الباحث القرآني

(p-٤٦٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَهْلُكَةِ وأحْسِنُوا إنَّ اللهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿وَأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيِ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أو بِهِ أذًى مِنَ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنَ صِيامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجَّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجَّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ واتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ "سَبِيلِ اللهِ" هُنا: الجِهادُ، واللَفْظُ يَتَناوَلُ بَعْدَ- جَمِيعِ سُبُلِهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وقَوْمٌ: الباءُ في قَوْلِهِ: "بِأيْدِيكُمْ" زائِدَةٌ. التَقْدِيرُ: "تُلْقُوا أيْدِيَكُمْ". وقالَ الجُمْهُورُ: ذَلِكَ ضَرْبٌ مَثَلٍ. تَقُولُ: ألْقى فَلانٌ بِيَدِهِ في أمْرِ كَذا إذا اسْتَسْلَمَ، لِأنَّ المُسْتَسْلِمَ في القِتالِ يُلْقِي سِلاحَهُ بِيَدِهِ، فَكَذَلِكَ فَعَلَ كُلُّ عاجِزٍ في أيِّ فِعْلٍ كانَ، ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: "واللهِ إنَّ إلْقاءَنا بِأيْدِينا إلى المَوْتِ لَعَجْزٌ". وقالَ قَوْمٌ: التَقْدِيرُ: لا تُلْقُوا أنْفُسَكم بِأيْدِيكُمْ، كَما تَقُولُ: لا تُفْسِدُ حالَكَ بِرَأْيِكَ. و"التَهْلُكَةُ" بِضَمِّ اللامِ مَصْدَرٌ مَن هَلَكَ. وقَرَأ الخَلِيلُ: "التَهْلِكَةِ" بِكَسْرِ اللامِ، وهي مُفْعِلَةٌ مَن هَلَّكَ بِشَدِّ اللامِ. ورُوِيَ عن أبِي أيُّوبٍ الأنْصارِيِّ أنَّهُ كانَ عَلى القُسْطَنْطِينِيَّةِ فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلى عَسْكَرِ العَدُوِّ، فَقالَ قَوْمٌ: ألْقى بِيَدِهِ إلى التَهْلُكَةِ، فَقالَ أبُو أيُّوبٍ: لا. إنَّ هَذِهِ الآيَةَ (p-٤٦٩)نَزَلَتْ في الأنْصارِ حِينَ أرادُوا -لَمّا ظَهَرَ الإسْلامُ- أنْ يَتْرُكُوا الجِهادَ، ويَعْمُرُوا أمْوالَهُمْ، وأمّا هَذا فَهو الَّذِي قالَ اللهُ فِيهِ: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ﴾ [البقرة: ٢٠٧]. وقالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، وجُمْهُورُ الناسِ: المَعْنى: لا تُلْقُوا بِأيْدِيكم بِأنْ تَتْرُكُوا النَفَقَةَ في سَبِيلِ اللهِ، وتَخافُوا العَيْلَةَ، فَيَقُولُ الرَجُلُ: لَيْسَ عِنْدِي ما أُنْفِقُ. وقالَ قَوْمٌ: المَعْنى، لا تَقْنَطُوا مِنَ التَوْبَةِ. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ، وعُبَيْدَةُ السَلْمانِيُّ: الآيَةُ في الرَجُلِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغْتُ في المَعاصِي، فَلا فائِدَةَ في التَوْبَةِ، فَيَنْهَمِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: المَعْنى: لا تُسافِرُوا في الجِهادِ بِغَيْرِ زادٍ، وقَدْ كانَ فِعْلُ ذَلِكَ قَوْمٌ فَأدّاهم ذَلِكَ إلى الِانْقِطاعِ في الطَرِيقِ، أوِ الكَوْنِ عالَةً عَلى الناسِ. وقَوْلُهُ: "وَأحْسِنُوا" قِيلَ: مَعْناهُ: في أعْمالِكم بِامْتِثالِ الطاعاتِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عن بَعْضِ الصَحابَةِ. وقِيلَ: المَعْنى: وأحْسِنُوا في الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللهِ، وفي الصَدَقاتِ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: المَعْنى: وأحْسِنُوا الظَنَّ بِاللهِ. (p-٤٧٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ، والشَعْبِيُّ، وغَيْرُهُما: إتْمامُهُما ألّا يَفْسَخا، وأنْ تُتِمَّهُما إذا بَدَأْتَ بِهِما. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إتْمامُهُما أنْ تَحْرِمَ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ، وفَعَلَهُ عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ. وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: إتْمامُهُما أنْ تَخْرُجَ قاصِدًا لَهُما، لا لِتِجارَةٍ، ولا لِغَيْرِ ذَلِكَ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ: "لِلَّهِ" وقالَ قَتادَةُ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إتْمامُهُما أنْ تُحْرِمَ بِالعُمْرَةِ وتَقْضِيَها في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، وأنْ تُتِمَّ الحَجَّ دُونَ نَقْصٍ ولا جَبْرٍ بِدَمٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الدَمَ في الحَجِّ والعُمْرَةِ جَبْرُ نَقْصٍ، وهو قَوْلُ مالِكٍ وجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ. وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ يَرَوْنَ أنَّ كَثْرَةَ الدَمِ كَمالٌ وزِيادَةٌ، وكُلَّما كَثُرَ عِنْدَهم لُزُومُ الدَمِ فَهو أفْضَلُ، واحْتَجُّوا بِأنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «ما أفْضَلَ الحَجَّ؟ فَقالَ: العَجُّ والثَجُّ» ومالِكٌ ومَن قالَ بِقَوْلِهِ يَراهُ ثَجُّ التَطَوُّعِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إتْمامُهُما أنْ تُفْرِدَ كُلَّ واحِدَةٍ مِن حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ ولا تَقْرِنُ، وهَذا عَلى أنَّ الإفْرادَ أفْضَلُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: القُرْآنُ أفْضَلُ وذَلِكَ هو الإتْمامُ عِنْدَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَلْقَمَةُ، وإبْراهِيمُ، وغَيْرُهُمْ: إتْمامُهُما أنْ تَقْضِيَ مَناسِكَهُما كامِلَةً بِما كانَ فِيها مِن دِماءٍ. وفُرُوضُ الحَجِّ: النِيَّةُ، والإحْرامُ، والطَوافُ المُتَّصِلُ بِالسَعْيِ، والسَعْيِ بَيْنَ الصَفا والمَرْوَةِ عِنْدَنا، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، والوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، والجَمْرَةُ عَلى قَوْلِ ابْنِ الماجِشُونَ. وأمّا أعْمالُ العُمْرَةِ: فَنِّيَّةٌ وإحْرامٌ، وطَوافٌ وسَعْيٌ، واخْتُلِفَ في فَرْضِ العُمْرَةِ. فَقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: هي سُنَّةٌ واجِبَةٌ لا يَنْبَغِي أنْ تُتْرَكَ كالوِتْرِ، وهي عِنْدُنا مَرَّةٌ (p-٤٧١)واحِدَةٌ في العامِ وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ أصْحابِهِ. وحَكى ابْنُ المُنْذِرِ في "الإشْرافِ" عن أصْحابِ الرَأْيِ أنَّها عِنْدَهم غَيْرُ واجِبَةٍ. وحَكى بَعْضُ القُرَوِيِّينَ والبَغْدادِيِّينَ عن أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ يُوجِبُها كالحَجِّ، وبِأنَّها سُنَّةٌ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وجُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ النَصَّ عَلى ذَلِكَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ. ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، والشافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، والشَعْبِيِّ وجَماعَةٍ تابِعِينَ أنَّها واجِبَةٌ كالفَرْضِ، وقالَهُ ابْنُ الجَهْمِ مِنَ المالِكِيِّينَ. وقالَ مَسْرُوقٌ: الحَجُّ والعُمْرَةُ فَرْضٌ، نَزَلَتِ العُمْرَةُ مِنَ الحَجِّ مَنزِلَةَ الزَكاةِ مِنَ الصَلاةِ. وقَرَأ الشَعْبِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ: "والعُمْرَةُ لِلَّهِ" بِرَفْعِ العُمْرَةِ عَلى القَطْعِ والِابْتِداءِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: "الحِجُّ" بِكَسْرِ الحاءِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ لِلَّهِ"، ورُوِيَ عنهُ: "وَأقِيمُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ"، ورُوِيَ غَيْرُ هَذا مِمّا هو كالتَفْسِيرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، قالَ عَلْقَمَةُ، وعُرْوَةُ بْنُ (p-٤٧٢)الزُبَيْرِ، وغَيْرُهُما: الآيَةُ فِيمَن أُحْصِرَ بِالمَرَضِ لا بِالعَدُوِّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، والمَشْهُورُ مِنَ اللُغَةِ: أحُصِرَ بِالمَرَضِ وحُصِرَ بِالعَدُوِّ، وفي "المُجْمَلِ" لِابْنِ فارِسٍ: حُصِرَ بِالمَرَضِ وأُحْصِرَ بِالعَدُوِّ. وقالَ الفَرّاءُ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ في المَرَضِ والعَدُوِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والصَحِيحُ أنَّ "حُصِرَ" إنَّما هي فِيما حاطَ وجاوَرَ، فَقَدْ يُحْصَرُ العَدُوُّ والماءُ ونَحْوُهُ، ولا يُحْصُرُ المَرَضُ. وأُحْصِرَ مَعْناهُ: جُعِلَ الشَيْءُ ذا حَصْرٍ كَأقْبَرَ وأحْمى وغَيْرِ ذَلِكَ، فالمَرَضُ والماءُ والعَدُوُّ وغَيْرُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُحْصَرًا لا حاصِرًا، ألا تَرى أنَّ العَدُوَّ كانَ مُحْصَرًا في عامِ الحُدَيْبِيَةَ ؟ وفي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ التَأْوِيلِ. وأجْمَعَ جُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّ المُحْصَرَ بِالعَدُوِّ يَحِلُّ حَيْثُ أُحْصِرَ ويَنْحَرُ هَدْيَهُ إنْ كانَ ثَمَّ هَدْيٌ ويَحْلِقُ رَأْسَهُ. وقالَ قَتادَةُ، وإبْراهِيمُ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ إنْ أمْكَنَهُ، فَإذا بَلَغَ مَحِلَّهُ صارَ حَلالًا، ولا قَضاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الجَمِيعِ، إلّا أنْ يَكُونَ ضَرُورَةً فَعَلَيْهِ حُجَّةُ الإسْلامِ. وقالَ ابْنُ الماجِشُونَ: لَيْسَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الإسْلامِ وقَدْ قَضاها حِينَ أُحْصِرَ، وهَذا ضَعِيفٌ لا وجْهَ لَهُ. وقالَ أشْهَبُ: يَهْدِي المُحْصَرَ بِعَدُوٍّ هَدْيًا مِن أجْلِ الحَصْرِ.. وقالَ ابْنُ القاسِمِ: لا يَهْدِي شَيْئًا إلّا إنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَأرادَ نَحْرَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ أبِي زَيْدٍ، وقالَ عَطاءٌ وغَيْرُهُ: المَحْصَرُ بِالمَرَضِ كالمُحْصَرِ بِالعَدُوِّ. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ وجُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ: المَحْصَرُ بِالمَرَضِ لا يَحِلُّهُ إلّا البَيْتُ، ويُقِيمُ حَتّى (p-٤٧٣)يَفِيقَ وإنْ أقامَ سِنِينَ، فَإذا وصَلَ البَيْتَ بَعْدَ فَوْتِ الحَجِّ قَطَعَ التَلْبِيَةَ في أوائِلِ الحَرَمِ وحَلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِ حُجَّةُ قَضاءٍ، وفِيها يَكُونُ الهَدْيُ، وقِيلَ: إنَّ الهَدْيَ يَجِبُ في وقْتِ الحَصْرِ أوَّلًا. ولَمْ يَرَ ابْنُ عَبّاسٍ مَن أحْصُرَهُ المَرَضُ داخِلًا في هَذِهِ الآيَةِ، وقالَ: إنَّ المَرِيضَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ حَلَّ حَيْثُ حُبِسَ، وإنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَمْ يَحِلَّ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ لا قَضاءَ عَلَيْهِ. قالَ: وإنَّما قالَ اللهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾، والأمْنُ إنَّما هو مِنَ العَدُوِّ فَلَيْسَ المَرِيضُ في الآيَةِ. و"ما" في مَوْضِعِ رَفْعٍ، أيْ فالواجِبُ، أو فَعَلَيْكم ما اسْتَيْسَرَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ فانْحَرُوا، أو فاهْدُوا. و﴿فَما اسْتَيْسَرَ﴾ -عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ-: شاةٌ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ: "ما اسْتَيْسَرَ": جَمَلٌ دُونَ جَمَلٍ، وبَقْرَةٌ دُونَ بَقَرَةٍ. وقالَ الحَسَنُ: أعْلى الهَدْيِ بِدَنَةٌ، وأوسَطُهُ بَقَرَةٌ، وأخَسُّهُ شاةٌ. و"الهَدْيُ": جَمْعُ هَدْيَةٍ كَجَدْيَةِ السَرْجِ، وهي البُرادُ جَمْعُها جُدْيٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "الهَدْيُ" مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ كالرَهْنِ ونَحْوِهِ، فَيَقَعُ لِلْإفْرادِ ولِلْجَمْعِ. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: لا أعْرِفُ لِهَذِهِ اللَفْظَةِ نَظِيرًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ الآيَةُ، الخِطابُ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ: مُحْصَرٌ ومُخْلى: ومِنَ العُلَماءِ مَن يَراها لِلْمُحْصِرِينَ خاصَّةُ. (p-٤٧٤)وَمَحِلُّ الهَدْيِ حَيْثُ يَحِلُّ نَحْرُهُ، وذَلِكَ لِمَن لَمْ يُحْصَرْ بِمِنى، ولِمَن أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ حَيْثُ أُحْصِرَ إذا لَمْ يُمْكِنْ إرْسالُهُ. وأمّا المَرِيضُ فَإنْ كانَ لَهُ هَدْيٌ فَيُرْسِلُهُ إلى مَحِلِّهِ. والتَرْتِيبُ: أنْ يَرْمِيَ الحاجُّ الجَمْرَةَ، ثُمَّ يَنْحَرُ، ثُمَّ يَحْلِقُ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوافَ الإفاضَةِ، فَإنْ نَحَرَ رَجُلٌ قَبْلَ الرَمْيِ أو حَلَقَ قَبْلَ النَحْرِ فَلا حَرَجَ حَسَبَ الحَدِيثِ ولا دَمَ. وقالَ قَوْمٌ: لا حَرَجَ في الحَجِّ ولَكِنْ يُهْرِقُ دَمًا. وقالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ الماجِشُونَ - مِن أصْحابِنا -: إذا حَلَقَ قَبْلَ أنْ يَنْحَرَ فَلْيَهْدِ. وإنْ حَلَقَ رَجُلٌ قَبْلَ أنْ يَرْمِيَ فَعَلَيْهِ دَمٌ قَوْلًا واحِدًا في المَذْهَبِ. قالَ ابْنُ المَوّازِ، عن مالِكٍ: ويَمُرُّ المُوسى عَلى رَأْسِهِ بَعْدَ الرَمْيِ، ولا دَمَ في ذَلِكَ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وجَماعَةٍ مَعَهُ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ، والأعْرَجُ، وأبُو حَيْوَةَ: "الهَدِيَّ" بِكَسْرِ الدالِ وشَدِّ الياءِ في المَوْضِعَيْنِ واحِدَتُهُ هَدِيَّةٌ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عن عاصِمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ الآيَةُ، والمَعْنى: فَحَلَقَ لِإزالَةِ الأذى "فَفِدْيَةٌ"، وهَذا هو فَحْوى الخِطابِ عِنْدَ أكْثَرِ الأُصُولِيِّينَ. «وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حِينَ رَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ ورَأسُهُ يَتَناثَرُ قَمْلًا فَأمَرَهُ بِالحَلّاقِ»، ونَزَلَتِ الرُخْصَةُ. و"فِدْيَةٌ" رُفِعَ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ. والصِيامُ عِنْدَ مالِكٍ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وإبْراهِيمَ، وغَيْرِهِمْ، وجَمِيعِ أصْحابِ مالِكٍ: ثَلاثَةُ أيّامٍ. والصَدَقَةُ: سِتَّةُ مَساكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ، وذَلِكَ مُدّانِ بِمُدٍّ (p-٤٧٥)النَبِيُّ ﷺ، والنُسُكُ: شاةٌ بِإجْماعٍ، ومَن ذَبَحَ أفْضَلَ مِنها فَهو أفْضَلُ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وعِكْرِمَةُ: الصِيامُ عَشْرَةُ أيّامٍ، والإطْعامُ عَشَرَةُ مَساكِينَ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "أو نُسْكٌ" بِسُكُونِ السِينِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: النُسُكُ: شاةٌ، فَإنْ لَمْ يَجِدْها فَقِيمَتُها يُشْتَرى بِها طَعامٌ فَيُطْعَمُ مِنهُ مُدّانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدِ القِيمَةَ عَرَّفَها، وعَرَّفَ ما يُشْتَرى بِها مِنَ الطَعامِ، وصامَ عن كُلِّ مَدِينٍ يَوْمًا. قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ذَلِكَ كُلُّهُ حَيْثُ شاءَ، وقالَهُ إبْراهِيمُ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ وأصْحابِهِ، إلّا ابْنَ الجَهْمِ فَإنَّهُ قالَ: لا يَكُونُ النُسُكُ إلّا بِمَكَّةَ. وقالَ عَطاءٌ -فِي بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ- وأصْحابُ الرَأْيِ: النُسُكُ بِمَكَّةَ، والصِيامُ والإطْعامُ حَيْثُ شاءَ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ وطاوُوسٌ وعَطاءٌ أيْضًا، ومُجاهِدٌ، والشافِعِيٌّ: النُسُكُ والإطْعامُ بِمَكَّةَ، والصِيامُ حَيْثُ شاءَ. والمُفْتَدِي مُخَيَّرٌ في أيِّ هَذِهِ الثَلاثَةِ شاءَ، وكَذَلِكَ قالَ مالِكٌ وغَيْرُهُ في كُلِّ ما في القُرْآنِ، أو فَإنَّهُ عَلى التَخْيِيرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾، قالَ عَلْقَمَةُ، وعُرْوَةُ: المَعْنى: إذا بَرِئْتُمْ مِن مَرَضِكُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُما: إذا أمِنتُمْ مِن خَوْفِكم مِنَ العَدُوِّ المُحْصَرِ، وهَذا أشْبَهُ بِاللَفْظِ، إلّا أنْ يَتَخَيَّلَ الخَوْفَ مِنَ المَرَضِ، فَيَكُونُ الأمْنُ مِنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ الآيَةُ. قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُبَيْرِ، وعَلْقَمَةُ، وإبْراهِيمُ: الآيَةُ في المُحْصِرِينَ دُونَ المُخْلى سَبِيلُهُمْ، وصُورَةُ المُتَمَتِّعِ عِنْدَ ابْنِ الزُبَيْرِ أنْ يُحْصَرَ الرَجُلُ حَتّى يَفُوتَهُ الحَجُّ، ثُمَّ يَصِلُ إلى البَيْتِ، فَيَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، ويَقْضِي الحَجَّ مِن قابِلٍ، فَهَذا قَدْ تَمَتَّعَ بِما بَيْنَ العُمْرَةِ إلى حَجِّ القَضاءِ. وصُورَةُ المُتَمَتِّعِ المَحْصَرِ عِنْدَ غَيْرِهِ أنْ يُحْصَرَ فَيَحِلُّ دُونَ عُمْرَةٍ ويُؤَخِّرُها حَتّى يَأْتِيَ مِن قابِلٍ فَيَعْتَمِرُ في أشْهُرِ الحَجِّ ويَحُجُّ مِن عامِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: الآيَةُ في المُحْصِرِينَ وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ. وصُورَةُ المُتَمَتِّعِ أنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ سِتَّةُ شُرُوطٍ: أنْ يَكُونَ مُعْتَمِرًا في أشْهُرِ الحَجِّ، (p-٤٧٦)وَهُوَ مِن غَيْرِ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، ويَحِلُّ، ويُنْشِئُ الحَجَّ مِن عامِهِ ذَلِكَ، دُونَ رُجُوعٍ إلى وطَنِهِ، أو ما ساواهُ بُعْدًا. هَذا قَوْلُ مالِكٍ وأصْحابِهِ. واخْتُلِفَ لِمَ سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا؟ فَقالَ ابْنُ القاسِمِ: لِأنَّهُ تَمَتَّعَ بِكُلِّ ما لا يَجُوزُ لِلْمُحَرَّمِ فِعْلُهُ، مِن وقْتٍ حِلِّهِ في العُمْرَةِ إلى وقْتِ إنْشائِهِ الحَجَّ، وقالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِأنَّهُ تَمَتَّعَ بِإسْقاطِ أحَدِ السَفَرَيْنِ، وذَلِكَ أنَّ حَقَّ العُمْرَةِ أنْ تُقْصَدَ بِسَفْرَةٍ، وحَقُّ الحَجِّ كَذَلِكَ، فَلَمّا تَمَتَّعَ بِإسْقاطِ أحَدِهِما ألْزَمَهُ اللهُ هَدْيًا، كالقارِنِ الَّذِي يَجْمَعُ الحَجَّ والعُمْرَةَ في سَفَرٍ واحِدٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ شِدَّةٌ عَلى القادِمِ مَكَّةَ مِن سائِرِ الأقْطارِ لِما أسْقَطَ سَفَرًا، والمَكِّيُّ لا يَقْتَضِي حالُهُ سَفَرًا، في عُمْرَةٍ ولا حَجٍّ، لِأنَّهُ في بُقْعَةِ الحَجِّ. فَلَمْ يَلْزَمْ شَيْئًا لِأنَّهُ لَمْ يُسْقِطْ شَيْئًا، ومَن قالَ إنَّ اسْمَ التَمَتُّعِ وحُكْمَهُ إنَّما هو مِن جِهَةِ التَمَتُّعِ بِالنِساءِ والطِيبِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أنَّهُ يَسْتَغْرِقُ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ المَكِّيُّ وغَيْرُهُ عَلى السَواءِ في القِياسِ، فَكَيْفَ يَشْتَدُّ مَعَ ذَلِكَ عَلى الغَرِيبِ الَّذِي هو أعْذَرُ، ويُلْزِمُ هَدْيًا ولا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالمَكِّيِّ؟ فَيَتَرَجَّحُ بِهَذا النَظَرِ أنَّ التَمَتُّعَ إنَّما هو مِن أجْلِ إسْقاطِ أحَدِ السَفَرَيْنِ. إلّا أنَّ أبا عُبَيْدٍ قالَ -فِي كِتابِ الناسِخِ والمَنسُوخِ لَهُ-: إنَّ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مَمْنُوعَةٌ لِلْمَكِّيِّ، لا تَجُوزُ لَهُ، ورَخَّصَ اللهُ تَعالى لِلْقادِمِ، لِطُولِ بَقائِهِ مُحْرِمًا، وقَرَنَ الرُخْصَةَ بِالهَدْيِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ شِدَّةٌ عَلى أهْلِ مَكَّةَ، وبِهَذا النَظَرِ يَحْسُنُ أنْ يَكُونَ التَمَتُّعُ مِن جِهَةِ اسْتِباحَةٍ ما لا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ، لَكِنَّهُ قَوْلٌ شاذٌّ لا يَعَوَّلُ عَلَيْهِ. وجُلُّ الأُمَّةِ عَلى جَوازِ العُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ لِلْمَكِّيِّ، ولا دَمَ عَلَيْهِ، وذَكَرَ أبُو عُبَيْدٍ القَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، واسْتَنَدَ إلَيْهِ في الَّذِي وافَقَهُ، وقَدْ حَكاهُ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ (p-٤٧٧)وَقالَ: إنَّهُ قالَ: يا أهْلَ مَكَّةَ، لا مُتْعَةَ لَكُمْ، إنَّ اللهَ قَدْ أحَلَّها لِأهْلِ الآفاقِ، وحَرَّمَها عَلَيْكُمْ، إنَّما يَقْطَعُ أحَدُكم وادِيًا ثُمَّ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ، فَمَعْنى هَذا أنَّهم مَتى أحْرَمُوا دامُوا إلى الحَجِّ. وقالَ السُدِّيُّ: المُتَمَتِّعُ هو الَّذِي يَفْسَخُ الحَجَّ في العُمْرَةِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عِنْدَ مالِكٍ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ سُراقَةَ بْنِ مالِكٍ. قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ. فَسْخُ الحَجِّ في العُمْرَةِ؛ ألَنا خاصَّةً أمْ لِلْأبَدِ؟ فَقالَ: "بَلْ لِأبَدَ أبَدَ"» وإنَّما شَرْطٌ في المُتَمَتِّعِ أنْ يَحِلَّ في أشْهُرِ الحَجِّ، لِأنَّها مُدَّةٌ يَمْلِكُها الحَجُّ، فَمَن كانَ فِيها مُحْرِمًا فَحَقُّهُ أنْ يَصِلَ الإحْرامَ إلى الحَجِّ. وفي كِتابِ مُسْلِمٍ إيعابُ الأحادِيثِ في هَذا المَعْنى، ومَذْهَبُ عُمَرَ، وقَوْلُ أبِي ذَرٍّ: إنَّ مُتْعَةَ النِساءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ خاصَّتانِ لِأصْحابِ النَبِيِّ ﷺ. وقالَ طاوُسٌ: مَنِ اعْتَمَرَ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ أقامَ حَتّى حَجَّ مِن عامِهِ فَهو مُتَمَتِّعٌ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "مَنِ اعْتَمَرَ بَعْدَ يَوْمِ النَحْرِ في بَقِيَّةِ (p-٤٧٨)العامِ فَهو مُتَمَتِّعٌ". وهَذانَ قَوْلانِ شاذّانِ لَمْ يُوافِقْهُما أحَدٌ مِنَ العُلَماءِ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ فِيما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب