فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ وَصُحْبَةِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شي مِنَ الْمَكَارِمِ تَعَلُّلًا بِأَنَّا حَلَفْنَا أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ أَلَّا يَبِرَّ وَلَا يَصِلَ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُ: بِرَّ، فَيَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمَعْنَى وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ "لَا" بَعْدَ "أَنْ". وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَسْتَكْثِرُوا مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ أَهْيَبُ لِلْقُلُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:" وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [[راجع ج ٦ ص ٢٨٥.]] ". وَذَمَّ مَنْ كَثَّرَ الْيَمِينَ فَقَالَ تَعَالَى:" وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [[راجع ج ١٨ ص ٢٣١.]] ". وَالْعَرَبُ تَمْتَدِحُ بِقِلَّةِ الْأَيْمَانَ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ
وَعَلَى هَذَا "أَنْ تَبَرُّوا" مَعْنَاهُ: أَقِلُّوا الْأَيْمَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّ الْإِكْثَارَ يَكُونُ مَعَهُ الْحِنْثُ وَقِلَّةُ رَعْيٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِفُ، بِاللَّهِ فِي كُلِّ شي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ مُبْتَذَلَةً فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ فِعْلُ خَيْرٍ اعْتَلَّ بِاللَّهِ فَقَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفِ الْقُتَبِيُّ: الْمَعْنَى إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى أَلَّا تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَتَصَدَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا، وَعَلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَكَفِّرُوا الْيَمِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا حَسَنٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ النُّزُولِ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا. الثَّانِيَةُ- قِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ الصِّدِّيقِ إِذْ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النُّورِ [[راجع ج ١٢ ص ٢٠٧.]] "، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ أَيْضًا حِينَ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مَعَ الْأَضْيَافِ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمَانِ وَكَانَ خَتَنَهُ عَلَى أخته، والله أعلم.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ﴾ أَيْ نَصْبًا، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَفُلَانٌ عُرْضَةُ ذَاكَ، أَيْ [[في الصحاح: "أو عرضة لذلك".]] عُرْضَةٌ لِذَلِكَ، أَيْ مُقْرِنٌ لَهُ قَوِيٌّ عَلَيْهِ. وَالْعُرْضَةُ: الهمة. قال:
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ [[عجز بيت لحسان بن ثابت رضى الله عنه، وصدره: وقال الله قد أعددت جندا]]
وَفُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ: لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ. وَجَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً لِكَذَا أَيْ نَصَبْتُهُ لَهُ، وَقِيلَ: الْعُرْضَةُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةِ: عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذَا صَلُحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ: أَيْ قُوَّةٌ عَلَى السَّفَرِ وَالْحَرْبِ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
مِنْ كَلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
وَقَالَ عَبْدُ الله بن الزبير:
فهذي لأيام الحروب وهذه ... لِلْهَوِيِّ وَهَذِي عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا
أَيْ عُدَّةٌ. وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تَجْعَلُنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَأَدْمَاءُ مِثْلُ الْفَحْلِ يَوْمًا عُرْضَتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ بِاللَّهِ قُوَّةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَعُدَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبِرِّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ أَوْلَى وَأَمْثَلُ، مِثْلَ "طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ" عَنِ الزَّجَّاجِ وَالنَّحَّاسِ. وَقِيلَ: مَحَلُّهُ النَّصْبُ، أَيْ لَا تَمْنَعُكُمُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَّا تَبَرُّوا، فَحَذَفَ "لَا"، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالنَّحَّاسُ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ مِنْ وُجُوهِ النَّصْبِ: كَرَاهَةَ أَنْ تَبَرُّوا، ثُمَّ حُذِفَتْ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: هو في موضع خفض عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ، التَّقْدِيرُ: فِي أَنْ تَبَرُّوا، فَأُضْمِرَتْ "فِي" وَخُفِضَتْ بِهَا. وَ (سَمِيعٌ) أي لأقوال العباد.
(عَلِيمٌ) بنياتهم.
{"ayah":"وَلَا تَجۡعَلُوا۟ ٱللَّهَ عُرۡضَةࣰ لِّأَیۡمَـٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَتُصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ"}