الباحث القرآني
الحُكْمُ التّاسِعُ
فِي الأيْمانِ
﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ واللَّهُ سُمَيْعٌ عَلِيمٌ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
والمُفَسِّرُونَ أكْثَرُوا مِنَ الكَلامِ في هَذِهِ الآيَةِ، وأجْوَدُ ما ذَكَرُوهُ وجْهانِ:
الأوَّلُ: وهو الَّذِي ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ (p-٦٥)الأصْفَهانِيُّ، وهو الأحْسَنُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ﴾ نَهى عَنِ الجَراءَةِ عَلى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الحَلِفِ بِهِ؛ لِأنَّ مَن أكْثَرَ ذِكْرَ شَيْءٍ في مَعْنًى مِنَ المَعانِي فَقَدْ جَعَلَهُ عُرْضَةً لَهُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ جَعَلْتَنِي عُرْضَةً لِلَوْمِكَ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎ولا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ
وقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعالى مَن أكْثَرَ الحَلِفَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ﴾ [القَلَمِ: ١٠] وقالَ تَعالى: ﴿واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ﴾ [المائِدَةِ: ٨٩] والعَرَبُ كانُوا يَمْدَحُونَ الإنْسانَ بِالإقْلالِ مِنَ الحَلِفِ، كَما قالَ كُثَيِّرٌ:
؎قَلِيلُ الألايا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ∗∗∗ وإنْ سَبَقَتْ مِنهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ
والحِكْمَةُ في الأمْرِ بِتَقْلِيلِ الأيْمانِ أنَّ مَن حَلَفَ في كُلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ بِاللَّهِ انْطَلَقَ لِسانُهُ بِذَلِكَ ولا يَبْقى لِلْيَمِينِ في قَلْبِهِ وقْعٌ، فَلا يُؤْمَنُ إقْدامُهُ عَلى اليَمِينِ الكاذِبَةِ، فَيَخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ الأصْلِيُّ في اليَمِينِ، وأيْضًا كُلَّما كانَ الإنْسانُ أكْثَرَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعالى كانَ أكْمَلَ في العُبُودِيَّةِ، ومِن كَمالِ التَّعْظِيمِ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى أجَلَّ وأعْلى عِنْدَهُ مِن أنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ في غَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: (أنْ تَبَرُّوا) فَهو عِلَّةٌ لِهَذا النَّهْيِ، فَقَوْلُهُ: (أنْ تَبَرُّوا) أيْ إرادَةَ أنْ تَبَرُّوا، والمَعْنى: إنَّما نَهَيْتُكم عَنْ هَذا لِما أنَّ تَوَقِّيَ ذَلِكَ مِنَ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ، فَتَكُونُونَ يا مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أتْقِياءَ مُصْلِحِينَ في الأرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ.
فَإنْ قِيلَ: وكَيْفَ يَلْزَمُ مِن تَرْكِ الحَلِفِ حُصُولُ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ؟
قُلْنا: لِأنَّ مَن تَرَكَ الحَلِفَ لِاعْتِقادِهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أجَلُّ وأعْظَمُ أنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ العَظِيمِ في مَطالِبِ الدُّنْيا وخَسائِسِ مَطالِبِ الحَلِفِ، فَلا شَكَّ أنَّ هَذا مِن أعْظَمِ أبْوابِ البِرِّ، وأمّا مَعْنى التَّقْوى فَظاهِرٌ أنَّهُ اتَّقى أنْ يَصْدُرَ مِنهُ ما يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ، وأمّا الإصْلاحُ بَيْنَ النّاسِ فَمَتى اعْتَقَدُوا في صِدْقِ لَهْجَتِهِ وبُعْدِهِ عَنِ الأغْراضِ الفاسِدَةِ فَيَقْبَلُونَ قَوْلَهُ، فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ.
التَّأْوِيلُ الثّانِي: قالُوا: العُرْضَةُ عِبارَةٌ عَنِ المانِعِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ أنَّهُ يُقالُ: أرَدْتُ أفْعَلُ كَذا فَعَرَضَ لِي أمْرُ كَذا واعْتَرَضَ، أيْ تَحامى ذَلِكَ فَمَنَعَنِي مِنهُ، واشْتِقاقُها مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ في عُرْضِ الطَّرِيقِ فَيَصِيرُ مانِعًا لِلنّاسِ مِنَ السُّلُوكِ والمُرُورِ، ويُقالُ: اعْتَرَضَ فُلانٌ عَلى كَلامِ فُلانٍ، وجَعَلَ كَلامَهُ مُعارِضًا لِكَلامٍ آخَرَ، أيْ ذَكَرَ ما يَمْنَعُهُ مِن تَثْبِيتِ كَلامِهِ. إذا عَرَفْتَ أصْلَ الِاشْتِقاقِ فالعُرْضَةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، كالقُبْضَةِ، والغُرْفَةِ، فَيَكُونُ اسْمًا لِما يُجْعَلُ مُعْرَضًا دُونَ الشَّيْءِ، ومانِعًا مِنهُ، فَثَبَتَ أنَّ العُرْضَةَ عِبارَةٌ عَنِ المانِعِ. وأمّا اللّامُ في قَوْلِهِ: (لِأيْمانِكم) فَهو لِلتَّعْلِيلِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: ولا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مانِعًا بِسَبَبِ أيْمانِكم مِن أنْ تَبَرُّوا أوْ في أنْ تَبَرُّوا، فَأُسْقِطَ حَرْفُ الجَرِّ لِعَدَمِ الحاجَةِ إلَيْهِ بِسَبَبِ ظُهُورِهِ.
قالُوا: وسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَحْلِفُ عَلى تَرْكِ الخَيْراتِ مِن صِلَةِ الرَّحِمِ، أوْ إصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، أوْ إحْسانٍ إلى أحَدِ أدْعِيائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أخافُ اللَّهَ أنْ أحْنَثَ في يَمِينِي. فَيَتْرُكُ البِرَّ إرادَةَ البِرِّ في يَمِينِهِ، فَقِيلَ: لا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مانِعًا بِسَبَبِ هَذِهِ الأيْمانِ عَنْ فِعْلِ البِرِّ والتَّقْوى. هَذا أجْوَدُ ما ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ، وقَدْ طَوَّلُوا في كَلِماتٍ أُخَرَ، ولَكِنْ لا فائِدَةَ فِيها فَتَرَكْناها.
ثُمَّ قالَ في (p-٦٦)آخِرِ الآيَةِ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ: إنْ حَلَفْتُمْ يَسْمَعُ، وإنْ تَرَكْتُمُ الحَلِفَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وإجْلالًا لَهُ مِن أنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الكَرِيمِ في الأعْراضِ العاجِلَةِ، فَهو عَلِيمٌ عالِمٌ بِما في قُلُوبِكم ونِيَّتِكم.
{"ayah":"وَلَا تَجۡعَلُوا۟ ٱللَّهَ عُرۡضَةࣰ لِّأَیۡمَـٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَتُصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق