الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝﴾ [البقرة: ٢٢٤]. دَلَّتِ الآيةُ على النهيِ عن النَّذْرِ واليمينِ التي تُتَّخَذُ مُلزِمةً للعبدِ ألاَّ يُطِيعَ اللهَ، ولا يعملَ البِرَّ ولا يُحسِنَ إلى الناسِ، فإذا أراد أحدٌ عدَمَ فعلِ الخيرِ، أقسَمَ على نفسِه أنْ يترُكَ الخيرَ، فيجعَلُ اليمينَ حائلةً بينَهُ وبينَ الطاعةِ والإحسانِ، فهو يعظِّمُ اليمينَ لأجلِ أنّه حلَفَ باللهِ، ولا يعظِّمُ أمرَ اللهِ الذي أمَرَ بالطاعةِ والمعروفِ والإحسانِ، فكأنّه يَضرِبُ أمرَ اللهِ بتعظيمِ اللهِ، ليحقِّقَ رغْبَتَهُ وهواهُ في تركِ ما لا يُرِيدُ مِن الخيرِ والبِرِّ والإحسانِ إلى الناسِ. فقولُهُ: ﴿عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ﴾، يعني: عارِضًا قويًّا تتَّخِذُونَهُ وتتساهَلُونَ به، في إلزامِ أنفُسِكُمْ بتركِ الخيرِ والبِرِّ. وقد جاء في «الصحيحَيْنِ»، واللفظُ للبخاريِّ، عن أبي هُرَيْرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (مَنِ اسْتَلَجَّ فِي أهْلِهِ بِيَمِينٍ، فَهُوَ أعْظَمُ إثْمًا، لِيَبَرَّ)، يَعْنِي: الكَفّارةَ[[أخرجه البخاري (٦٦٢٦) (٨/١٢٨)، ومسلم (١٦٥٥) (٣/١٢٧٦).]]. وروى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ قولَهُ: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ﴾، يقولُ: «لا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِيَمِينِكَ ألاَّ تَصْنَعَ الخَيْرَ، ولَكِنْ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، واصْنَعِ الخَيْرَ»[[«تفسير الطبري» (٤/٨).]]. وقال مجاهدٌ في قولِهِ: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ﴾: «فأُمِرُوا بِالصِّلَةِ، والمَعْرُوفِ، والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ، فإنْ حَلَفَ حالِفٌ ألاَّ يَفْعَلَ ذلك، فَلْيَفْعَلْهُ ولْيَدَعْ يَمِينَهُ»[[«تفسير الطبري» (٤/٩).]]. ورُوِيَ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعطاءٍ وطاوسٍ والنَّخَعيِّ نحوُهُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٤٠٧).]]. اليمينُ على المعصيةِ: وكلُّ يمينٍ تكونُ سببًا في تركِ الطاعةِ، كالصلاةِ والصدقةِ وصِلَةِ الرحمِ، فلا يجوزُ إمضاؤُها ولا العملُ بها، بل يكفِّرُ صاحبُها عن يمينِه ويأتي الذي هو خيرٌ، وهذا إذا كان في يمينِ الإنسانِ لنفسِهِ، فإنّ يمينَ غيرِه عليه أوْلى بالتركِ وعدمِ إبرارِها. وكلُّ يمينٍ تَحُولُ بينَ الإنسانِ وبينَ عملِ بِرٍّ أمَرَ اللهُ به أو حَثَّ عليه ولو لم يكنْ واجبًا، فلا يَلْزَمُ صاحِبَها الوفاءُ بها، ويتأكَّدُ نقضُها بحسَبِ منزلةِ الطاعةِ التي حالَتْ يمينُهُ بينَهُ وبينَها، فإنْ كانتِ الطاعةُ واجِبةً، وجَبَ عليه نقضُ اليمينِ، لأنّ اليمينَ إنّما عُظِّمَتْ لأجلِ المحلوفِ به، وهو اللهُ، واللهُ لا يَحُولُ بينَ العبدِ وبينَ أوامرِه، وإنْ كانت مستَحَبَّةً، فنقضُها مستحَبٌّ، ففي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (وإنِّي واللهِ ـ إنْ شاءَ اللهُ ـ لا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ، فَأَرى غَيْرَها خَيْرًا مِنها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ، وتَحَلَّلْتُها»[[أخرجه البخاري (٣١٣٣) (٤/٩٠)، ومسلم (١٦٤٩) (٣/١٢٧٠).]]. وبنحوِه عندَهما عن عبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرةَ[[أخرجه البخاري (٦٦٢٢) (٨/١٢٧)، ومسلم (١٦٥٢) (٣/١٢٧٣).]]. وعندَ مسلمٍ عن أبي هريرةَ[[أخرجه مسلم (١٦٥٠) (٣/١٢٧١).]]. والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ. وقولُه: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝﴾، يعني: يَسْمَعُ أيمانَكُم، ويَعلَمُ مَقاصِدَكُمْ بها، فما أمَرَ اللهُ بالطاعةِ والبِرِّ والإحسانِ لِيَحُولَ الإنسانُ بينَه وبينَها بيمينِهِ، فإنّ هذا ليس مِن تعظيمِ أمرِ اللهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب