الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾: قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته [[هي عمرة بنت رواحة الأنصارية، وهي امرأة بشير بن سعد والد النعمان. ينظر: "الاستيعاب" 4/ 441.]]، بشير بن النعمان [[هو بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي والد النعمان، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، ويقال: إنه أول من بايع من الأنصار أبا بكر يوم السقيفة واستشهد يوم عين التمر مع خالد بن الوليد سنة 12هـ. ينظر: "الاستيعاب" 1/ 252، وهذا هو زوج أخت عبد الله، وفي "الإصابة" 1/ 160 ترجمة لبشير بن النعمان بن عبيد، ويقال له مقرن بن أوس بن مالك الأنصاري الأوسي، قال ابن قداح: قتل يوم الحرة وقتل أبوه يوم اليمامة لكنه ليس المقصود والله أعلم. ينظر: "الإصابة" 1/ 160.]]، حلف أن لا يكلمَه، ولا يَدْخُلَ بينه، وبين خصم له [[في (أ) كأنها: ولا يدخل بيته، وعند الثعلبي 2/ 1007: أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصم له، فلعل في نسخ "البسيط" سقط كلمات، والمعنى صحيح على كل حال.]]، وجعل يقول: قد حلف [[في (ي) و (ش): (حلفت).]] بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي، فأنزل الله هذه الآية [[ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 206، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1007، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، وابن حجر في "العجاب" 1/ 576، وعزاه في "زاد المسير" 1/ 253، "البحر المحيط" 2/ 176 إلى ابن عباس، وقد ذكروا أسبابا أخرى لنزول الآية، فقيل: نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - حين حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، وقيل: نزلت فيه حين حلف لا ينفق على مسطح حين خاض في الإفك.]]. والعُرضَة عند أهل اللغة: مُشْتَقَّةٌ من أصلين: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور، أنها مشتقة من [[في (ي) زيادة وتكرار من أصلين أحدهما: الاعتراض.]] الاعتراض بمعنى المنع، وذلك أن المعترض بين الشيئين مانع من وصول أحدهما إلى الآخر، تقول العرب: هو له دونه عرضة، إذا كان يعترض له دون الوصول إلى ذلك الشيء. قال الأزهري: والأصل فيه: أن الطريق المسلوك إذا اعترض فيه بناءٌ أو جِذْعٌ أو جَبَلٌ مَنَعَ السَابِلَةَ من سُلُوكه، فوضِعَ الاعتراضُ موضع المنع لهذا المعنى، وكل شيء منعك عن [[في (ي) و (م): (من).]] أمر تريده فقد اعترض عليك وتعرض لك، ومن هذا يقال للمعارض في الكلام: معترض، واعترض عليه في كذا، أي: منع كلامه عن الاستمرار على وجهه [["تهذيب اللغة" 3/ 2394 - 2401 مادة "عرض".]]. وعلى هذا الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 144.]] والزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 298 - 299.]] وابن الأنباري، وأكثر أقوال المفسرين موافق لهذا الأصل [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 400 - 402، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 407، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 77، "تفسير الثعلبي" 2/ 1011.]]. قال الحسن [[ذكره في "الوسيط" 1/ 330.]] وطاوس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 400، وعزاه في الدر 1/ 479 إلى عبد الرزاق.]] وقتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 400.]]: لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى، من حيث تتعمدون اليمين تعتلوا [[في (ي) (لتعلموا).]] بها. وقال ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 401 بمعناه، وعزاه في "الدر" 1/ 479 إلى ابن المنذر. و"ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 407.]] ومجاهد [[رواه عنه الطبري 2/ 401 - 402 بمعناه.]] والربيع [[رواه عنه الطبري 2/ 402 بمعناه.]]: لا تجعلوا [[ليست في (م) ولا (أ).]] اليمين بالله حجة في المنع، والتقدير: لا تجعلوا الله مانعاً من البر والتقوى باعتراضكم به حالفين. الأصل الثاني: في اشتقاق العُرْضَة: أنها من الشدة والقوة، تقول العرب: لفلان عُرْضَة يصرع بها الناس، أي: قُوة، ودابة عُرْضَةٌ للسفر، أي: قوية عليه والعرضيّ من النوق والإبل: الذي فيه نشاط وقوة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1009.]]. قال الشاعر: واعْرَوْرَتِ العُلُطَ العُرْضِيَّ تَرْكُضُه ... أمُّ الفَوارسِ بالدِّيدَاءِ والرَّبَعَه [[ورد البيت هكذا: واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالدأداء والربعة والبيت من البسيط، وهو لأبي الأسود الرؤاسي، في "لسان العرب" 3/ 1311 مادة: دأدأ، 5/ 3069 مادة: علط، "تهذيب اللغة" 3/ 240 مادة: "عرض"، 3/ 2375 مادة "عرا" "جمهرة اللغة" ص 226، "ديوان الأدب" 1/ 238. انظر "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 4/ 196.]] وقال الليث: يقال: فلان فيه على أعدائه عُرْضِيَّة، وفي الفَرَس عرضِيَّة [[في (ش) و (ي) (عرضة).]] في عَدْوِه. وأنشد القطامي: بِيضُ الهِجَانِ التى كانت تكونُ بها ... عُرْضِيّةٌ وهِبَابٌ حينَ يَرْتَحِلُ [[في (ش) (هبات)، وفي (ي) (ترتحل) وهي كذلك في الديوان.]] [[البيت في ديوانه ص 23 - 30 ط دار الثقافة، بيروت.]] [[ينظر في عرض: "تهذيب اللغة" 3/ 2394 - 2403، "المفردات" 332، "عمدة الحفاظ" 3/ 66 - 74، "اللسان" 5/ 2884 - 2896.]] فالمعنى على هذا الأصل: لا تجعلوا الحلف بالله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا، ويحتمل أن يكون المعنى على هذا الأصل: النهي عن المبادرة إلى الأيمان، كأنه يقول: لا تجعلوا اسم الله قوة لأيمانكم تبتدر من أفواهكم مسرعين بذكره. وهذا المعنى مروي عن عائشة رضي الله عنها؛ لأنها قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 402.]]. وتفسير ابن عباس في رواية عطاء موافق لهذا المعنى؛ لأنه قال: يريد: لا يحلف الرجل في كل حق وباطل، ينبغي له أن ينزه الله عن كثير من الأيمان [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي.]]. والأيمان: جمع [[في (ش) (جميع).]] يمين، وهي القسم، وأصلها: من اليُمْن الذي هو البركة، فاليمين عَقْدُ الأمرِ بما يُتَبَرَّكُ [[في (م) (يتبرك به بذكره).]] بذكره [[ينظر في اليمين: "تهذيب اللغة" 4/ 3984 - 3987، "اللسان" 8/ 4967 - 4971.]]. وقوله تعالى: ﴿أَن تَبَرُّوا﴾ اختلف أهل المعاني في تقديره، فقال الزجاج: تقديره [[ساقط من (ش).]]: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فسقط (في) ووصل معنى الفعل [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 298.]]. وقال أبو عبيد: معناه: أن لا تبروا، فحذفت لا، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176] وكقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: 15] والمعنى: لئلا تضلوا، أن لا تميد بكم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1011.]]. وقال أبو العباس: تقديره: لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا، فحذف المضاف. وقال الكسائي: تقديره: لأن تبروا [[من قوله: تقديره. ساقط من (أ) و (م).]] أي: لا تتخذوا اليمين [[قوله: لا تتخذوا اليمين. ساقط من (أ) و (م) و (ش).]] مانعةً لأن تبروا [[وقد ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 312، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 130 أن موضع (أن) خفض على إضمار الخافض، فيكون في أن تبرو.]]. وهذه التقديرات كلها توافق تفسير العرضة من الاعتراض بمعنى المنع. وإن جعلنا تفسير العرضة القوة لم يصلح فيه تقدير الزجاج والكسائي. وقال عطاء: أراد [[ساقط من (ي).]]: أن لا تبروا [[ذكره في "زاد المسير" 1/ 254.]]، وهذا موافق لتفسير الآية عنده، والتقدير: لا تحلفوا بالله إلا أن يكون اليمين لقصد بر أو تقوى أو إصلاح بين الناس، فلكم أن تحلفوا [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي.]]. فالعرضة على القول الأول بمعنى المعترض، وعلى القول الثاني بمعنى القوة والشدة، وعلى القولين جميعا معنى قوله: لا تجعلوا الله، لا تجعلوا اسم الله، فالله تعالى هاهنا يراد [[في (ي) (يريد).]] به التسمية لا الاسم الذي هو بمعنى الذات. وأما محل (أن) من الإعراب، فقال أبو إسحاق: الاختيار فيه النصب عند جميع النحويين؛ لأنه لما حذف الخافض وصل الفعل، المعنى: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فلما سقطت (في) أفضى معنى الاعتراض [[في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298: لمعنى، وفي "الإغفال" لأبي علي 509 أقصى معنى الاعتراض.]] فنصب (أن)، ويكون تأويله: (لا يمنعكم) [[في (ش): (يمنعنكم).]] الإيمان بالله البر والتقوى والإصلاح بين الناس، قال: وجائز عند كثير من النحويين أن يكون موضعُها خفضًا، وإن سقطت (في)؛ لأنَّ (إن) الحذف معها مستعمل، يقول [[في (ش): (تقول).]]: جئت لأن تضرب زيدًا، وجئت أن تضرب زيدًا، فتحذف اللام مع (أن) ولا تحذف مع المصدر لو قلت: جئت ضربَ زيدٍ، وأنت تريد: لضرب زيد، لم يجز كما جاز مع (أن)، لأنّ (أنْ) إذا وُصِلَت دل ما بعدها على الاستقبال، والمعنى [[في (أ) و (م) و (ش): والمضي، وما أثبته من (ي) موافق لما في "معاني القرآن".]] تقول: جئتك أن ضربت زيدًا، وجئتك أن تضربَ زيدًا، فلذلك جاز حذف اللام، وإذا [[في (ي) (إذا).]] قلت: جئتك ضَرْبَ زيد، لم يدل الضربُ على معنى مضى [[في "معاني القرآن": على معنى الاستقبال.]] ولا استقبال [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 298 - 299 بمعناه.]]. وحرر بعض أصحابه هذا الفصل فقال: معنى هذا: أنّ (أنْ) لما وُصِل بالفعل احتمل الحذف كما يحتمل (الذي) إذا وصل بالفعل من حذف ضمير المفعول ما لا يحتمله الألف واللام إذا وُصل بالاسم، نحو: الذي ضربت، يريد: ضربته، فأما: الضاربه [[في (ش) (المضاربة).]] أنا زيد، فلا يحسن إلّا بالهاء، وذلك أن الفعل أثقل، وهو بالحذف أحق. وأنكر أبو علي الفارسي هذا الفصل كلَّه على أبي إسحاق، وأجاز حذف اللام من المصدر، وقال: الذي منعه جائز غير ممتنع في جميع باب المفعول له، تقول [[في (أ) (يقول).]]: جئتك طمعًا في الخير، وزرتك كرامة فلان، أي: لكرامته [[في "الإغفال" ص 511: تقول: جئتك طمعا في الخير، وللطمع في الخير، وزرتك كرامة فلان ولكرامة فلان، فتثبت اللام وتحذف، والمعنى في الحذف مثل المعنى في الإثبات.]]، قال: وأنشد أبو عثمان [[هو بكر بن بقية، تقدمت ترجمته 3/ 162، [البقرة:93].]] لرؤبة: بلاَلٌ أنْدَى [[في (ش): (أبدى).]] العَالَمينَ شَخْصًا ... عندي وما بي أن أُسِيءَ الحِرْصا [[هذان البيتان ليسا في "ديوان رؤبة" قال محقق "الإغفال": ولم أوفق في العثور عليهما. "الإغفال" ص 512.]] فحمل الحرص على المفعول له، قال: وإنما جاز الحذف مع (أن) لطول الكلام بالصلة، وإذا طال الكلام حَسُنَ من الحذف معه ما لا يحسن إذا لم يطل، وذلك كثير، نحو قوله: ﴿مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: 148]، ترك التأكيد الذي يقبح تركه في السعة لطول الكلام بلا، ولو لم يطل به للزم التأكيد كما لزم ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ [الأعراف: 27] ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ﴾ [المائدة: 24] ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: 35]، ومن ثم استجازوا: حضر القاضي اليوم امرأةٌ، حذفوا التاء من الكلام لما طال الكلام بالفصل بين الفعل والفاعل من المفعول. قال: وأما قوله: والنصب في (أن) في هذا الموضع الاختيار عند جمع النحويين، فمن يقول أن موضعه جر وهو قول سيبويه، ليس يحفظ عنه أن النصبَ أحسن، وإنما يحكم على موضعه بالجر. أطال أبو علي الكلام في هذه المسألة على أبي إسحاق في الإنكار عليه، وقد اختصرته هاهنا [[ينظر: "الإغفال" ص 509 - 517.]]. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون موضع (أن) رفعًا بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا أولى، أي: البر والتقى أولى، ويكون (أولى) محذوفًا، كقوله: ﴿وطَاعَةٌ وَقَول مَّعْرُوفٌ﴾ [محمد: 21] أي: طاعة وقول معروف [[زيادة من (ي).]] أمثل. قال: ومذهب النحويين فيه الجر والنصب، ولا أعلم أحدًا منهم ذكر هذا المذهب [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 300.]]. وهذا الذي ذكره أبو إسحاق من رفع (أن) تقدير [[في (ش) (تقديره).]] زائد على ما ذكرنا من التقديرات في (أن)، لأن الكلام على هذا يصير مستأنفًا لا تعلق له بما قبله، والتقديرات السابقة توجب [[في (ش) (يوجب).]] التعلق بما سبق [[ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 311 - 312، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 130، "التبيان" ص135، "البحر المحيط" 2/ 177، وقد ضعف الوجه الأخير فقال: لأن فيه اقتطاع (أن تبروا) مما قبله، والظاهر هو اتصاله به، ولأن فيه حذفا لا دليل عليه.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمع [[ساقطة من (ي).]] أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب