الباحث القرآني
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ [[مه: زجر ونهى، فإن وصلت نونت، قلت: مه مه، وكذلك صمه.]] مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ. فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. قُلْتُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عِمْرَانَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَاهُ فَقَالَ: "كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا:" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ". فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ". وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ النَّاسِ: الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَخَافُوا الْعَيْلَةَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أُنْفِقُهُ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَهْمٌ أَوْ مِشْقَصٌ [[المشقص (كمنبر): نصل عريض أو منهم فيه نصل، يرمى به الوحش.]]، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: لَا أَجِدُ شَيْئًا. وَنَحْوَهُ عَنْ السُّدِّيِّ: أَنْفِقْ وَلَوْ عِقَالًا، وَلَا تُلْقِي بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَتَقُولُ: لَيْسَ عندي شي. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ قَامَ إِلَيْهِ أناس من الاعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نَتَجَهَّزُ! فَوَاللَّهِ مَا لَنَا زَادٌ وَلَا يُطْعِمُنَا أَحَدٌ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي تَصَدَّقُوا يَا أَهْلَ الْمَيْسَرَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي فِي طَاعَةِ اللَّهِ. "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" يَعْنِي وَلَا تُمْسِكُوا بِأَيْدِيكُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ فَتَهْلِكُوا، وَهَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَمَعْنَى ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تُمْسِكُوا عَنِ الصَّدَقَةِ فَتَهْلِكُوا، أَيْ لَا تُمْسِكُوا عَنِ النَّفَقَةِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنْكُمْ غَلَبَكُمُ الْعَدُوُّ فتهلكوا. وقول رابع- قيل للبراء ابن عَازِبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدَيْهِ وَيَقُولُ: قَدْ بَالَغْتُ فِي الْمَعَاصِي وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوْبَةِ، فَيَيْأَسُ مِنَ اللَّهِ فَيَنْهَمِكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَعَاصِي. فَالْهَلَاكُ: الْيَأْسُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمَعْنَى لَا تُسَافِرُوا فِي الْجِهَادِ بِغَيْرِ زَادٍ، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْقِطَاعِ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ يَكُونُ عَالَةً عَلَى النَّاسِ. فَهَذِهِ خَمْسَةٌ أَقْوَالٍ. "سَبِيلِ اللَّهِ" هُنَا: الْجِهَادُ، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بَعْدُ جَمِيعَ سُبُلِهِ. وَالْبَاءُ فِي "بِأَيْدِيكُمْ" زَائِدَةٌ، التقدير تلقوا أيديكم.
ونظيره: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ﴾[[راجع ج ٢٠ ص ١٢٤.]] [العلق: ١٤]. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: "بِأَيْدِيكُمْ" أَيْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عن الكل، كقوله: "فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" [[راجع ج ١٦ ص ٣٠.]]، [الشورى: ٣٠]، ﴿بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾[[في نسخ الأصل: "بما كسبت". راجع ج ١٢ ص ١٦.]] [الحج: ١٠]. وَقِيلَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ، تَقُولُ: فُلَانٌ أَلْقَى بِيَدِهِ فِي أَمْرِ كَذَا إِذَا اسْتَسْلَمَ، لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْقِتَالِ يُلْقِي سِلَاحَهُ بِيَدَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ عَاجِزٍ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: [وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا لِلْمَوْتِ لَعَجْزٌ) [[عبارة عبد المطلب كما أوردها ابن هشام في سيرته عند الكلام على حفر زمزم: "والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز ... " إلخ.]] وَقَالَ قَوْمٌ: التَّقْدِيرُ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُفْسِدُ حالك برأيك. والتهلكة (بِضَمِ اللَّامِ) مَصْدَرٌ مِنْ هَلَكَ يَهْلِكُ هَلَاكًا وَهُلْكًا وَتَهْلُكَةً، أَيْ لَا تَأْخُذُوا فِيمَا يُهْلِكُكُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ أَيْ إِنْ لَمْ تُنْفِقُوا عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَهَلَكْتُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَا تُمْسِكُوا أَمْوَالَكُمْ فَيَرِثُهَا مِنْكُمْ غَيْرُكُمْ، فَتَهْلِكُوا بِحِرْمَانِ مَنْفَعَةِ أَمْوَالِكُمْ. وَمَعْنًى آخَرُ: وَلَا تُمْسِكُوا فَيَذْهَبَ عَنْكُمُ الْخُلْفُ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابُ فِي الآخرة. ويقال: "لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" يَعْنِي لَا تُنْفِقُوا مِنْ حَرَامٍ فَيُرَدُّ عَلَيْكُمْ فَتَهْلِكُوا. وَنَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" قال: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧]. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَوْلُهُ "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ لِدُخُولِهِ فِيهِ، إِذِ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اقْتِحَامِ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ وَحَمْلَهُ عَلَى العدو وحده، فقال القاسم بن مُخَيْمَرَةَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلَ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ، وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنَ التَّهْلُكَةِ. وَقِيلَ: إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ﴾[[راجع ج ٣ ص ٢٠.]] [البقرة: ٢٠٧]. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فَأَمَّا أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ عَلَى مِائَةٍ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ أَوْ جَمَاعَةِ اللُّصُوصِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْخَوَارِجِ فَلِذَلِكَ حَالَتَانِ: إِنْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُو فَحَسَنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يَقْتُلَ وَلَكِنْ سَيُنْكَى نِكَايَةً أَوْ سَيَبْلَى أَوْ يُؤْثِرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَجَائِزٌ أَيْضًا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا لَقِيَ الْفُرْسَ نَفَرَتْ خيل المسلمين من
الْفِيَلَةِ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَصَنَعَ فِيلًا مِنْ طِينٍ وَأَنَّسَ بِهِ فَرَسَهُ حَتَّى أَلِفَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ يَنْفُرْ فَرَسُهُ مِنَ الْفِيلِ فَحَمَلَ عَلَى الْفِيلِ الَّذِي كَانَ يَقْدُمُهَا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَاتِلُكَ. فَقَالَ: لَا ضَيْرَ أَنْ أُقْتَلَ وَيُفْتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ لَمَّا تَحَصَّنَتْ بَنُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيقَةِ، قَالَ رَجُلٌ [[هو البراء بن مالك، أخو أنس بن مالك، كما في تاريخ الطبري.]] مِنَ الْمُسْلِمِينَ: ضَعُونِي فِي الْحَجَفَةِ [[الحجفة (بتقديم الحاء على الجيم والتحريك): ترس يتخذ من الجلود.]] وَأَلْقُونِي إِلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا وَقَاتَلَهُمْ وَحْدَهُ وَفَتَحَ الْبَابَ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا؟ قَالَ: (فَلَكَ الْجَنَّةُ). فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُفْرِدَ [[أفرد يوم أحد، أي حين انهزم الناس وخلص إليه العدو.]] يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ [[رهقه (بكسر ثانية): غشيه ولحقه.]] قَالَ: (مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ) أَوْ (هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ) فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. [ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: (مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ) أَوْ (هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ). فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ [[زيادة عن صحيح مسلم.]] [. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا). هَكَذَا الرِّوَايَةُ (أَنْصَفْنَا) بِسُكُونِ الْفَاءِ (أَصْحَابَنَا) بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ لَمْ نَدُلْهُمْ [[أي لم ترشدهم ونسددهم.]] لِلْقِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا. وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْبَاءِ، وَوَجْهُهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ لِمَنْ فَرَّ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ وَحْدُهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ للمسلمين. فإن كان قصده تجريه الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصْنَعُوا مِثْلَ صَنِيعِهِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِرْهَابَ الْعَدُوِّ وَلِيُعْلِمَ صَلَابَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ. وَإِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَلِفَتْ نَفْسُهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَتَوْهِينِ الْكُفْرِ فَهُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾[[راجع ج ٨ ص ٢٦٧.]] [التوبة: ١١١] الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْمَدْحِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ. وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّينِ فَبَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كان فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[[راجع ج ١٤ ص ٦٨.]] [لقمان: ١٧]. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ). وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي [آلِ عِمْرَانَ] إِنْ شَاءَ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَحْسِنُوا﴾ أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي إِخْلَافِهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَاتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصحابة.
{"ayah":"وَأَنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُوا۟ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق