الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله، وأكثر ما استعمل في الجهاد؛ لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 265، "تفسير البغوي" 1/ 215.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قال أبو عبيدة [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 68.]] والزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 266.]]: التَهْلُكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هَلاكًا وهُلْكًا وهَلَكًا وتَهلُكةً. قال الخارزنجي [[هو: أحمد بن محمد البشتي، أبو حامد المعروف بالخارْزَنجي، إمام الأدب بخراسان في عصره بلا مدافعة، صنف تكملة كتاب العين، وشرح أبيات أدب الكاتب توفي سنة 348 هـ. ينظر: "الأنساب" 2/ 304 "بغية الوعاة" 1/ 388.]]: لا أَعْلَمُ في كلام العَرب مصدرًا على تفعُلة بضم العين إلا هذا [[رواه عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 417، والحيري في "الكفاية" 1/ 136، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 59، "الدر المصون" 2/ 312.]]. قال أبو علي: قد حكى سيبويه التَّضُرَّةُ والتَّسُرَّة وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر، حكى سيبويه: التتفل والتنضُب قال: ولا نعلمه جاء صفةً [[ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 270 - 271، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 59.]]. وقال الليث: التَّهْلُكَة: كل شيء تصيرُ عَاقبتُه إلى الهلاك. ومعنى الهَلاكِ: الضياعُ، وهو مصير الشيء بحيث لا يُدْرى أين هو [[ينظر في التهلكة: "تفسير الثعلبي" 2/ 417، "المفردات" ص 522، "البحر المحيط" 1/ 59، "اللسان" 8/ 4686 (هلك)، وقال الحافظ في "الفتح" 8/: وقيل: التهلكة: ما أمكن التحرز منه، والهلاك بخلافه، وقيل: التهلكة: نفس الشيء المهلك، وقيل ما تضر عاقبته، والمشهور الأول. وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 215، "البحر المحيط" 2/ 60، وقد تكلم كثيرا، يحسن تلخيص كلامه.]]. ومعنى قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾، لا تأخذوا في ذلك، يقال لكل من أخذ في عمل: قد ألقى يديه فيه [["تفسير الطبري" 2/ 204، 205، "تفسير الثعلبي" 2/ 418.]]، ومنه: حتى إذا ألقت يدًا في كافر [[عجز البيت: وأَجَنَّ عوراتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُها والبيت للبيد في "ديوانه" ص 316، و"شرح المعلقات السبع" لأبي عبد الله الزورني ص 220، و"شرح المعلقات العشر" للتبريزي ص 246، و"إصلاح المنطق" ص 127، "تفسير الثعلبي" 2/ 418. والكافر: الليل، والكفر: الستر، والإجنان: الستر أيضًا. "لسان العرب" 7/ 3897 (كفر).]] أي: بدأت [[في (م): (بدت).]] في المغيب [["تفسيرالثعلبي" 2/ 418.]]. وقال المبرد: عبر بالأيدي عن النفس، أراد: لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، فعبر بالبَعْضِ عن الكُلِّ، كقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10] ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] [[نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 418، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 203.]]. والباء زائدة، أراد: لا تلقوا أيديكم، يدل عليه قوله ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ [النحل: 15]. فعدّى بغير الباء [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 419، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 353، "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري 244.]]. وقال أبو علي: المعنى لا تقربوا مما يهلككم؛ لأن من ألقى يَدَهُ إلى الشيء فقد قَرُبَ منه، وهذا مبالغة (في الزجر) [[سقطت من (م).]] وتأكيد، لأن النهي إذا وقع عن [[في (ش): (من).]] مشارفته ومُقاربته فمباشرته أولى بالانتهاء، وكان المعنى: لا تقربوا من ترك الإنفاق في سبيل الله [[ينظر في ذكر الأقوال في الآية "تفسير الطبري" 2/ 200 - 202، "البغوي" == 1/ 215 - 217، "زاد المسير" 1/ 203، "البحر المحيط" 2/ 70، وذكر تسعة أقوال ثم قال: وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية، والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله، وقال الطبري في "تفسيره" 3/ 593: فالصواب أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه، ثم ذكر أثر ابن عباس: التهلكة: عذاب الله.]]. وأكثر أهل التفسير على أن معنى قول ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، أي: لا تمسكوا ولا تبخلوا عن الإنفاق في سبيل الله. والمراد بهذه الآية: النَّهْيُ عن ترك النفقة في الجهاد، إما أن ينفق على نفسه ويخرج، وإما أن ينفق على من يغزو من المسلمين [[ذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 200 - 202، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 331 الآثار في ذلك عن حذيفة، وابن عباس وعكرمة والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي صالح والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة ومحمد بن كعب القرظي، وينظر: "صحيح البخاري" 5/ 185، و"تفسير سفيان الثوري" ص 59، وسعيد بن منصور في "السنن" 3/ 710، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 74، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 262.]]، حتى قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئًا [[رواه عنه سفيان الثوري في "تفسيره" 59، والإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" 2/ 395، والطبري 2/ 200، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 331، والبيهقي 9/ 45.]]. وقال السدي، في هذه الآية: أنفق في سبيل الله ولو عقالًا. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تقل: ليس عندي شيء [[رواه عنه الطبري 2/ 201، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 331.]]. وقال أبو إسحاق معناه: أنكم إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم، أي: عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوّي عدوكم عليكم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 266.]]. فعلى هذا معنى التهلكة: الهلاك بالعصيان بترك النفقة، والهلاك بقوة العدو عند ترك النفقة في الجهاد. وقال أبو أيوب الأنصاري [[هو: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، من بني النجار، صحابي شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، رحل إلى الشام وغزا مع جيش معاوية القسطنطينية، وتوفي هناك سنة 52 هـ. ينظر: "الإصابة" 1/ 405، "الأعلام" 2/ 295.]]: إنها نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينَهُ ونَصَر رَسُوله، قلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية [[الحديث رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة البقرة 5/ 212 وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في "تفسيره" 1/ 236، وأبو داود في الجهاد، باب: في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ 3/ 12 برقم 2512، وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود برقم 2193، ولهذا الحديث قصة، عن أسلم بن عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت في الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. هذا لفظ أبي داود. قال الحافظ في "الفتح" 8/ 34: وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الحسنة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور == فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين.]]. فعلى هذا، التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. والمعنى: لا تتركوا الجهاد فتهلكوا، فسمى ترك الجهاد تَهُلكة؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك في الدنيا بقوة العدو وفي الآخرة بالعصيان [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 205، "الثعلبي" 2/ 426، "البحر المحيط" 2/ 70.]]. وفي الآية قول ثالث، وهو ما روي عن البراء بن عازب [[هو: البراء بن عازب بن حارث الأنصاري الأوسي، صحابي غزا مع رسول الله ﷺ أربع عشرة غزوة، وهو الذي افتتح الرَّيَّ، وشهد الجمل وصفين مع علي - رضي الله عنه -، ومات في إمارة مصعب بن الزبير. ينظر: "أسد الغابة" 1/ 205، "الإصابة" 1/ 278.]]: أنه قيل له في هذه الآية: أهو [[في (ش): (أهوالٌ).]] الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه [[في (م): (بيده).]] ويقول: لا توبة لي؟ [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 202، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 332، والحاكم 2/ 302، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 407، والخطابي في "غريب الحديث" 1/ 536، وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" 8/ 185، وروى الطبري في "تفسيره" 2/ 202، وأحمد في "مسنده" 4/ 281 عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ لأن الله عز وجل بعث رسوله ﷺ فقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك، إنما ذلك في النفقة، وذكر الحافظ في "الفتح" 8/ 185 أنه إن كان محفوظا، فلعل للبراء فيه جوابين، والأول من رواية الثوري وأبي إسرائيل وأبي الأحوص ونحوهم، وكلٌّ منهم أتقن من أبي بكر بن عياش، فكيف مع اجتماعهم وانفراده.]]. وهذا القول اختيار يمان [[ذكره عنه الثعلبي 2/ 437.]] بن رِئَاب [[في (ش): (ريمان بن زيّات). وفي (م): (رباب).]] [[هو: اليمان بن رباب أو ابن رئاب البصري من رؤساء الخوارج، تقدمت ترجمته.]] والمفضل [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 437. وهذا القول مروي أيضًا عن محمد بن سيرين وعبيدة السلماني وأبي قلابة البصري. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 203، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 332، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 332، "تفسير الثعلبي" 2/ 436 - 437.]]، قالا: يقال للرجل إذا استسلم للهلاك ويئس من النجاة: ألقى بيديه [[في (م): (بيده).]]. وقال الفضيل: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بإساءة الظن بالله [[رواه سفيان الثوري في "تفسيره" 59، ورواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله" ص 117، وذكره الثعلبي 2/ 443، وروى الطبري 2/ 205 عن عكرمة نحوه.]]، فعلى هذا القول التهلكة: هو ترك التوبة، والقنوط من رحمة الله، أو إساءة الظن بالله عز وجل في الإخلاف عند الإنفاق [[وروى الطبري 2/ 205، وابن أبي حاتم 1/ 232 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: التهلكة: عذاب الله، وهذا قول رابع في معنى الآية.]]. قال أبو علي الفارسي: الباء في قوله: (بأيديكم) زيادة، المعنى: (ولا تلقوا أيديكم) يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ [النحل: 15] ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [الحجر: 19] و ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [آل عمران: 151]، وزيادتها ههنا كزيادتها في قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14] [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 205، "تفسير البغوي" 1/ 215، وقال: وقيل: الباء في موضعها، وفيه حذف، أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، واختار أبو== حيان في "البحر المحيط" 2/ 71 أن المفعول في المعنى هو بأيديكم، لكنه ضمن ألقى معنى ما يتعدى بالباء فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي؛ لأن بها الحركة والبطش والامتناع.]]. وقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا﴾ معناه على القول الأول في التهلكة: أنفقوا في سبيل الله، فمن أنفق في سبيل الله فهو محسن. قال ابن عباس: أي [[ليست في (م).]]: أحسنوا الظن بالله، فإنه يُضَاعِفُ الثواب، ويُخْلِفُ لكم النفقة [[رواه الطبري في "تفسيره" عن عكرمة 2/ 602، وذكر في "البحر المحيط" 2/ 71.]]، فالإحسان على هذا محمول على إحسان الظن بالله في الخُلْف، وعلى القول الثاني: جاهدوا، والمجاهد في سبيل الله محسنٌ، وعلى القول الثالث: تفسير الإحسان إحسان الظن بالله في قبول التوبة وغفران الذنوب [[ينظر: "زاد المسير" 1/ 303، وذكر أن القول الثاني: أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة وسفيان، وهو يخرج على قول من قال: التهلكة: القنوط، والثالث: معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب