر الأرض وهو وجهها.]] إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ:-) اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ (. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عن بريدة عن النبي ﷺ قَالَ: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ). وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ: (انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتِي عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ (. قَالَ: إِذًا لَا أَنْطَلِقُ. قَالَ:) إِذًا لَا أُكْرِهُكَ (. وَقَدْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ [[والحديث بالسند والمتن في ابن كثير.]] زَوْجَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا (. قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:) مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ سَارِقٌ (. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- وَمِنَ الْغُلُولِ حَبْسُ الْكُتُبِ عَنْ أَصْحَابِهَا، وَيَدْخُلُ غَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا غُلُولُ الْكُتُبِ؟ قَالَ: حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ" أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً أَوْ مُدَاهَنَةً. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَطْوِيَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ [[في د وهـ وب: يسار. هو أبو عبد الله المروزي الخرساني، وابن بشار هو ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدى البصري.]]. وَمَا بَدَأْنَا بِهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ تقدم القول فيه [[راجع ج ٣ ص ٣٧٥.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب