الباحث القرآني

فَلَمّا أثْبَتَ سُبْحانَهُ لِهَذا الكِتابِ أنَّهُ المُخْتَصُّ بِكَوْنِهِ حَقًّا فَثَبَتَ أنَّهُ أعْظَمُ الأدِلَّةِ والآياتِ، شَرَعَ يُذَكِّرُ ما أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٥] مِنَ الآياتِ المَحْسُوسَةِ الظّاهِرَةِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِ آياتِ الكِتابِ حَقًّا بِما لَها في أنْفُسِها مِنَ الثَّباتِ، والدّالَّةِ، بِما لِفاعِلِها مِنَ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ - عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وأنَّ ما أخْبَرَ بِهِ مِنَ البَعْثِ حَقٌّ لِما لَهُ مِنَ الحِكْمَةِ، والدّالَّةِ - بِما لِلتَّعْبِيرِ عَنْها مِنَ الإعْجازِ - عَلى كَوْنِها مِن عِنْدِ اللَّهِ، وبَدَأ بِما بَدَأ بِهِ في تِلْكَ مِن آياتِ السَّماواتِ لِشَرَفِها ولِأنَّها أدَلُّ، فَقالَ: ﴿اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ (p-٢٧٠)وحَدَهُ ﴿الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ بَعْدَ إيجادِها مِن عَدَمٍ - كَما أنْتُمْ بِذَلِكَ مَقْرُونٌ؛ والرَّفْعُ: وضْعُ الشَّيْءِ في جِهَةِ العُلُوِّ سَواءٌ كانَ بِالنَّقْلِ أوْ بِالِاخْتِراعِ، كائِنَةً ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ جَمْعُ عِمادٍ كَأُهُبٍ وإهابٍ [أوْ عَمُودٍ، والعَمُودُ: جِسْمٌ مُسْتَطِيلٌ يَمْنَعُ المُرْتَفَعَ أنْ يَمِيلَ، وأصْلُهُ مَنعُ المَيْلِ] ﴿تَرَوْنَها﴾ أيْ مَرْئِيَّةً حامِلَةً لِهَذِهِ الأجْرامِ العِظامِ الَّتِي مِثْلُها لا تَحْمِلُ في مَجارِي عاداتِكم إلّا بَعْدَ تَناسُبِها في العَظْمِ، هَذا عَلى أنَّ ﴿تَرَوْنَها﴾ صِفَةٌ، ويَجُوزُ - ولَعَلَّهُ أحْسَنُ - أنْ يَكُونَ عَلى تَقْدِيرِ سُؤالٍ مِن كَأنَّهُ قالَ: ما دَلِيلُ أنَّها بِغَيْرِ عَمَدٍ؟ فَقِيلَ: المُشاهَدَةُ [الَّتِي] لا أجْلى مِنها. [ولَمّا كانَ رَفْعُ السَّماواتِ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ وقَبْلَ تَسْوِيَتِها، ذَكَرَ أنَّهُ شَرَعَ فِي] تَدْبِيرِ ما لِلْكَوْنَيْنِ مِنَ المَنافِعِ وما فِيهِما مِنَ الأعْراضِ والجَواهِرِ، وأشارَ إلى عَظَمَةِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ قالَ الرّازِيُّ في لَوامِعِ ”البُرْهانِ: وخَصَّ العَرْشَ لِأنَّهُ أعْلى خَلْقِهِ وصَفْوَتِهِ“ ومَنظَرُهُ الأعْلى ومَوْضِعُ تَسْبِيحِهِ ومَظْهَرُ مُلْكِهِ ومَبْدَأُ وحُيِهِ ومَحَلُّ قُرْبِهِ، ولَمْ يَنْسَبْ شَيْئًا مِن خَلْقِهِ كَنِسْبَتِهِ، فَقالَ (p-٢٧١)تَعالى: ﴿ذُو العَرْشِ﴾ [البروج: ١٥] كَما قالَ ﴿ذُو الجَلالِ﴾ [الرحمن: ٢٧] و”ذُو“ كَلِمَةٌ لِحَقٍّ واتِّصالٍ وظُهُورٍ ومَبْدَأٍ، وقالَ الرُّمّانِيُّ: والِاسْتِواءُ: الِاسْتِيلاءُ بِالِاقْتِدارِ ونُفُوذِ السُّلْطانِ، وأصْلُهُ: اسْتَوى التَّدْبِيرُ، كَما أنَّ أصْلَ القِيامِ الِانْتِصابُ، ثُمَّ يُقالُ: قائِمٌ بِالتَّدْبِيرِ - انْتَهى. وعَبَّرَ بـِ ”ثُمَّ“ لِبُعْدِ هَذِهِ [الرُّتْبَةِ] عَنِ الأطْماعِ وعُلُوِّها عَمّا يُسْتَطاعُ، فَلَيْسَ هُناكَ تَرْتِيبٌ ولا مُهْلَةٌ حَتّى يَفْهَمَ [أنَّ] ما قَبْلُ كانَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، والمُرادُ أنَّهُ أخَذَ في التَّدْبِيرِ لِما خَلَقَ كَما هو شَأْنُ المُلُوكِ إذا اسْتَوَوُا عَلى عُرُوشِهِمْ، أيْ لَمْ يَكُنْ لَهم مُدافِعٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ جُلُوسٌ أصْلًا، وذَلِكَ لِأنَّ رُوحَ المَلِكِ التَّدْبِيرُ وهو أعْدَلُ أحْوالِهِ واللَّهُ أعْلَمُ ﴿وسَخَّرَ﴾ أيْ ذَلَّلَ تَذْلِيلًا عَظِيمًا ﴿الشَّمْسَ﴾ أيِ الَّتِي [هِيَ آيَةُ النَّهارِ] ﴿والقَمَرَ﴾ [أيِ] الَّذِي هو آيَةُ اللَّيْلِ لِما فِيهِما مِنَ الحِكَمِ والمَنافِعِ والمَصالِحِ الَّتِي] بِها صَلاحُ البِلادِ والعِبادِ، ودَخَلَتِ اللّامُ فِيهِما وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما لا ثانِيَ لَهُ لِما في الِاسْمِ مِن مَعْنى الصِّفَةِ، إذًا لَوْ وجَدَ مِثْلَ لَهُما لَمْ يَتَوَقَّفْ في إطْلاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، (p-٢٧٢)ولا كَذَلِكَ زَيْدٌ وعَمْرٌو. والتَّسْخِيرُ: التَّهْيِئَةُ لِذَلِكَ المَعْنى المُسَخَّرِ لَهُ لِيَكُونَ بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ مُعاناةِ صاحِبِهِ فِيما يَحْتاجُ إلَيْهِ كَتَسْخِيرِ النّارِ لِلْإنْضاجِ والماءِ لِلْجَرَيانِ ﴿كُلٌّ﴾ أيْ مِنَ الكَوْكَبَيْنِ ﴿يَجْرِي﴾ . ولَمّا كانَ السِّياقُ لِلتَّدْبِيرِ، عُلِمَ أنَّ المُرادَ بِجَرْيِهِما لِذَلِكَ، وهو تَنَقُّلُهُما في المَنازِلِ والدَّرَجاتِ الَّتِي يَتَحَوَّلُ بِها الفُصُولُ، ويَتَغَيَّرُ النَّباتُ وتُضْبَطُ الأوْقاتُ، وكُلَّما كانَ التَّدْبِيرُ أسْرَعَ، عَلِمَ أنَّ صاحِبَهُ أعْلَمُ ولا سِيَّما إنْ كانَ أحْكَمَ، فَكانَ المَوْضِعُ لِلّامِ لا لِإلى، فَعَلَّلَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِأجْلِ﴾ أيْ لِأجْلِ اخْتِصاصِهِ بِأجَلٍ ﴿مُسَمًّى﴾ هَذِي أجْلُها سَنَةٌ، وذاكَ أجَلُهُ شَهْرٌ؛ والأجَلُ: الوَقْتُ المَضْرُوبُ لِحُدُوثِ أمْرٍ وانْقِطاعِهِ. ولَمّا كانَ كُلُّ مِن ذَلِكَ مُشْتَمِلًا مِنَ الآياتِ عَلى ما يَجِلُّ عَنِ الحَصْرِ مَعَ كَوْنِهِ في غايَةِ الإحْكامِ، اسْتَأْنَفَ خَبَرًا هو كالتَّنْبِيهِ عَلى ما فِيما مَضى مِنَ الحِكْمَةِ، فَقالَ مُبَيِّنًا لِلِاسْتِواءِ عَلى العَرْشِ بَعْدَ أنْ أشارَ إلى عَظَمَةِ هَذا الخَبَرِ بِما في صِلَةِ المَوْصُولِ مِنَ الأوْصافِ العَظِيمَةِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ أيْ في المَعاشِ والمَعادِ وما يُنَظِّمُهُما بِأنْ يَفْعَلَ فِيهِ فِعْلَ مَن يَنْظُرُ في (p-٢٧٣)أدْبارِهِ وعَواقِبِهِ لِيَأْتِيَ مُحْكَمًا يَجِلُّ عَنْ أنْ يُرامَ بِنَقْضٍ، بَلْ هو بِالحَقِيقَةِ الَّذِي يَعْلَمُ أدْبارَ الأُمُورِ وعَواقِبَها، لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، مَعَ أنَّ هَذا العالَمَ - مِن أعْلى العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرى - مُحْتَوٍ عَلى أجْناسٍ وأنْواعٍ وفُصُولٍ وأصْنافٍ وأشْخاصٍ لا يُحِيطُ بِها سِواهُ، وذَلِكَ دالٌّ قَطْعًا عَلى أنَّهُ [سُبْحانَهُ] في ذاتِهِ وصِفاتِهِ مُتَعالٍ عَنْ مُشابَهَةِ المُحْدَثاتِ واحِدٌ أحَدٌ صَمَدٌ لَيْسَ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ. ولَمّا كانَ هَذا بَيانًا عَظِيمًا لا لَبْسَ فِيهِ، قالَ ﴿يُفَصِّلُ الآياتِ﴾ [أيِ] الَّتِي بَرَزَ إلى الوُجُودِ تَدْبِيرُها، الدّالَّةُ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وكَمالِ حِكْمَتِهِ، المُشْتَمِلَةُ عَلَيْها مُبْدِعاتُهُ، فَيُفَرِّقُها ويُبايِنُ بَيْنَها مُبايَنَةً لا لَبْسَ فِيها، تَقْرِيبًا لِعُقُولِكم وتَدْرِيبًا لِفُهُومِكُمْ، لِتَعْلَمُوا أنَّها فِعْلُ الواحِدِ المُخْتارِ، لا فِعْلَ الطَّبائِعِ ولا غَيْرَها مِنَ الأسْبابِ الَّتِي أبْدَعَها، وإلّا فَكانَتْ عَلى نَسَقٍ واحِدٍ، وجَمَعَها لِما تَقَدَّمَ مِنَ الإشارَةِ إلى كَثْرَتِها بِقَوْلِهِ: ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [يوسف: ١٠٥] فَكَأنَّ هَذِهِ الألِفَ واللّامَ لِذَلِكَ المُنْكَرِ [هُناكَ]. (p-٢٧٤)ولَمّا كانَ هَذا التَّدْبِيرُ وهَذا التَّفْصِيلُ دالًّا عَلى تَمامِ القُدْرَةِ وغايَةِ الحِكْمَةِ، وكانَ البَعْثُ لِفَصْلِ القَضاءِ والحُكْمِ بِالعَدْلِ وإظْهارِ العَظَمَةِ هو مَحَطُّ الحِكْمَةِ، عَلَّلَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكم بِلِقاءِ رَبِّكُمْ﴾ أيْ لِتَكُونَ حالُكم حالَ مَن يُرْجى لَهُ بِما يَنْظُرُ مِنَ الدَّلالاتِ الإيقانُ بِلِقاءِ المُوجِدِ لَهُ المُحْسِنِ إلَيْهِ بِجَمِيعِ ما يَحْتاجُهُ التَّرْبِيَةُ ﴿تُوقِنُونَ﴾ أيْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ شَكٍّ اسْتِدْلالًا بِالقُدْرَةِ عَلى ابْتِداءِ الخَلْقِ عَلى القُدْرَةِ عَلى ما جَرَتِ العادَةُ بِأنَّهُ أهْوَنُ مِنَ الِابْتِداءِ وهو الإعادَةُ، وأنَّهُ لا تَتِمُّ الحِكْمَةُ إلّا بِذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب