الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ۝﴾ [البقرة: ١٩٥]. الخِطابُ يتوجَّهُ إلى عمومِ مَن مَلَكَ مالًا، أن يبادِرَ بالنفقةِ في سبيلِ اللهِ، وخصَّ سبيلَ اللهِ، وهو صِراطُهُ المستقيمُ، أيِ: الطريقُ البَيِّنُ الذي لا لَبْسَ فيه، فيَجِبُ التحذيرُ مِنَ النفقةِ للرّاياتِ الجاهليَّةِ، والحميَّةِ النفسيَّةِ المجرَّدةِ مِن الدفاعِ عن حُرْمةٍ، ومِن الذَّبِّ عن دينِ اللهِ. معنى «سبيلِ الله» في القرآن: وأغلبُ استعمالِ الكتابِ والسُّنَّةِ لسبيلِ اللهِ يرادُ به الجهادُ، تعظيمًا له، وبيانًا لكبيرِ مصلحةِ الدِّينِ بالقيامِ به، فبِه يَقْوى المسلِمُونَ ويضعُفُ عدوُّهم، وما تركَتْ أمَّةُ الإسلامِ الجهادَ إلاَّ ذَلَّتْ، فتَرْكُ الجهادِ إضعافٌ لسبيلِ اللهِ، وتقطيعٌ له، وزيادةُ حَيْرةٍ للسالِكينَ له، فالخلافُ سُنَّةٌ في البَشَرِ في حياتِهم، فالأمَّةُ تَتَخاصَمُ فيما بينَها إن لم تَجِدْ خَصْمًا خارِجَها، لهذا شرَعَ اللهُ الجهادَ للانشغالِ بالخَصْمِ الأكبَرِ عنِ الخصوماتِ الفرعيَّةِ بين المسلِمِينَ، وإذا انصرَفَتِ الأُمَّةُ عن قتالِ عدوِّها الأكبرِ وخَصْمِها الأعلى، انشغَلَتْ فيما بينَها بخصوماتٍ أدنى، وكلَّما ترَكَتِ الخصوماتِ ومواضِعَ الخلافِ الأولى، نزلَتْ إلى الأدنى، حتّى تَنشغِلَ الأمَّةُ بحِزْبيّاتِ وعَصَبيّاتِ اللَّوْنِ والنَّسَبِ والبلَدِ، حتّى يكونَ الخلافُ في أهلِ الحيِّ الواحدِ، شرقيُّهُ يُخاصِمُ غربيَّهُ. وعدمُ شَغْلِ النفوسِ بعدوِّها الأعلى يَدْعُوها للانشغالِ بما دُونَهُ، ثمَّ تضعُفُ ويُصِيبُها الشقاقُ والنفاقُ، ثُمَّ تتفتَّتُ، ولهذا وجَبَ الانشغالُ بالغَزْوِ ولو بحديثِ النفسِ، لتنشغِلَ النفوسُ بعضُها عن بعضٍ، ولِتَعْمُرَ قلوبُ المسلِمِينَ ولو فِكْرًا بالعدوِّ الأكبَرِ، ففي الحديثِ: (مَن لم يَغْزُ، أوْ يُجَهِّزْ غازِيًا، أوْ يَخْلُفْ غازِيًا فِي أهْلِهِ بِخَيْرٍ، أصابَهُ اللهُ بِقارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ)، رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجه[[أخرجه أبو داود (٢٥٠٣) (٣/١٠)، وابن ماجه (٢٧٦٢) (٢/٩٢٣).]]. قال تعالى: ﴿إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا ألِيمًا ويَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝﴾ [التوبة: ٣٩]. وفي الحديثِ السابقِ: ما يوافِقُ الآيةَ، أنّ ترْكَ الجهادِ والإنفاقِ عليه هلاكٌ للأُمَّةِ، ففي قولِهِ: ﴿ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾، و«أصابَهُ اللهُ بقارِعةٍ» إشارةٌ إلى أنّ الأُمَّةَ إن لم تجاهِدْ عَدُوَّها، أو لم تُعِنِ المجاهِدَ وتركَتْهُ، أهلَكَها اللهُ وأصابَها بقارعةٍ، فيسلِّطُ اللهُ عليها سببًا يُهلِكُها به، إمّا فِتْنةً مِن داخِلِها، أو عدوًّا مِن خارِجِها. روى ابنُ أبـي حاتمٍ، مِن حديثِ منصورٍ، قال: سَمِعْتُ أبا صالِحٍ مَوْلى أُمِّ هانِئٍ، أنَّهُ سَمِعَ ابنَ عَبّاسٍ يقول فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾، قالَ: «أنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وإنْ لم تَجِدْ إلاَّ مِشْقَصًا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٠).]]. وروى عنِ الأَعْمَشِ، عن أبي وائِلٍ، عن حُذَيْفةَ، في قَوْلِ اللَّهِ: ﴿ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾، قالَ: «يَعْنِي فِي تَرْكِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣١).]]. وعامَّةُ المفسِّرينَ على هذا التأويلِ، كابنِ عَبّاسٍ، وعِكْرِمةَ، والحسَنِ، ومجاهِدٍ، وعطاءٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وأبي صالِحٍ، والضَّحّاكِ، والسُّدِّيِّ، ومقاتِلِ بنِ حَيّانَ، وقَتادةَ، وغيرِهم. ويزعُمُ بعضُ الناسِ: أنّ الآيةَ في عدَمِ الإضرارِ بالنفسِ في أسبابِ المرضِ أو الموتِ، كالتعرُّضِ لعدوٍّ، أو تَرْكِ التطبُّبِ، ونحوِ ذلك. وهذا التعيينُ لمعنى الآيةِ خطأٌ، وإنْ كان هذا المعنى يدخُلُ فيها، لكنَّه ليس مرادًا مِن نزولِ الآيةِ، فقد روى أبو إسحاقَ، عنِ البَراءِ، قال: سألَهُ رجلٌ: أحْمِلُ على المشرِكِينَ وحْدِي فيَقْتُلوني، أكنتُ ألْقَيْتُ بيَدِي إلى التَّهْلُكةِ؟ فقال: لا، إنّما التَّهْلُكةُ في النَّفَقَةِ، بعَثَ اللهُ رسولَهُ، فقال: ﴿فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ﴾ [النساء: ٨٤] [[«تفسير الطبري» (٣/٣١٩).]]. وقد صَحَّ عن عَبِيدةَ السَّلْمانِيِّ، قال: «هو الرَّجُلُ يُذنِبُ الذَّنْبَ فيَستسلِمُ، يقولُ: لا تَوْبةَ لي! فيُلقي بيَدِه»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٢١).]]. وذلك أنّه استدَلَّ بعمومِ الآيةِ، وهذا صحيحٌ، ولكنَّ أوَّلَ ما يدخُلُ في معانيها ما نزَلَتِ الآيةُ لأَجْلِهِ، وهو النفقةُ في سبيلِ اللهِ، والتحذيرُ مِن تَرْكِها. والآيةُ تتضمَّنُ وعيدًا مِن اللهِ بإهلاكِ معطِّلِ الجهادِ وتاركِ الإنفاقِ عليه. فضلُ الجهادِ بالمالِ: والنَّفَقةُ في سبيلِ اللهِ بالمالِ قُدِّمَتْ في القرآنِ على الجهاد بالنفسِ، لأنّ النفقةَ بالمالِ تُعِينُ كثيرًا مِن المجاهِدِينَ، بينَما الجهادُ بالنفسِ يكونُ بفردٍ فقط، والجمعُ بينَهما أفضلُ: قال تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝﴾ [التوبة: ٤١]. وقال: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِن عَذابٍ ألِيمٍ ۝تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝﴾ [الصف: ١٠ ـ ١١]. فالجهادُ بالمالِ مقدَّمٌ في القرآنِ على الجهادِ بالنفسِ، إلاَّ في قولِهِ تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١١]. وتجهيزُ الغازي كالغزوِ بنفسٍ واحدةٍ، ومَن جَهَّزَ غُزاةً، فله الأجرُ بعَدَدِهم، ومَن جَهَّزَهُ بسلاحٍ، فله أجرُ الرَّمْيِ به وما يُصِيبُ فيه، ففي «المسنَدِ» و«السُّنَنِ»، مِن حديثِ عُقْبةَ، يَقُولُ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ اللهَ عزّ وجل يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الواحِدِ ثَلاثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، والرّامِيَ بِهِ، ومُنْبِلَهُ...)، الحديثَ[[أخرجه أحمد (١٧٣٢١) (٤/١٤٦)، وأبو داود (٢٥١٣) (٣/١٣)، والترمذي (١٦٣٧) (٤/١٧٤).]]. وقال ﷺ: (مَن جَهَّزَ غازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدْ غَزا، ومَن خَلَفَ غازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزا)، أخرَجَه البخاريُّ ومسلمٌ، مِن حديثِ زيدٍ[[أخرجه البخاري (٢٨٤٣) (٤/٢٧)، ومسلم (١٨٩٥) (٣/١٥٠٦).]]. وقيمةُ الصَّدَقةِ بأَثَرِها في نَفْعِها، وبِقِيمَتِها عند صاحِبِها، وإنّما عَظُمَتْ نفقةُ الجهادِ لِعَظَمَةِ الجهادِ في الدِّينِ. وقولُهُ تعالى: ﴿وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ۝﴾: أمَرَ اللهُ بالإحسانِ، وبَيَّنَ أنّه مع المحسِنِ في إحسانِه، يَكْفِيهِ ويُعِينُهُ ويسدِّدُهُ، والمرادُ في هذه الآيةِ: أنّ المنفِقَ معانٌ مسدَّدٌ، بحَسَبِ إحسانِهِ وإنفاقِه، وهو يتضمَّنُ استحبابَ المسابَقةِ والمنافَسةِ في الإنفاقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب