﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمًّى﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ هو ابْتِداءُ المَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وما قَبْلَهُ بِمَنزِلَةِ الدِّيباجَةِ مِنَ الخُطْبَةِ، ولِذا تَجِدُ الكَلامَ في هَذا الغَرَضِ قَدْ طالَ واطَّرَدَ.
ومُناسَبَةُ هَذا الِاسْتِئْنافِ لِقَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الرعد: ١]؛ لِأنَّ أصْلَ كُفْرِهِمْ بِالقُرْآنِ ناشِئٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالكُفْرِ وعَنْ تَطَبُّعِهِمْ بِالِاسْتِكْبارِ والإعْراضِ عَنْ دَعْوَةِ الحَقِّ.
(p-٨٠)والِافْتِتاحُ بِاسْمِ الجَلالَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي يَعُودُ إلى (رَبِّكَ) لِأنَّهُ مُعَيَّنٌ بِهِ لا يَشْتَبِهُ غَيْرُهُ مِن آلِهَتِهِمْ لِيَكُونَ الخَبَرُ المَقْصُودُ جارِيًا عَلى مُعَيَّنٍ لا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إبْلاغًا في قَطْعِ شائِبَةِ الإشْراكِ.
والَّذِي رَفَعَ هو الخَبَرُ. وجُعِلَ اسْمَ مَوْصُولٍ لِكَوْنِ الصِّلَةِ مَعْلُومَةَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ مَن تَثْبُتُ لَهُ هو المُتَوَحِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ إذْ لا يَسْتَطِيعُ مِثْلَ تِلْكَ الصِّلَةِ غَيْرُ المُتَوَحِّدِ ولِأنَّهُ مُسَلَّمٌ لَهُ ذَلِكَ ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ. والسَّماواتُ تَقَدَّمَتْ مِرارًا، وهي الكَواكِبُ السَّيّارَةُ وطَبَقاتُ الجَوِّ الَّتِي تَسْبَحُ فِيها.
ورَفَعَها: خَلَقَها مُرْتَفِعَةً، كَما يُقالُ: وسِّعْ طَوْقَ الجُبَّةِ وضَيِّقْ كُمَّها، لا تُرِيدُ وُسِّعْهُ بَعْدَ أنْ كانَ ضَيِّقًا ولا ضَيِّقْهُ بَعْدَ أنْ كانَ واسِعًا وإنَّما يُرادُ اجْعَلْهُ واسِعًا واجْعَلْهُ ضَيِّقًا، فَلَيْسَ المُرادُ أنَّهُ رَفَعَها بَعْدَ أنْ كانَتْ مُنْخَفِضَةً.
والعَمَدُ: جَمْعُ عِمادٍ، مِثْلُ إهابٍ وأُهُبٍ، والعامِدُ: ما تُقامُ عَلَيْهِ القُبَّةُ والبَيْتُ. وجُمْلَةُ (تَرَوْنَها) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ السَّماواتِ، أيْ لا شُبْهَةَ في كَوْنِها بِغَيْرِ عَمَدٍ.
والقَوْلُ في مَعْنى ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأعْرافِ وفي سُورَةِ يُونُسَ.
وكَذَلِكَ الكَلامُ عَلى سَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾ [الأعراف: ٥٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.
والجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ. وسَيْرُ الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ في مَسافاتٍ شاسِعَةٍ، فَهو أسْرَعُ التَّنَقُّلاتِ في بابِها وذَلِكَ سَيْرُها في مَداراتِها.
(p-٨١)واللّامُ لِلْعِلَّةِ. والأجَلُ: هو المُدَّةُ الَّتِي قَدَّرَها اللَّهُ لِدَوامِ سَيْرِها، وهي مُدَّةُ بَقاءِ النِّظامِ الشَّمْسِيِّ الَّذِي إذا اخْتَلَّ انْتَثَرَتِ العَوالِمُ وقامَتِ القِيامَةُ.
والمُسَمّى: أصْلُهُ المَعْرُوفُ بِاسْمِهِ، وهو هُنا كِنايَةٌ عَنِ المُعَيَّنِ المُحَدَّدِ إذِ التَّسْمِيَةُ تَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ والتَّمْيِيزَ عَنِ الِاخْتِلاطِ.
* * *
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكم بِلِقاءِ رَبِّكم تُوقِنُونَ﴾ جُمْلَةُ (يُدَبِّرُ الأمْرَ) في مَوْضِعِ الحالِ مِنِ اسْمِ الجَلالَةِ. وجُمْلَةُ يُفَصِّلُ الآياتِ حالٌ ثانِيَةٌ تُرِكَ عَطْفُها عَلى الَّتِي قَبْلَها لِتَكُونَ عَلى أُسْلُوبِ التَّعْدادِ والتَّوْقِيفِ وذَلِكَ اهْتِمامٌ بِاسْتِقْلالِها. وتَقَدَّمَ القَوْلُ عَلى يُدَبِّرُ الأمْرَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ [يونس: ٣١] في سُورَةِ يُونُسَ. وتَفْصِيلُ الآياتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١] في طالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ.
ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُما هُنا أنَّ تَدْبِيرَ الأمْرِ يَشْمَلُ تَقْدِيرَ الخَلْقِ الأوَّلِ والثّانِي فَهو إشارَةٌ إلى التَّصَرُّفِ بِالتَّكْوِينِ لِلْعُقُولِ والعَوالِمِ، وتَفْصِيلُ الآياتِ مُشِيرٌ إلى التَّصَرُّفِ بِإقامَةِ الأدِلَّةِ والبَراهِينِ، وشَأْنُ مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ أنْ يُفِيدَ اهْتِداءَ النّاسِ إلى اليَقِينِ بِأنَّ بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ حَياةً أُخْرى؛ لِأنَّ النَّظَرَ بِالعَقْلِ في المَصْنُوعاتِ وتَدْبِيرَها يَهْدِي إلى ذَلِكَ، وتَفْصِيلُ الآياتِ والأدِلَّةِ يُنَبِّهُ العُقُولَ ويُعِينُها عَلى ذَلِكَ الِاهْتِداءِ ويُقَرِّبُهُ. وهَذا قَرِيبٌ مِن قَوْلِهِ في سُورَةِ يُونُسَ ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣] ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [يونس: ٤]، وهَذا مِن إدْماجِ غَرَضٍ في أثْناءِ غَرَضٍ آخَرَ؛ لِأنَّ الكَلامَ جارٍ عَلى إثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ. وفي أدِلَّةِ الوَحْدانِيَّةِ دَلالَةٌ عَلى البَعْثِ أيْضًا.
(p-٨٢)وصِيغَ (يُدَبِّرُ) و(يُفَصِّلُ) بِالمُضارِعِ عَكْسَ قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾؛ لِأنَّ التَّدْبِيرَ والتَّفْصِيلَ مُتَجَدِّدٌ مُتَكَرِّرٌ بِتَجَدُّدِ تَعَلُّقِ القُدْرَةِ بِالمَقْدُوراتِ. وأمّا رَفْعُ السَّماواتِ وتَسْخِيرُ الشَّمْسِ والقَمَرِ فَقَدْ تَمَّ واسْتَقَرَّ دُفْعَةً واحِدَةً.
{"ayah":"ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ"}