الباحث القرآني

ولَمّا كانَتِ النَّفَقَةُ مِن أعْظَمِ دَعائِمِ الجِهادِ وكانَ العَيْشُ في أوَّلِ الإسْلامِ ضِيقًا والمالُ قَلِيلًا فَكانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِكُلِّ أحَدٍ أنْ يَتَمَسَّكَ بِما في يَدِهِ ظَنًّا أنَّ في التَّمَسُّكِ بِهِ النَّجاةَ وفي إنْفاقِهِ الهَلاكَ أخْبَرَهم أنَّ الأمْرَ عَلى غَيْرِ ما يُسَوِّلُ بِهِ الشَّيْطانُ مِن ذَلِكَ ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ﴾ [البقرة: ٢٦٨] وقالَ الحَرالِيُّ: ولِمَكانِ ما لَزِمَ العَفْوُ مِنَ العِزِّ الَّذِي جاءَ عَلى خِلافِ غَرَضِ النَّفْسِ نَظَمَ بِهِ تَعالى ما يَجِيءُ عَلى خِلافِ مُدْرَكِ الحِسِّ في الإنْفاقِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الزَّكاءُ والنَّماءُ، وأيْضًا لَمّا أسَّسَ تَعالى حُكْمَ الجِهادِ الَّذِي هو أشَقُّ الأعْمالِ عَلى النَّفْسِ نَظَمَ بِهِ أمْرَ الجُودِ والإنْفاقِ الَّذِي هو أشَقُّ مِنهُ عَلى الأنْفُسِ، ومِن حَيْثُ إنَّ القِتالَ مُدافَعَةٌ يَشْتَمِلُ عَلى عُدَّةٍ وزادٍ لَمْ يَكُنْ أمْرُهُ يَتِمُّ إلّا (p-١٢٠)بِأعْمالِ الغَرِيزَتَيْنِ: الشَّجاعَةِ والجُودِ، ولِذَلِكَ كانَ أشَدُّ الآفاتِ في الدِّينِ البُخْلَ والجُبْنَ، انْتَهى - فَقالَ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا﴾ وأظْهَرَ ولَمْ يُضْمِرْ إظْهارًا لِلِاعْتِناءِ بِأمْرِ النَّفَقَةِ ولِئَلّا يُقَيَّدَ بِحَيْثِيَّةٍ مِنَ الحَيْثِيّاتِ فَقالَ: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ كَما قالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٠] وهو كُلُّ ما أمَرَ بِهِ اللَّهُ وإنْ كانَ اسْتِعْمالُهُ في الجِهادِ أكْثَرَ، أيْ ولا تَخافُوا العَيْلَةَ والضَّيْعَةَ فَإنَّ اللَّهَ رَبَّكم هو الَّذِي أمَرَكم بِذَلِكَ ﴿واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلا﴾ [البقرة: ٢٦٨] قالَ الحَرالِيُّ: فالنَّظَرُ لِلْأمْوالِ بِإنْفاقِها لا بِإصْلاحِها وإثْباتِها فانْتَظَمَ الخِطابانِ ما في العَفْوِ مِنَ العِزِّ وما في الإنْفاقِ مِنَ النَّماءِ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِالإعْلامِ بِما لا تَصِلُ إلَيْهِ مَدارِكُ الأنْفُسِ مِن أنَّ إصْلاحَ الأمْوالِ وإمْساكَها تَهْلُكَةٌ - انْتَهى. فَقالَ تَعالى: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ﴾ أيْ تُسْرِعُوا بِوَضْعِها إسْراعَ مَن (p-١٢١)يُلْقِي الشَّيْءَ بِعَدَمِ الإنْفاقِ ﴿إلى التَّهْلُكَةِ﴾ مِنَ الهَلاكِ وهو تَداعِي الشَّيْءِ إلى أنْ يَبْطُلَ ويَفْنى فَإنَّ في ذَلِكَ الإخْلادَ إلى الدَّعَةِ والتَّواكُلِ فَيَجْتَرِئُ عَلَيْكُمُ العَدُوُّ فَلا يَقُومُ لَكم قائِمَةٌ فَإنَّ البُخْلَ أسْرَعُ شَيْءٍ إلى الهَلاكِ، وهي تَفْعُلَةٌ بِضَمِّ العَيْنِ مَصْدَرُ هَلَكَ، وقِيلَ: إنَّهُ لا ثانِيَ لَهُ في كَلامِهِمْ، وحَقِيقَةً أوْقَعَ الإلْقاءَ لِما يَنْفَعُهُ مِن نَفْسِهِ وغَيْرِها بِيَدِهِ أيْ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ التَّهْلُكَةَ آخِذَةً بِها مالِكَةً لِصاحِبِها. وقالَ الحَرالِيُّ: إحاطَةُ الخِطابِ تَقْتَضِي أنَّ التَّهْلُكَةَ تَضْيِيعُ القِتالِ والإنْفاقِ اللَّذَيْنِ بِتَرْكِهِما تَقَعُ الِاسْتِطالَةُ عَلى مَبْنى الإسْلامِ فَيَتَطَرَّقُ إلى هَدْمِهِ، ولَمّا كانَ (p-١٢٢)أمْرُ الإنْفاقِ أخَصَّ بِالأنْصارِ الَّذِينَ كانُوا أهْلَ الأمْوالِ لِتَجَرُّدِ المُهاجِرِينَ عَنْها كانَ في ضِمْنِهِ أنَّ أكْثَرَ فَصْلِ الخِطابِ فِيهِ لِلْأنْصارِ - انْتَهى. وقَدْ رَوى أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ - وهَذا لَفْظُهُ وقالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ - والنَّسائِيُّ «عَنْ أبِي أيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: إنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينا مَعْشَرَ الأنْصارِ لَمّا أعَزَّ اللَّهُ الإسْلامَ وكَثُرَ ناصِرُوهُ وقالَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنَّ أمْوالَنا قَدْ ضاعَتْ، فَلَوْ أقَمْنا في أمْوالِنا! فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَكانَتِ التَّهْلُكَةُ الإقامَةَ عَلى الأمْوالِ وإصْلاحَها وتَرْكَنا الغَزْوَ» . ورَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ «عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ﴿وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ قالَ: نَزَلَتْ في النَّفَقَةِ» . ولَمّا كانَتِ التَّوْسِعَةُ في أمْرِ القِتالِ قَدْ تَجُرُّ إلى الِاعْتِداءِ فَخَتَمَهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وبِأنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ وكانَتِ التَّوْسِعَةُ في الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ مِن أعْلى خِلالِ الإيمانِ قالَ تَعالى: ﴿وأحْسِنُوا﴾ أيْ أوْقِعُوا الإحْسانَ عَلى العُمُومِ بِما أفْهَمَهُ قَصْرُ الفِعْلِ (p-١٢٣)وتَرْكُ المُتَعَلِّقِ بِالإكْثارِ مِنَ الإنْفاقِ وظَنُّوا بِاللَّهِ الحَسَنَ الجَمِيلَ، وأظْهَرَ مِن غَيْرِ إضْمارٍ لِطُولِ الفَصْلِ ولِنَحْوِ ما تَقَدَّمَ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ المَلِكَ العَظِيمَ ﴿يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ أيْ يَفْعَلُ مَعَهم كُلَّ ما يَفْعَلُهُ المُحِبُّ مَعَ مَن يُحِبُّهُ مِنَ الإكْرامِ والإعْلاءِ والنَّصْرِ والإغْناءِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن جَمِيعِ ما يَحْتاجُهُ كَما أنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ. قالَ الحَرالِيُّ: فانْتَظَمَ خَتْمُ الخِطابَيْنِ بِأنْ لا يَقَعَ الِاعْتِداءُ في القَتْلِ وأنْ يَقَعَ الإحْسانُ في المالِ، وفي إشْعارِهِ حَضُّ الأنْصارِ عَلى إنْفاقِ أمْوالِهِمْ يَتْلُونَ بِهِ حالُ المُهاجِرِينَ في التَّجَرُّدِ عَنْها، فَكَما كانَ أمْرُ المُهاجِرِينَ أنْ لا يَنْقُضُوا الهِجْرَةَ كانَ أمْرُ الأنْصارِ أنْ لا يَلْتَفِتُوا إلى الدُّنْيا، فَما خَرَجَ المُهاجِرُونَ عَنْ أصْلِهِ خَرَجَ الأنْصارُ عِنْدَ التَّمَسُّكِ بِهِ عَنْ وصْفِهِ، فَكانَ إعْراضُهم (p-١٢٤)تابِعًا لِتَرْكِ المُهاجِرِينَ أمْوالَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب