الباحث القرآني

﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾، في البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ: أنَّ اليَهُودَ كانَتْ تَقُولُ في الَّذِي يَأْتِي امْرَأتَهُ مِن دُبُرِها في قُبُلِها إنَّ الوَلَدَ يَكُونُ أحْوَلَ؛ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ كَراهَةُ نِساءِ الأنْصارِ ذَلِكَ لَمّا تَزَوَّجَهُمُ المُهاجِرُونَ، وكانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِ مَكَّةَ، يَتَلَذَّذُونَ بِالنِّساءِ مُقْبِلاتٍ ومُدْبِراتٍ، رَوى مَعْناهُ الحاكِمُ في صَحِيحِهِ. وقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ «أنَّ بَعْضَ الصَّحابَةِ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: هَلَكْتُ، فَقالَ: (وما الَّذِي أهْلَكَكَ ؟) قالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِيَ اللَّيْلَةَ، فَنَزَلَتْ» . ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، وكانَ الإطْلاقُ يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إتْيانِهِنَّ عَلى سائِرِ أحْوالِ الإتْيانِ؛ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ نَصَّ بِما يَدُلُّ عَلى سائِرِ الكَيْفِيّاتِ، وبَيَّنَ أيْضًا المَحَلَّ بِجَعْلِهِ حَرْثًا، وهو القُبُلُ، والحَرْثُ كَما تَقَدَّمَ في قِصَّةِ البَقَرَةِ: شَقُّ الأرْضِ لِلزَّرْعِ، ثُمَّ سُمِّيَ الزَّرْعُ حَرْثًا: ﴿أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ [آل عمران: ١١٧]، وسُمِّيَ الكَسْبُ حَرْثًا، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا أكَلَ الجَرادُ حُرُوثَ قَوْمٍ فَحَرْثِي هَمُّهُ أكْلُ الجَرادِ قالُوا: يُرِيدُ فامْرَأتِي، وأنْشَدَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى: ؎إنَّما الأرْحامُ أرَضُو ∗∗∗ نَ لَنا مُحْتَرَثاتُ ؎فَعَلَيْنا الزَّرْعُ فِيها ∗∗∗ وعَلى اللَّهِ النَّباتُ وهَذِهِ الجُمْلَةُ جاءَتْ بَيانًا وتَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، وهو المَكانُ المَمْنُوعُ مِنَ اسْتِعْمالِهِ وقْتَ الحَيْضِ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الغَرَضَ الأصِيلَ هو طَلَبُ النَّسْلِ: (تَناكَحُوا فَإنِّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيامَةِ)، لا قَضاءُ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، فَأْتُوا النِّساءَ مِنَ المَسْلَكِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الغَرَضُ الأصْلِيُّ، وهو القُبُلُ. و”نِساؤُكم“ مُبْتَدَأٌ، و”حَرْثٌ لَكم“ خَبَرٌ، إمّا عَلى حَذْفِ أداةِ التَّشْبِيهِ، أيْ: كَحَرْثٍ لَكم، ويَكُونُ نِساؤُكم عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وطْءُ نِسائِكم كالحَرْثِ لَكم، شَبَّهَ الجِماعَ بِالحَرْثِ؛ إذِ النُّطْفَةُ كالبَذْرِ، والرَّحِمُ كالأرْضِ، والوَلَدُ كالنَّباتِ، وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: مَوْضِعُ حَرْثٍ لَكم، وهَذِهِ الكِنايَةُ في النِّكاحِ مِن بَدِيعِ كِناياتِ القُرْآنِ. قالُوا: وهو مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧]، ومِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وأرْضًا لَمْ تَطَئُوها﴾ [الأحزاب: ٢٧]، عَلى قَوْلِ مَن فَسَّرَهُ بِالنِّساءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ”حَرْثٌ لَكم“ بِمَعْنى: مَحْرُوثَةٌ لَكم؛ فَيَكُونُ مِن بابِ إطْلاقِ المَصْدَرِ، ويُرادُ بِهِ اسْمُ المَفْعُولِ. وفي لَفْظَةِ ”حَرْثٌ لَكم“ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ القُبُلُ لا الدُّبُرُ. قالَ الماتُرِيدِيُّ: أيْ مُزْدَرَعٌ لَكم، وفِيها دَلِيلٌ عَلى النَّهْيِ عَنِ امْتِناعِ وطْءِ النِّساءِ؛ لِأنَّ المُزْدَرَعَ إذا تُرِكَ ضاعَ، ودَلِيلٌ عَلى إباحَةِ الوَطْءِ لِطَلَبِ النَّسْلِ والوَلَدِ، لا لِقَضاءِ الشَّهْوَةِ. انْتَهى كَلامُهُ. وفَرَّقَ الرّاغِبُ بَيْنَ الحَرْثِ والزَّرْعِ، فَقالَ: الحَرْثُ إلْقاءُ البَذْرِ وتَهْيِئَةُ الأرْضِ، والزَّرْعُ مُراعاتُهُ وإنْباتُهُ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣] ﴿أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾ [الواقعة: ٦٤]، أثْبَتَ لَهُمُ الحَرْثَ ونَفى عَنْهُمُ الزَّرْعَ. ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾، الإتْيانُ كِنايَةٌ عَنِ الوَطْءِ، وجاءَ ”حَرْثٌ لَكم“ نَكِرَةً لِأنَّهُ الأصْلُ في الخَبَرِ؛ ولِأنَّهُ كانَ المَجْهُولُ، فَأفادَتْ نِسْبَتُهُ إلى المُبْتَدَإ جَوازَ الِاسْتِمْتاعِ بِهِ شَرْعًا، وجاءَ: ”فَأْتُوا حَرْثَكم“ مَعْرِفَةً؛ لِأنَّ في الإضافَةِ حَوالَةً عَلى شَيْءٍ سَبَقَ، واخْتِصاصًا بِما أُضِيفَ إلَيْهِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ أنْ تَقُولَ: زَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَكَ فَأحْسِنْ إلى مَمْلُوكِكَ. وإذا تَقَدَّمَتْ نَكِرَةٌ وأعَدْتَ اللَّفْظَ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، إمّا بِالألِفِ واللّامِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: ١٦]، وإمّا بِالإضافَةِ كَهَذا. وأنّى: بِمَعْنى كَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إلى العَزْلِ وتَرْكِ العَزْلِ. قالَهُ ابْنُ المُسَيَّبِ: فَتَكُونُ الكَيْفِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلى هَذَيْنِ الحالَيْنِ، أوْ بِمَعْنى كَيْفَ عَلى الإطْلاقِ في أحْوالِ المَرْأةِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، والرَّبِيعُ؛ فَتَكُونُ دَلَّتْ عَلى جَوازِ الوَطْءِ لِلْمَرْأةِ في أيِّ حالٍ شاءَها الواطِئُ، مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً، عَلى أيِّ شِقٍّ، وقائِمَةً ومُضْطَجِعَةً، وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ، وذَلِكَ في مَكانِ الحَرْثِ، أوْ بِمَعْنى مَتى، (p-١٧١)قالَهُ الضَّحّاكُ؛ فَيَكُونُ إذْ ذاكَ ظَرْفُ زَمانٍ، ويَكُونُ المَعْنى: فَأْتُوا حَرْثَكم في أيِّ زَمانٍ أرَدْتُمْ. وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ ”أنّى“ بِمَعْنى أيْ، والمَعْنى: عَلى أيِّ صِفَةٍ شِئْتُمْ؛ فَيَكُونُ عَلى هَذا تَخْيِيرًا في الخِلالِ والهَيْئَةِ، أيْ: أقْبِلْ وأدْبِرْ واتَّقِ الدُّبُرَ والحَيْضَةَ، وقَدْ وقَعَ هَذا مُفَسَّرًا في بَعْضِ الأحادِيثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: (ذَلِكَ لا يُبالى بِهِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ في صِمامٍ واحِدٍ) . والصِّمامُ: رَأسُ القارُورَةِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ”أنّى“ بِمَعْنى: أيْنَ، فَجَعَلَها مَكانًا، واسْتَدَلَّ بِهَذا عَلى جَوازِ نِكاحِ المَرْأةِ في دُبُرِها، ومِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ إباحَةُ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، وابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الصَّحابَةِ، ومالِكٌ، ووَقَعَ ذَلِكَ في العُتَبِيَّةِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَن فَعَلَ ذَلِكَ وإنْكارُهُ، ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ إنْكارُ ذَلِكَ، وسُئِلَ فَقِيلَ: يَزْعُمُونَ أنَّكَ تُبِيحُ إتْيانَ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ ؟ فَقالَ: مَعاذَ اللَّهِ، ألَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾، وأنّى يَكُونُ الحَرْثُ إلّا في مَوْضِعِ البَذْرِ ؟ ونُقِلَ مِثْلُ هَذا عَنِ الشّافِعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، ونُقِلَ جَوازُ ذَلِكَ عَنْ: نافِعٍ، وجَعْفَرٍ الصّادِقِ، وهو اخْتِيارُ المُرْتَضى مِن أئِمَّةِ الشِّيعَةِ، وذُكِرَ في (المُنْتَخَبِ) ما اسْتُدِلَّ بِهِ لِهَذا المَذْهَبِ وما رُدَّ بِهِ، فَيُطالَعُ هُناكَ؛ إذْ كِتابُنا هَذا لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذِكْرِ دَلائِلِ الفِقْهِ إلّا بِمِقْدارِ ما يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ. وقَدْ رَوى تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اثْنا عَشَرَ صَحابِيًّا بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّها تَدُلُّ عَلى التَّحْرِيمِ، ذَكَرَها أحْمَدُ في (مُسْنَدِهِ)، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وغَيْرُهم، وقَدْ جَمَعَها أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ بِطُرُقِها في جُزْءٍ سَمّاهُ (تَحْرِيمُ المَحَلِّ المَكْرُوهِ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَنْبَغِي لِمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يُعَرِّجَ في هَذِهِ النّازِلَةِ عَلى زَلَّةِ عالِمٍ، وقالَ أيْضًا: ﴿أنّى شِئْتُمْ﴾: مَعْناهُ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَماءِ مِن صَحابَةٍ، وتابِعِينَ، وأئِمَّةٍ: مِن أيِّ وجْهٍ شِئْتُمْ، مَعْناهُ: مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً عَلى جَنْبٍ، و”أنّى“: إنَّما يَجِيءُ سُؤالًا وإخْبارًا عَلى أمْرٍ لَهُ جِهاتٌ، فَهي أعَمُّ في اللُّغَةِ مِن ”كَيْفَ“، ومِن ”أيْنَ“، ومِن ”مَتى“ . هَذا هو الِاسْتِعْمالُ العَرَبِيُّ. وقَدْ فَسَّرَ النّاسُ (أنّى) في هَذِهِ الآيَةِ بِهَذِهِ الألْفاظِ، وفَسَّرَها سِيبَوَيْهِ بِكَيْفَ، ومِن أيْنَ بِاجْتِماعِهِما ؟ وقالَ النَّحْوِيُّونَ: (أنّى) لِتَعْمِيمِ الأحْوالِ، وقَدْ تَأْتِي (أنّى) بِمَعْنى ”مَتى“ وبِمَعْنى ”أيْنَ“ وتَكُونُ اسْتِفْهامًا وشَرْطًا، وجَعَلُوها في الشَّرْطِيَّةِ ظَرْفَ مَكانٍ فَقَطْ. وإذا كانَ غالِبُ مَدْلُولِها في اللُّغَةِ أنَّها لِلْأحْوالِ، فَلا حُجَّةَ لِمَن تَعَلَّقَ بِأنَّها تَدُلُّ عَلى تَعْمِيمِ مَواضِعِ الإتْيانِ؛ فَتَكُونُ بِمَعْنى ”أيْنَ“ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهُ: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ تَمْثِيلٌ، أيْ: فَأْتُوهُنَّ كَما تَأْتُونَ أراضِيكُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ أنْ تَحْرُثُوها، مِن أيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ، لا تُحْظَرُ عَلَيْكم جِهَةٌ دُونِ جِهَةِ، والمَعْنى: جامِعُوهُنَّ مِن أيِّ شِقٍّ أرَدْتُمْ بَعْدَ أنْ يَكُونَ المَأْتى واحِدًا، وهو مَوْضِعُ الحَرْثِ. وقَوْلُهُ: ﴿هُوَ أذًى فاعْتَزِلُوا النِّساءَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ مِنَ الكِناياتِ اللَّطِيفَةِ، والتَّعَرُّضاتِ المُسْتَحْسَنَةِ، فَهَذِهِ وأشْباهُها في كَلامِ اللَّهِ تَعالى آدابٌ حَسَنَةٌ، عَلى المُؤْمِنِينَ أنْ يَتَعَلَّمُوها ويَتَأدَّبُوا بِها، ويَتَكَلَّفُوا مِثْلَها في مُحاوَراتِهِمْ ومُكاتَباتِهِمْ. انْتَهى كَلامُهُ. وهو حَسَنٌ. قالُوا: والعامِلُ في أنّى، فَأْتُوا. وهَذا الَّذِي قالُوهُ لا يَصِحُّ؛ لِأنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّها تَكُونُ اسْتِفْهامًا أوْ شَرْطًا، لا جائِزَ أنْ تَكُونَ هُنا شَرْطًا؛ لِأنَّها إذْ ذاكَ تَكُونُ ظَرْفَ مَكانٍ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبِيحًا لِإتْيانِ النِّساءِ في غَيْرِ القُبُلِ، وقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَلى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ يَمْتَنِعُ أنْ يَعْمَلَ في الظَّرْفِ الشَّرْطِيِّ ما قَبْلَهُ؛ لِأنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَما أنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَعْمُولٌ لَهُ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ اسْتِفْهامًا؛ لِأنَّها إذا كانَتِ اسْتِفْهامًا اكْتَفَتْ بِما بَعْدَها مِن فِعْلٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي ولَدٌ﴾ [آل عمران: ٤٧]، ومِنَ اسْمٍ كَقَوْلِهِ: ﴿أنّى لَكِ هَذا﴾ [آل عمران: ٣٧]، ولا يَفْتَقِرُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وهُنا يَظْهَرُ افْتِقارُها وتَعَلُّقُها بِما قَبْلَها. وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ اسْتِفْهامًا لا يَعْمَلُ فِيها ما قَبْلَها، وأنَّها تَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ بَعْدَها، فَتَبَيَّنَ عَلى وجْهَيْ (أنّى) أنَّها لا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِما قَبْلَها، وهَذا مِنَ المَواضِعِ المُشْكِلَةِ الَّتِي تَحْتاجُ إلى فِكْرٍ (p-١٧٢)ونَظَرٍ. والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّها تَكُونُ شَرْطًا لِافْتِقارِها إلى جُمْلَةٍ غَيْرِ الجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَها، وتَكُونُ قَدْ جُعِلَتْ فِيها الأحْوالُ، كَجَعْلِ الظُّرُوفِ المَكانِيَّةِ، وأُجْرِيَتْ مَجْراها تَشْبِيهًا لِلْحالِ بِالظَّرْفِ المَكانِيِّ، وقَدْ جاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ في لَفْظِ ”كَيْفَ“، خَرَجَ بِهِ عَنِ الِاسْتِفْهامِ إلى مَعْنى الشَّرْطِ في قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَكُونُ أكُونُ، وقالَ تَعالى: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾ [المائدة: ٦٤]؛ فَلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هُنا اسْتِفْهامًا، وإنَّما لُحِظَ فِيها مَعْنى الشَّرْطِ وارْتِباطِ الجُمْلَةِ بِالأُخْرى وجَوابُ الجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: أنّى شِئْتُمْ فَأْتُوهُ، وكَيْفَ يَشاءُ يُنْفِقُ، كَما حُذِفَ جَوابُ الشَّرْطِ في قَوْلِكَ: اضْرِبْ زَيْدًا أنّى لَقِيتَهُ، التَّقْدِيرُ: أنّى لَقِيتَهُ فاضْرِبْهُ. فَإنْ قُلْتَ: قَدْ أخْرَجْتَ (أنّى) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ وأبْقَيْتَها لِتَعْمِيمِ الأحْوالِ، مِثْلَ ”كَيْفَ“ وجَعَلْتَها مُقْتَضِيَةً لِجُمْلَةٍ أُخْرى كَجُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهَلِ الفِعْلُ الماضِي الَّذِي هو (شِئْتُمْ) في مَوْضِعِ جَزْمٍ كَحالِها إذا كانَتْ ظَرْفًا ؟ أمْ هو في مَوْضِعِ رَفْعٍ كَهو بَعْدَ ”كَيْفَ“ في قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَصْنَعُ أصْنَعُ ؟ فالجَوابُ أنَّهُ يُحْتَمَلُ الأمْرَيْنِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ جَزْمٍ؛ لِأنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ الجَزْمُ بِها إذا كانَتْ ظَرْفًا صَرِيحًا، غايَةُ ما في ذَلِكَ تَشْبِيهُ الأحْوالِ بِالظُّرُوفِ، وبَيْنَهُما عِلاقَةٌ واضِحَةٌ؛ إذْ كُلٌّ مِنهُما عَلى مَعْنى ”في“، بِخِلافِ ”كَيْفَ“ فَإنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيها الجَزْمُ، ومَن أجازَ الجَزْمَ بِها فَإنَّما قالَهُ بِالقِياسِ، والمَحْفُوظُ عَنِ العَرَبِ الرَّفْعُ في الفِعْلِ بَعْدَها، حَيْثُ يَقْتَضِي جُمْلَةً أُخْرى. ﴿وقَدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ﴾، مَفْعُولُ قَدِّمُوا مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ القُرْبانِ أوْ طَلَبِ الوَلَدِ والإفْراطِ شُفَعاءَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. أوْ: الخَيْرَ، قالَهُ السُّدِّيُّ. أوْ: قَدَمَ صِدْقٍ، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ. أوِ: الأجْرَ في تَجَنُّبِ ما نُهِيتُمْ وامْتِثالِ ما أُمِرْتُمْ بِهِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. أوْ: ذِكْرَ اللَّهِ عَلى الجِماعِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَوْ أنَّ أحَدَكم إذا أتى امْرَأتَهُ قالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيْطانَ وجَنِّبِ الشَّيْطانَ ما رَزَقْتَنا، فَقُضِيَ بَيْنَهُما ولَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ) . أوِ التَّسْمِيَةَ عَلى الوَطْءِ، حَكاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أوْ: ما يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، وهو خِلافُ ما نَهَيْتُكم عَنْهُ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِن قَوْلِ مَن قَبْلَهُ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المَعْنى: وقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم طاعَةَ اللَّهِ، وامْتِثالَهُ ما أمَرَ، واجْتِنابَ ما نَهى عَنْهُ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ أمْرٌ ونَهْيٌ، وهو الخَيْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٠]؛ ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ (واتَّقُوا اللَّهَ)، أيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِيما أمَرَكم بِهِ ونَهاكم عَنْهُ، وهو تَحْذِيرٌ لَهم مِنَ المُخالَفَةِ، ولِأنَّ العَظِيمَ الَّذِي تَقَدَّمَ يَحْتاجُ إلى أنْ يُقَدَّمَ مَعَكَ ما تَقْدَمُ بِهِ عَلَيْهِ مِمّا لا تُفْتَضَحُ بِهِ عِنْدَهُ، وهو العَمَلُ الصّالِحُ. ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾، الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ المَجْرُورَ في ﴿مُلاقُوهُ﴾ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، وتَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: مُلاقُو جَزائِهِ عَلى أفْعالِكم، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى المَفْعُولِ المَحْذُوفِ الَّذِي لِقَوْلِهِ ﴿وقَدِّمُوا﴾، أيْ: واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُو ما قَدَّمْتُمْ مِنَ الخَيْرِ والطّاعَةِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْضًا، أيْ: مُلاقُو جَزائِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى الجَزاءِ الدّالِّ عَلَيْهِ مَعْمُولُ ﴿قَدَّمُوا﴾ [يس: ١٢] المَحْذُوفُ، وفي ذَلِكَ رَدٌّ عَلى مَن يُنْكِرُ البَعْثَ والحِسابَ والمَعادَ، سَواءً عادَ عَلى اللَّهِ تَعالى أوْ عَلى مَعْمُولِ قَدِّمُوا، أوْ عَلى الجَزاءِ. (وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)، أيْ: بِحُسْنِ العاقِبَةِ في الآخِرَةِ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى وصْفِ الَّذِي بِهِ يُتَّقى اللَّهُ ويُقَدِّمُ الخَيْرَ، ويَسْتَحِقُّ التَّبْشِيرَ، وهو الإيمانُ. وفي أمْرِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالتَّبْشِيرِ تَأْنِيسٌ عَظِيمٌ، ووَعْدٌ كَرِيمٌ بِالثَّوابِ الجَزِيلِ، ولَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ، بَلْ أتى بِالظّاهِرِ الدّالِّ عَلى الوَصْفِ، ولِكَوْنِهِ مَعَ ذَلِكَ فَصْلَ آيَةٍ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الشَّرِيفَةُ إخْبارَ اللَّهِ تَعالى عَنِ المُؤْمِنِينَ أنَّهم يَسْألُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، فَوَقَعَ ما أخْبَرَ بِهِ تَعالى، وأمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُخْبِرَ مَن سَألَهُ عَنْهُما بِأنَّهُما قَدِ اشْتَمَلا عَلى إثْمٍ كَبِيرٍ، فَكانَ هَذا الإخْبارُ مَدْعاةً لِتَرْكِهِما، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى تَحْرِيمِهِما، والمَعْنى أنَّهُ يَحْصُلُ بِشُرْبِ الخَمْرِ واللَّعِبِ بِالمَيْسِرِ إثْمٌ، وما اكْتَفى بِمُطْلَقِ الإثْمِ حَتّى وصَفَهُ بِالكِبَرِ في قِراءَةٍ، وبِالكَثْرَةِ (p-١٧٣)فِي قِراءَةٍ، وقَدْ قالَ تَعالى في المُحَرَّماتِ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ﴾ [النجم: ٣٢]، ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: ٣١]، ﴿إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢]؛ فَحَيْثُ وصَفَ الإثْمَ بِالكَبِيرِ، وكانَ مِن أعْظَمِ الآثامِ وأوْغَلِها في التَّحْرِيمِ، وأخْبَرَ أيْضًا أنَّ فِيهِما مَنافِعَ لِلنّاسِ، مِن أخْذِ الأمْوالِ بِالتِّجارَةِ في الخَمْرِ، وبِالقَمْرِ في المَيْسِرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ ما مِن شَيْءِ حُرِّمَ إلّا فِيهِ مَنفَعَةٌ بِوَجْهٍ ما، خُصُوصًا ما كانَ الطَّبْعُ مائِلًا إلَيْهِ، أوْ كانَ الشَّخْصُ ناشِئًا عَلَيْهِ بِالطَّبْعِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ ضَرَرَ الإثْمِ الَّذِي هو جالِبٌ إلى النّارِ، أعْظَمُ مِنَ النَّفْعِ المُنْقَضِي بِانْقِضاءِ وقْتِهِ؛ لِيُرْشِدَ العاقِلَ إلى تَجَنُّبِ ما عَذابُهُ دائِمٌ ونَفْعُهُ زائِلٌ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم يَسْألُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؛ فَأُجِيبُوا بِأنْ يُنْفِقُوا ما سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنْفاقُهُ، ويُشِيرُ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الآياتِ بَيانًا، مِثْلَ ما بَيَّنَ في أمْرِ الخَمْرِ، والمَيْسِرِ، وما يُنْفِقُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ بِهَذا البَيانِ يَحْصُلُ الرَّجاءُ في تَفَكُّرِ حالِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإذا فَكَّرَ فِيهِما يُرَجِّحُ بِالفِكْرِ إيثارَ الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيا. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِن هَذَيْنِ السُّؤالَيْنِ إلى السُّؤالِ عَنْ أمْرِ اليَتامى، وما كُلِّفُوا في شَأْنِهِمْ؛ إذْ كانَ اليَتامى لا يَنْهَضُونَ بِالنَّظَرِ في أحْوالِ أنْفُسِهِمْ، ولِصِغَرِهِمْ ونَقْصِ عُقُولِهِمْ؛ فَأُجِيبُوا بِأنَّ إصْلاحَهم خَيْرٌ مِن إهْمالِهِمْ، لِلْمُصْلِحِ بِتَحْصِيلِ الثَّوابِ، ولِلْمُصْلِحِ بِتَأْدِيبِهِ وتَعْلِيمِهِ وتَنْمِيَةِ مالِهِ: (أُمَّتِي كالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) . ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ مُخالَطَتِهِمْ مَطْلُوبَةٌ؛ لِأنَّهم إخْوانُكم في الإسْلامِ؛ فالأُخُوَّةُ مُوجِبَةٌ لِلنَّظَرِ في حالِ الأخِ. وأبْرَزَ الطَّلَبَ في صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وأتى الجَوابُ بِما يَقْتَضِي الخِلْطَةَ، وهو كَوْنُهم إخْوانَكم. ولَمّا أمَرَ بِالإصْلاحِ لِلْيَتامى؛ ذَكَرَ أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ؛ لِيُحَذِّرَ مِنَ الفَسادِ ويَدْعُوَ إلى الصَّلاحِ. ومَعْنى عِلْمُهُ هُنا أنَّهُ مُجازٍ مَن أفْسَدَ ومَن أصْلَحَ بِما يُناسِبُ فِعْلَهُ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لَوْ شاءَ لَكَلَّفَكم ما يَشُقُّ عَلَيْكم؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ التَّكالِيفَ السّابِقَةَ مِن تَحْرِيمِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، وتَكْلِيفِ الصَّدَقَةِ بِأنْ تَكُونَ عَفْوًا، وتَكْلِيفِ إصْلاحِ اليَتِيمِ - لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ ولا إعْناتٌ. ثُمَّ خَتَمَ هَذا بِأنَّهُ هو العَزِيزُ الَّذِي لا يُغالَبُ، الحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الأشْياءَ مَواضِعَها. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمّا كانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ - وهو شُرْبُ الخَمْرِ والأكْلُ بِهِ، والقَمْرُ بِالمَيْسِرِ والأكْلُ بِهِ - ولَمّا كانَ النِّكاحُ أيْضًا مِن أعْظَمِ الشَّهَواتِ والمَلاذِّ؛ اسْتَطْرَدَ إلى ذِكْرِ تَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنهُ، وهو نِكاحُ مَن قامَ بِهِ الوَصْفُ المُنافِي لِلْإيمانِ، وهو الإشْراكُ المُوجِبُ لِلتَّنافُرِ والتَّباعُدِ، والنِّكاحُ مُوجِبٌ لِلْخِلْطَةِ والمَوَدَّةِ، قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١]، ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢]، لا يَتَراءى داراهُما فَنَهى فِيهِنَّ عَنْ نِكاحِ مَن قامَ بِهِ الوَصْفُ المُنافِي لِلْإيمانِ، وغَيّا ذَلِكَ بِحُصُولِ الإيمانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَن كانَ رَقِيقًا وهو مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ ولَوْ كانَ يُعْجِبُ في حُسْنٍ أوْ مالٍ أوْ رِئاسَةٍ، ونَبَّهَ عَلى العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلتَّرْكِ، وهو أنَّ مَن أشْرَكَ داعٍ إلى النّارِ، وجُرَّ مِمَّنْ كانَ مُعاشِرَ شَخْصٍ ومُخالِطَهُ ومُلابِسَهُ، حَتّى في النِّكاحِ الَّذِي هو داعٍ إلى التَّآلُفِ مِن كُلِّ مُعاشَرَةٍ - أنْ يُجِيبَهُ إذا دَعاهُ لِما هو مِن هَواهُ، وهم كانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالإيمانِ وحَدِيثِهِ؛ فَمُنِعُوا مِن ذَلِكَ سَدًّا لِلتَّطَرُّقِ إلى النّارِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ هو يَدْعُو إلى الجَنَّةِ والمَغْفِرَةِ؛ فَهو النّاظِرُ بِالمَصْلَحَةِ لَكم في تَحْرِيمِ ما حَرَّمَ وإباحَةِ ما أباحَ، وهو يُبَيِّنُ آياتِهِ ويُوَضِّحُها بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ مَعَها لَبْسٌ، وذَلِكَ لِرَجاءِ تَذَكُّرِكم واتِّعاظِكم بِالآياتِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى تَحْرِيمَ نِكاحِ مَن قامَ بِهِ وصْفُ الإشْراكِ، ذَكَرَ تَحْرِيمَ وطْءِ مَن قامَ بِهِ في الحَيْضِ مِنَ المُؤْمِناتِ، وغَيّا ذَلِكَ بِالطُّهْرِ، كَما غَيّا ما قَبْلَهُ بِالإيمانِ، ثُمَّ أباحَ - إذا تَطَهَّرَتْ - لَنا الوَطْءَ لَهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَ اللَّهُ، وهو المَكانُ الَّذِي كانَ مَشْغُولًا بِالحَيْضِ، وأمَرَنا بِاجْتِنابِ وطْئِهِ في وقْتِ الحَيْضِ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلى مَزِيَّةِ التّائِبِ والمُتَطَهِّرِ بِكَوْنِهِ تَعالى يُحِبُّهُ، ولَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ في جُمْلَةٍ واحِدَةٍ حَتّى كَرَّرَ ذَلِكَ في جُمْلَتَيْنِ، وأفْرَدَ كُلَّ وصْفٍ بِمَحَبَّةٍ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ (p-١٧٤)المُتَطَهِّرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى إباحَةَ الوَطْءِ لِلْمَرْأةِ الَّتِي ارْتَفَعَ عَنْها الحَيْضُ، عَلى الحالَةِ الَّتِي يَشاؤُها الزَّوْجُ ويَخْتارُها، مِن كَوْنِها مُقْبِلَةً أوْ مُدْبِرَةً، أوْ مُجَنِّبَةً أوْ مُضْطَجِعَةً، ومِن أيِّ شِقٍّ شاءَ، لِما في التَّنَقُّلِ مِن مَزِيدِ الِالتِذاذِ، والِاسْتِمْتاعِ بِالنَّظَرِ إلى سائِرِ بَدَنِها، والهَيْئاتِ المُحَرِّكَةِ لِلْباهِ. ونَبَّهَ بِالحَرْثِ عَلى أنَّهُ مَحَلُّ النَّسْلِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى تَحْرِيمِ الوَطْءِ في الدُّبُرِ لِأنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النَّسْلِ، وإذا كانُوا قَدْ مُنِعُوا مِن وطْءِ الحائِضِ لِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الوَطْءِ مِنَ الأذى بِدَمِ الحَيْضِ؛ فَلَأنْ يُمْنَعُوا مِنَ المَحَلِّ الَّذِي هو أكْثَرُ أذًى أوْلى وأحْرى. ولَمّا كانَ قُدِّمَ نَهْيٌ وأمْرٌ في الآياتِ السّابِقَةِ وفي هَذا، خُتِمَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِتَقْدِيمِ العَمَلِ الصّالِحِ، وأنَّ ما قَدَّمَهُ الإنْسانُ إنَّما هو عائِدٌ عَلى نَفْعِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِتَقْوى اللَّهِ تَعالى، وأُمِرَ بِأنْ يَعْلَمَ ويُوقِنَ اليَقِينَ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ أنّا مُلاقُو اللَّهِ؛ فَيُجازِينا عَلى أعْمالِنا. وأمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ، وهُمُ الَّذِينَ امْتَثَلُوا ما أمَرَ بِهِ واجْتَنَبُوا ما نَهى عَنْهُ. فَكانَ ابْتِداءُ هَذِهِ الآياتِ بِالتَّحْذِيرِ عَنْ مُعاطاةِ العِصْيانِ، واخْتِتامِها بِالتَّبْشِيرِ لِأهْلِ الإيمانِ آياتٍ تَعْجَزُ عَنْ وصْفِ ما تَضَمَّنَتْهُ البَدائِعُ الألْسُنُ، ويُذْعِنُ لِفَصاحَتِها الجِهْبِذُ اللَّسِنُ؛ جَمَعَتْ بَيْنَ بَراعَةِ اللَّفْظِ ونَصاعَةِ المَعْنى، وتَعَلُّقِ الجُمَلِ وتَأنُّقِ المَبْنى، مِن سُؤالٍ وجَوابٍ، وتَحْذِيرٍ مِن عِقابٍ، وتَرْغِيبٍ في ثَوابٍ، هَدَتْ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وتُلُقِّيَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أيْمانِكم ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكم واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٥] ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٦] ﴿وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٧] ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إنْ أرادُوا إصْلاحًا ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨] ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلّا أنْ يَخافا ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، العُرْضَةُ: فُعْلَةٌ مِنَ العَرْضِ، وهو بِمَعْنى المَفْعُولِ، كالفُرْقَةِ والقَبْضَةِ، يُقالُ: فُلانٌ عُرْضَةٌ لِكَذا، والمَرْأةُ عُرْضَةٌ لِلنِّكاحِ، أيْ: مُعَرَّضَةٌ لَهُ، قالَ كَعْبٌ: ؎عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ وقالَ حَسّانُ: ؎(وقالَ اللَّهُ قَدْ يَسَّرْتُ جُنْدًا ∗∗∗ هُمُ الأنْصارُ) عُرْضَتُها اللِّقاءُ وقالَ حَبِيبٌ: ؎مَتى كانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَوائِمِي ∗∗∗ وكَيْفَ صَفَتْ لِلْعاذِلِينَ عَزائِمِي ويُقالُ جَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْبَلاءِ، أيْ: مُعَرَّضًا، وقالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ: ؎وأدْماءُ مِثْلُ الفَحْلِ يَوْمًا عَرَضْتُها ∗∗∗ لِرَحْلِي وفِيها جُرْأةٌ وتَقاذُفُ وقِيلَ: هو اسْمُ ما تَعْرِضُهُ دُونَ الشَّيْءِ، مِن عَرْضِ العُودِ عَلى الإناءِ، فَيَعْتَرِضُ دُونَهُ، ويَصِيرُ حاجِزًا ومانِعًا. وقِيلَ: أصْلُ العُرْضَةِ القُوَّةُ، ومِنهُ يُقالُ لِلْجَمَلِ القَوِيِّ: هَذا عُرْضَةٌ لِلسَّفَرِ، أيْ: قَوِيٌّ عَلَيْهِ، ولِلْفَرَسِ الشَّدِيدِ الجَرْيِ عُرْضَةٌ لِارْتِحالِنا. اليَمِينُ: أصْلُها العُضْوُ، واسْتُعْمِلَ لِلْحَلِفِ لِما جَرَتِ العادَةُ في تَصافُحِ المُتَعاقِدَيْنِ، وتُجْمَعُ عَلى: أيْمانٍ، وعَلى: أيْمُنٌ، وفي العُضْوِ والحَلِفِ، وتُسْتَعْمَلُ اليَمِينُ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْعُضْوِ المُسَمّى بِاليَمِينِ، فَتُنْصَبُ عَلى الظَّرْفِ، تَقُولُ: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْرٍو، وهي في العُضْوِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ اليَمِينِ، ويُقالُ: (p-١٧٥)فُلانٌ مَيْمُونُ الطَّلْعَةِ، ومَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، ومَيْمُونُ الطّائِرِ. اللَّغْوُ: ما يَسْبِقُ بِهِ اللِّسانُ مِن غَيْرِ قَصْدٍ، قالَهُ الفَرّاءُ، وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ لِما لا يُعْتَدُّ بِهِ في الدِّيَةِ مِن أوْلادِ الإبِلِ لَغْوٌ. ويُقالُ: لَغا يَلْغُو لَغْوًا ولَغى يَلْغِي لَغًا، وقالَ ابْنُ المُظَفَّرِ: تَقُولُ العَرَبُ: اللَّغْوُ واللّاغِيَةُ واللَّواغِي واللُّغَوِيُّ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: اللَّغْوُ عِنْدَ العَرَبِ ما يُطْرَحُ مِنَ الكَلامِ اسْتِغْناءً عَنْهُ، ويُقالُ: هو ما لا يُفْهَمُ لَفْظُهُ. يُقالُ: لَغا الطّائِرُ يَلْغُو: صَوَّتَ، ويُقالُ: لَغا بِالأمْرِ: لَهِجَ بِهِ، يَلْغا، ويُقالُ: اشْتُقَّ مِن هَذا اللُّغَةُ، وقالَ ابْنُ عِيسى - وقَدْ ذُكِرَ أنَّ اللَّغْوَ ما لا يُفِيدُ - قالَ: ومِنهُ اللُّغَةُ لِأنَّها عِنْدَ غَيْرِ أهْلِها لَغْوٌ. وغَلِطَ في هَذا الِاشْتِقاقِ، فَإنَّ اللُّغَةَ إنَّما اشْتُقَّتْ مِن قَوْلِهِمْ: لَغى بِكَذا إذا أُولِعَ بِهِ. الحَلِيمُ: الصَّفُوحُ عَنِ الذَّنْبِ مَعَ القُدْرَةِ عَلى المُؤاخَذَةِ بِهِ، يُقالُ: حَلُمَ الرَّجُلُ يَحْلُمُ حِلْمًا، وهو حَلِيمٌ، وقالَ النّابِغَةُ الجَعْدِيُّ: ؎ولا خَيْرَ في حِلْمٍ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ ∗∗∗ مَوارِدُ تَحْمِي صَفْوَهُ أنْ يُكَدَّرا ويُقالَ: حَلِمَ الأدِيمُ يَحْلَمُ حَلْمًا، إذا تَثَقَّبَ وفَسَدَ، قالَ: ؎فَإنَّكَ والكِتابَ إلى عَلِيٍّ ∗∗∗ كَدابِغِهِ وقَدْ حَلِمَ الأدِيمُ وحَلَمَ في النَّوْمِ يَحْلُمُ حُلْمًا وحُلُمًا، وهو: حالِمٌ، ﴿وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعالِمِينَ﴾ [يوسف: ٤٤] . الإيلاءُ: مَصْدَرُ آلى، أيْ: حَلَفَ، ويُقالُ: تَألّى وائْتَلى، أيْ: حَلَفَ، ويُقالُ لِلْحَلِفِ: ألِيَّةٌ وألْوَةٌ وأُلْوَةٌ وإلْوَةٌ، وجَمْعُ ألِيَّةٍ ألايا، كَعَشِيَّةٍ وعَشايا. وقِيلَ: تُجْمَعُ ألُوَّةٌ عَلى ألايا، كَرَكُوبَةٍ ورَكائِبَ. التَّرَبُّصُ: التَّرَقُّبُ والِانْتِظارُ، مَصْدَرُ تَرَبَّصَ، وهو مَقْلُوبُ التَّبَصُّرِ، قالَ: ؎تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّها ∗∗∗ تُطَلَّقُ يَوْمًا أوْ يَمُوتُ حَلِيلُها فاءَ: يَفِيءُ فَيْأً وفَيْأةً: رَجَعَ، وسُمِّيَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوالِ فَيْأً لِأنَّهُ رَجَعَ عَنْ جانِبِ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وهو سَرِيعُ الفَيْأةِ، أيِ: الرُّجُوعِ، وقالَ عَلْقَمَةُ: ؎فَقُلْتُ لَها فِيئِي فَما تَسْتَفِزِّينَ ∗∗∗ ذَواتَ العُيُونِ والبَنانِ المُخَضَّبَ العَزْمُ: ما يُعْقَدُ عَلَيْهِ القَلْبُ ويُصَمَّمُ، ويُقالُ: عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِمُ عَزْمًا وعَزَمًا وعَزِيمَةً وعَزامًا، ويُقالُ: أعْزَمَ إعْزامًا، وعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ: أقْسَمْتُ. الطَّلاقُ: انْحِلالُ عَقْدِ النِّكاحِ، يُقالُ مِنهُ: طُلِّقَتْ تُطَلَّقُ فَهي طالِقٌ وطالِقَةٌ، قالَ الأعْشى: ؎أيا جارَتِي بِينِي فَإنَّكِ طالِقَهْ ويُقالُ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللّامِ، حَكاهُ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى، وأنْكَرَهُ الأخْفَشُ. القُرْءُ: أصْلُهُ في اللُّغَةِ الوَقْتُ المُعْتادُ تَرَدُّدُهُ، وقُرْءُ النَّجْمِ: وقْتُ طُلُوعِهِ ووَقْتُ غُرُوبِهِ، ويُقالُ مِنهُ: أقْرَأ النَّجْمُ، أيْ: طَلَعَ أوْ غَرُبَ، وقُرْءُ المَرْأةِ: حَيْضُها وطُهْرُها، فَهو مِنَ الأضْدادِ، قالَهُ أبُو عَمْرٍو، ويُونُسُ، وأبُو عُبَيْدٍ. ويُقالُ مِنهُما: أقَرَأتِ المَرْأةُ. وقالَ أبُو عَمْرٍو: مِنَ العَرَبِ مَن يُسَمِّي الحَيْضَ مَعَ الطَّهُورِ قُرْءًا. وقالَ بَعْضُهم: القُرْءُ ما بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ. وقالَ الأخْفَشُ: أقَرَأتْ صارَتْ صاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإذا حاضَتْ قُلْتَ قَرَتْ بِغَيْرِ ألِفٍ. وقِيلَ: القُرْءُ أصْلُهُ الجَمْعُ مِن قَوْلِهِمْ: قَرَأْتُ الماءَ في الحَوْضِ: جَمَعْتُهُ، ومِنهُ: ما أقَرَأتْ هَذِهِ النّاقَةُ سَلًا قَطُّ، أيْ: ما جَمَعَتْ في بَطْنِها جَنِينًا، فَإذا أُرِيدَ بِهِ الحَيْضُ: فَهو اجْتِماعُ الدَّمِ في الرَّحِمِ، أوِ الطُّهْرُ: فَهو اجْتِماعُ الدَّمِ في البَدَنِ. الرَّحِمُ: الفَرْجُ مِنَ المُؤَنَّثِ، وقَدْ يُسْتَعارُ لِلْقَرابَةِ، يُقالُ: بَيْنَهُما رَحِمٌ، أيْ قَرابَةٌ، ويَصِلُ الرَّحِمَ. البَعْلُ: الزَّوْجُ؛ يُقالُ مِنهُ: بَعَلَ يَبْعَلُ بُعُولَةً، أيْ: صارَ بَعْلًا، وباعَلَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إذا جامَعَها، وهي تُباعِلُهُ إذا فَعَلَتْ ذَلِكَ مَعَهُ، وامْرَأةٌ حَسَنَةُ التَّبْعِيلِ إذا كانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِها، والبَعْلُ أيْضًا المَلِكُ، وبِهِ سُمِّيَ الصَّنَمُ لِأنَّهُ المُكْتَفِي بِنَفْسِهِ، ومِنهُ بَعْلُ النَّخْلِ. وجَمْعُ البَعْلِ: بُعُولٌ وبُعُولَةٌ، كَفَحْلٍ وفُحُولَةٍ، التّاءُ فِيهِ لِتَأْنِيثِ الجَمْعِ ولا يَنْقاسُ؛ فَلا يُقالُ في كُعُوبٍ جَمْعُ كَعْبٍ: كُعُوبَةٌ. الرَّجُلُ: مَعْرُوفٌ، يُجْمَعُ عَلى: رِجالٍ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّجْلَةِ، وهي (p-١٧٦)القُوَّةُ، يُقالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولَةِ والرُّجْلَةِ، وهو أرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ، أيْ: أقْواهُما، وفَرَسٌ رَجِيلٌ: قَوِيٌّ عَلى المَشْيِ، ومِنهُ: سُمِّيَتِ الرِّجْلُ لِقُوَّتِها عَلى المَشْيِ، وارْتَجَلَ الكَلامَ قَوِيَ عَلَيْهِ، وتَرَجَّلَ النَّهارُ قَوِيَ ضِياؤُهُ، ويُقالُ: رَجُلٌ ورِجْلَةٌ، كَما قالُوا: امْرُؤٌ وامْرَأةٌ، وكَتَبْتُ مِن خَطِّ أُسْتاذِنا أبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: ؎كُلُّ جارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا ∗∗∗ غَيْرَ جِيرانِي بَنِي جَبَلَهْ ؎هَتَكُوا جَيْبَ فَتاتِهِمْ ∗∗∗ لَمْ يُبالُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ الدَّرَجَةُ: المَنزِلَةُ، وأصْلُهُ مِن دَرَجْتُ الشَّيْءَ وأدْرَجْتُهُ: طَوَيْتُهُ، ودَرَجَ القَوْمُ: فَنُوا، وأدْرَجَهُمُ اللَّهُ، فَهو كَطَيِّ الشَّيْءِ مَنزِلَةً مَنزِلَةً، والدَّرَجَةُ المَنزِلَةُ مِن مَنازِلِ الطَّيِّ، ومِنهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقى إلَيْها. الإمْساكُ لِلشَّيْءِ: حَبْسُهُ، ومِنهُ اسْمانِ: مَسْكٌ ومَساكٌ، يُقالُ: إنَّهُ لَذُو مَسْكٍ ومِيساكٍ، إذا كانَ بَخِيلًا، وفِيهِ مُسْكَةٌ مِن خَيْرٍ أيْ: قُوَّةٌ، وتَماسُكٌ ومَسِيكٌ: بَيِّنُ المَساكَةُ. التَّسْرِيحُ: الإرْسالُ، وسَرَّحَ الشَّعْرَ: خَلَّصَ بَعْضَهُ مِن بَعْضٍ، والماشِيَةَ: أرْسَلَها لِتَرْعى، والسَّرْحُ: الماشِيَةُ، وناقَةٌ مَسْرَحٌ: سَهْلَةُ المَسِيرِ لِانْطِلاقِها فِيهِ. ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ وخَتَنِهِ بَشِيرِ بْنِ النُّعْمانِ، كانَ بَيْنَهُما شَيْءٌ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ولا يُكَلِّمَهُ ولا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وجَعَلَ يَقُولُ: حَلَفْتُ بِاللَّهِ، فَلا يَحِلُّ لِي إلّا بِرُّ يَمِينِي. وقالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ في الرَّجُلِ يَحْلِفُ أنْ لا يَصِلَ رَحِمَهُ ولا يُصْلِحَ بَيْنَ النّاسِ؛ وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: في أبِي بَكْرٍ حِينَ حَلَفَ لا يُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ في الإفْكِ؛ وقالَ المُقاتِلانِ ابْنُ حَيّانَ وابْنُ سُلَيْمانَ: حَلَفَ لا يُنْفِقُ عَلى ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتّى يُسْلِمَ؛ وقِيلَ: حَلَفَ أنْ لا يَأْكُلَ مَعَ الأضْيافِ حِينَ أخَّرَ ولَدُهُ عَنْهُمُ العَشاءَ، وغَضِبَ هو عَلى ولَدِهِ. وقالَتْ عائِشَةُ: نَزَلَتْ في تَكْرِيرِ الأيْمانِ بِاللَّهِ، فَنَهى أنْ يُحْلَفَ بِهِ بَرًّا، فَكَيْفَ فاجِرًا. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِتَقْوى اللَّهِ تَعالى، وحَذَّرَهم يَوْمَ المِيعادِ؛ نَهاهم عَنِ ابْتِذالِ اسْمِهِ، وجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِما يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ دائِمًا؛ لِأنَّ مَن يُتَّقى ويُحْذَرُ تَجِبُ صِيانَةُ اسْمِهِ وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ مِن كَوْنِهِ يُذْكَرُ في كُلِّ ما يُحْلَفُ عَلَيْهِ، مِن قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ، عَظِيمٍ أوْ حَقِيرٍ؛ لِأنَّ كَثْرَةَ ذَلِكَ تُوجِبُ عَدَمَ الِاكْتِراثِ بِالمَحْلُوفِ بِهِ. وقَدْ تَكُونُ المُناسَبَةُ بِأنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالتَّحَرُّزِ في أفْعالِهِمُ السّابِقَةِ مِنَ: الخَمْرِ، والمَيْسِرِ، وإنْفاقِ العَفْوِ، وأمْرِ اليَتامى، ونِكاحِ مَن أشْرَكَ، وحالِ وطْءِ الحائِضِ؛ أمَرَهم تَعالى بِالتَّحَرُّزِ في أقْوالِهِمْ، فانْتَظَمَ بِذاكَ أمْرُهم بِالتَّحَرُّزِ في الأفْعالِ والأقْوالِ. واخْتَلَفُوا في فَهْمِ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ﴾، وهو خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى الِاخْتِلافِ في اشْتِقاقِ العُرْضَةِ، فَقِيلَ: نُهُوا عَنْ أنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ مَعَدًّا لِأيْمانِهِمْ فَيَحْلِفُوا بِهِ في البِرِّ والفُجُورِ؛ فَإنَّ الحِنْثَ مَعَ الإكْثارِ فِيهِ قِلَّةُ رَعْيٍ بِحَقِّ اللَّهِ تَعالى، كَما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ أنَّها نَزَلَتْ في تَكْثِيرِ اليَمِينِ بِاللَّهِ، نُهِيَ أنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِهِ بَرًّا فَكَيْفَ فاجِرًا ؟ وقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَن أكْثَرَ الحَلِفَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ﴾ [القلم: ١٠]، وقالَ: ﴿واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] . والعَرَبُ تُمْدَحُ بِالإقْلالِ مِنَ الحَلِفِ، قالَ كُثَيِّرٌ: ؎قَلِيلٌ الألايا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ∗∗∗ إذا صَدَرَتْ مِنهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ والحِكْمَةُ في النَّهْيِ عَنْ تَكْثِيرِ الأيْمانِ بِاللَّهِ أنَّ ذَلِكَ لا يُبْقِي لِلْيَمِينِ في قَلْبِهِ وقْعًا، ولا يُؤْمَنُ مِن إقْدامِهِ عَلى اليَمِينِ الكاذِبَةِ، وذِكْرُ اللَّهِ أجَلُّ مِن أنْ يُسْتَشْهَدَ بِهِ في الأعْراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وقِيلَ: المَعْنى: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ قُوَّةً لِأيْمانِكم، وتَوْكِيدًا لَها، ورُوِيَ عَنْ قَرِيبٍ مِن هَذا المَعْنى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وإبْراهِيمَ، ومُجاهِدٍ، والرَّبِيعِ، وغَيْرِهِمْ؛ قالَ: المَعْنى فِيما تُرِيدُونَ الشِّدَّةَ فِيهِ مِن تَرْكِ صِلَةِ الرَّحِمِ، والبِرِّ، والإصْلاحِ. وقِيلَ المَعْنى: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ حاجِزًا ومانِعًا مِنَ البِرِّ والإصْلاحِ، ويُؤَكِّدُهُ قَوْلُ مَن قالَ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ، أوْ في أبِي بَكْرٍ، عَلى ما تَقَدَّمَ في سَبَبِ النُّزُولِ؛ فَيَكُونُ المَعْنى: أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَحْلِفُ عَلى بَعْضِ الخَيْراتِ مِن صِلَةِ رَحِمٍ، (p-١٧٧)وإصْلاحِ ذاتِ بَيْنٍ، أوْ إحْسانٍ إلى أحَدٍ، أوْ عِبادَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أخافُ اللَّهَ أنْ أحْنَثَ في يَمِينِي، فَيَتْرُكُ البِرَّ في يَمِينِهِ؛ فَنُهُوا أنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ حاجِزًا لِما حَلَفُوا عَلَيْهِ. ﴿لِأيْمانِكُمْ﴾، تَحْتَمِلُ اللّامُ أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِـ ﴿عُرْضَةً﴾؛ فَتَكُونُ كالمُقَوِّيَةِ لِلتَّعَدِّي، أوْ مَعَدًّا ومَرْصَدًا لِأيْمانِكم، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: (ولا تَجْعَلُوا)؛ فَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ: لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأجْلِ أيْمانِكم. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالأيْمانِ هُنا الِاقْتِسامُ، لا المُقْسَمُ عَلَيْهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: حاجِزًا لِما حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وسُمِّيَ المَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِاليَمِينِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: (إذا حَلَفْتَ عَلى يَمِينٍ فَرَأيْتَ غَيْرَها خَيْرًا مِنها فَأْتِ الَّذِي هو خَيْرٌ، وكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ)، أيْ: عَلى شَيْءٍ مِمّا يُحْلَفُ عَلَيْهِ. انْتَهى كَلامُهُ. ولا حاجَةَ هُنا لِلْخُرُوجِ عَنِ الظّاهِرِ، وإنَّما احْتَجَّ في الحَدِيثِ إلى أنَّهُ أطْلَقَ اليَمِينَ، ويُرادُ بِها مُتَعَلِّقُها؛ لِأنَّهُ قالَ: إذا حَلَفْتَ عَلى يَمِينٍ، فَعَدّى حَلَفْتَ بِعَلى؛ فاحْتِيجَ إلى هَذا التَّأْوِيلِ، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يُحْوِجُ إلى هَذا التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمّا حَمَلَ ﴿عُرْضَةً﴾ عَلى أنَّ مَعْناهُ حاجِزًا ومانِعًا؛ اضْطُرَّ إلى هَذا التَّأْوِيلِ. ﴿أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ﴾، قالَ الزَّجّاجُ، وتَبِعَهُ التِّبْرِيزِيُّ: ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: بِرُّكم وتَقْواكم وإصْلاحُكم أمْثَلُ وأوْلى، وجَعَلَ الكَلامَ مُنْتَهِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لِأيْمانِكُمْ﴾، ومَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي فِيها النَّهْيُ عِنْدَهُ أنَّها في الرَّجُلِ إذا طَلَبَ مِنهُ فِعْلَ خَيْرٍ ونَحْوَهُ اعْتَلَّ بِاللَّهِ فَقالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وهو لَمْ يَحْلِفْ، وقَدَّرَ التِّبْرِيزِيُّ خَبَرَ المُبْتَدَأِ المَحْذُوفِ بِأنَّ المَعْنى: أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ خَيْرٌ لَكم مِن أنْ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم، وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّجّاجُ والتِّبْرِيزِيُّ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ فِيهِ اقْتِطاعُ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ مِمّا قَبْلَهُ، والظُّلْمُ هو اتِّصالُهُ بِهِ؛ ولِأنَّ فِيهِ حَذْفًا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا، عَطْفُ بَيانٍ لِأيْمانِكم، أيْ: لِلْأُمُورِ المَحْلُوفِ عَلَيْها الَّتِي هي: البِرُّ والتَّقْوى والإصْلاحُ بَيْنَ النّاسِ. انْتَهى كَلامُهُ. وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ فِيهِ مُخالَفَةً لِلظّاهِرِ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ مِنَ الأيْمانِ هي الأقْسامُ، والبِرُّ والتَّقْوى والإصْلاحُ هي المُقْسَمُ عَلَيْها، فَهُما مُتَبايِنانِ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيانٍ عَلى الأيْمانِ، لَكِنَّهُ لَمّا تَأوَّلَ الأيْمانَ عَلى أنَّها المَحْلُوفُ عَلَيْها؛ ساغَ لَهُ ذَلِكَ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لا حاجَةَ تَدْعُونا إلى تَأْوِيلِ الأيْمانِ بِالأشْياءِ المَحْلُوفِ عَلَيْها، وعَلى مَذْهَبِهِ تَكُونُ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ في مَوْضِعِ جَرٍّ، ولَوِ ادَّعى أنْ يَكُونَ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ وما بَعْدَهُ بَدَلًا مِن (أيْمانِكم) لَكانَ أوْلى؛ لِأنَّ عَطْفَ البَيانِ أكْثَرُ ما يَكُونُ في الأعْلامِ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في التَّقْدِيرِ، فَقِيلَ: كَراهَةَ أنْ تَبَرُّوا، قالَهُ المَهْدَوِيُّ. أوْ: لِتَرْكِ أنْ تَبَرُّوا، قالَهُ المُبَرِّدُ. وقِيلَ: لِأنْ لا تَبَرُّوا ولا تَتَّقُوا ولا تُصْلِحُوا، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والطَّبَرِيُّ، كَقَوْلِهِ: ؎فَخالَفَ فَلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً أيْ: لا تَهْبِطُ، وقِيلَ: إرادَةُ أنْ تَبَرُّوا، والتَّقادِيرُ الأُوَلُ مُتَلاقِيَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، ورُوِيَ هَذا المَعْنى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وإبْراهِيمَ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ، والسُّدِّيِّ، ومُقاتِلٍ، والفَرّاءِ، وابْنِ قُتَيْبَةَ، والزَّجّاجِ، في آخِرِ مَن رُوِيَ عَنْهم أنَّ المَعْنى: لا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ أنْ لا تَبَرُّوا، فَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ (ولا تَجْعَلُوا)، ولا يَظْهَرُ هَذا المَعْنى لِما فِيهِ مِن تَعْلِيلِ امْتِناعِ الحَلِفِ بِانْتِفاءِ البِرِّ، بَلْ وُقُوعُ الحَلِفِ مُعَلَّلٌ بِانْتِفاءِ البِرِّ، ولا يَنْعَقِدُ مِنهُ شَرْطٌ وجَزاءٌ لَوْ قُلْتَ في مَعْنى هَذا النَّهْيِ وعِلَّتِهِ: إنْ حَلَفْتَ بِاللَّهِ بَرَرْتَ، لَمْ يَصِحَّ، وذَلِكَ كَما تَقُولُ: لا تَضْرِبْ زَيْدًا لِئَلّا يُؤْذِيَكَ، فانْتَفَتِ الأذِيَّةُ لِلِامْتِناعِ مِنَ الضَّرْبِ، والمَعْنى: إنْ لَمْ تَضْرِبْهُ لَمْ يُؤْذِكَ، وإنْ ضَرَبْتَهُ أذاكَ؛ فَلا يَتَرَتَّبُ عَلى الِامْتِناعِ مِنَ الحَلِفِ انْتِفاءُ البِرِّ، ولا عَلى وُجُودِهِ وجُودُهُ، بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلى الِامْتِناعِ مِنَ الحَلِفِ وُجُودُ البِرِّ، وعَلى وُقُوعِ الحَلِفِ انْتِفاءُ البِرِّ، وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ يُؤَيِّدُ القَوْلَ بِأنَّ التَّقْدِيرَ: إرادَةَ أنْ تَبَرُّوا؛ لِأنَّهُ يُعَلِّلُ الِامْتِناعَ مِنَ الحَلِفِ بِإرادَةِ وُجُودِ البِرِّ، ويَتَعَلَّقُ مِنهُ (p-١٧٨)الشَّرْطُ والجَزاءُ، تَقُولُ: إنْ حَلَفْتَ لَمْ تَبَرَّ، وإنْ لَمْ تَحْلِفْ بَرَرْتَ. وقَدْ شَرَحَ بَعْضُ العُلَماءِ هَذا المَعْنى فَقالَ: إنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا عِلَّةً لِهَذا النَّهْيِ، أيْ: إرادَةَ أنْ تَبَرُّوا، والمَعْنى: إنَّما نَهْيُكم عَنْ هَذا لِما في تَوَقِّي ذَلِكَ مِنَ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ؛ فَتَكُونُونَ مَعاشِرَ المُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أتْقِياءَ مُصْلِحِينَ في الأرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ، فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِن تَرْكِ الحَلِفِ حُصُولُ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ ؟ قُلْنا: لِأنَّ مَن تَرَكَ الحَلِفَ لِاعْتِقادِهِ أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى أعْظَمُ وأجَلُّ أنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ المُعَظَّمِ في طَلَبِ الدُّنْيا، إنَّ هَذا مِن أعْظَمِ أبْوابِ البِرِّ. وأمّا مَعْنى التَّقْوى فَظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ اتَّقى أنْ يَصْدُرَ مِنهُ ما يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى، وأمّا الإصْلاحُ بَيْنَ النّاسِ؛ فَلِأنَّ النّاسَ مَتى اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعالى إلى هَذا الحَدِّ، مُحْتَرِزًا عَنِ الإخْلالِ بِواجِبِ حَقِّهِ، اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ، وكَوْنَهُ صادِقًا بَعِيدًا مِنَ الأغْراضِ الفاسِدَةِ؛ فَيَتَقَبَّلُونَ قَوْلَهُ؛ فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ. انْتَهى هَذا الكَلامُ. وفي (المُنْتَخَبِ) - وهو بَسْطُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ - قالَ: ومَعْناها عَلى الأُخْرى يَزِيدُ عَلى أنْ يَكُونَ عُرْضَةً، بِمَعْنى مُعَرَّضًا لِلْأمْرِ، قالَ: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ مُعَرَّضًا لِأيْمانِكم فَتَتَبَذَّلُوهُ بِكَثْرَةِ الحَلِفِ بِهِ؛ ولِذَلِكَ ذَمَّ مَن أنْزَلَ فِيهِ: ﴿ولا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ﴾ [القلم: ١٠] بِأشْنَعِ المَذامِّ، وجَعَلَ الحَلّافَ مُقَدِّمَتَها، و﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أيْ: إرادَةَ أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا؛ لِأنَّ الحَلّافَ مُجْتَرِئٌ عَلى اللَّهِ، غَيْرُ مُعَظِّمٍ لَهُ؛ فَلا يَكُونُ بَرًّا مُتَّقِيًا، ولا يَثِقُ بِهِ النّاسُ؛ فَلا يُدْخِلُونَهُ في وساطَتِهِمْ وإصْلاحِ ذاتِ بَيْنِهِمْ. وقِيلَ: المَعْنى: ولا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كاذِبِينَ لِتَبَرُّوا المَحْلُوفَ لَهم، وتَتَّقُوهم وتُصْلِحُوا بَيْنَهم بِالكَذِبِ، رُوِيَ هَذا المَعْنى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ فَقَيَّدَ المَعْلُومَ بِالكَذِبِ، وقَيَّدَ العِلَّةَ بِالنّاسِ، والإصْلاحَ بِالكَذِبِ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَتَعَلَّقُ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ بِالفِعْلِ وبِالعُرْضَةِ، أيْ: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ - لِأجْلِ أيْمانِكم بِهِ - عُرْضَةً لِأنْ تَبَرُّوا. انْتَهى. ولا يَصِحُّ هَذا التَّقْدِيرُ؛ لِأنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ العامِلِ والمَعْمُولِ بِأجْنَبِيٍّ؛ لِأنَّهُ عَلَّقَ ﴿لِأيْمانِكُمْ﴾ بِتَجْعَلُوا، وعَلَّقَ ”لِأنْ تَبَرُّوا“ بِعُرْضَةً، فَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ ﴿عُرْضَةً﴾ وبَيْنَ ”لِأنْ تَبَرُّوا“ بِقَوْلِهِ ﴿لِأيْمانِكُمْ﴾، وهو أجْنَبِيٌّ مِنهُما؛ لِأنَّهُ مَعْمُولٌ عِنْدَهُ لِتَجْعَلُوا، وذَلِكَ لا يَجُوزُ، ونَظِيرُ ما أجازَهُ أنْ تَقُولَ: امْرُرْ واضْرِبْ بِزَيْدٍ هِنْدًا، فَهَذا لا يَجُوزُ، ونَصُّوا عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ: جاءَنِي رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ راكِبٌ أبْلَقَ؛ لِما فِيهِ مِنَ الفَصْلِ بِالأجْنَبِيِّ. والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، والعَمَلُ فِيهِ قَوْلُهُ ﴿لِأيْمانِكُمْ﴾، التَّقْدِيرُ: لِأقْسامِكم عَلى أنْ تَبَرُّوا؛ فَنُهُوا عَنِ ابْتِذالِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، وجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِأقْسامِهِمْ عَلى البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ اللّاتِي هُنَّ أوْصافٌ جَمِيلَةٌ؛ لِما نَخافُ في ذَلِكَ مِنَ الحِنْثِ، (p-١٧٩)فَكَيْفَ إذا كانَتْ أقْسامًا عَلى ما تُنافِي البِرَّ والتَّقْوى والإصْلاحَ ؟ وعَلى هَذا يَكُونُ الكَلامُ مُنْتَظِمًا، واقِعًا كُلُّ لَفْظٍ مِنهُ مَكانَهُ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَصارَ في مَوْضِعِ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، والخِلافُ في تَقْدِيرِ الجَرِّ، والجَرُّ عَلى وجْهَيْنِ: عَطْفِ البَيانِ، والبَدَلِ، والنَّصْبُ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ - عَلى الِاخْتِلافِ في تَقْدِيرِهِ - وإمّا عَلى أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِـ (أيْمانِكم) عَلى إسْقاطِ الخافِضِ. (واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِما، فالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الحَلِفُ؛ لِأنَّهُ مِنَ المَسْمُوعاتِ، والَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالعِلْمِ هو إرادَةُ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ؛ إذْ هو شَيْءٌ مَحَلُّهُ القَلْبُ، فَهو مِنَ المَعْلُوماتِ، فَجاءَتْ هاتانِ الصِّفَتانِ مُنْتَظِمَتَيْنِ لِلْعِلَّةِ والمَعْلُولِ، وجاءَتا عَلى تَرْتِيبِ ما سَبَقَ مِن تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلى العِلْمِ، كَما قَدَّمَ الحَلِفَ عَلى الإرادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب