الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١١٠ ] ﴿لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلا أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .
﴿لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ﴾ أيْ: لا يَزالُ هَدْمُهُ سَبَبُ شَكٍّ ونِفاقٍ زائِدٍ عَلى شَكِّهِمْ ونِفاقِهِمْ، لا يَزُولُ وسْمُهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، ولا يَضْمَحِلُّ أثَرُهُ ﴿إلا أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ: قِطَعًا، وتَتَفَرَّقُ أجْزاءً، فَحِينَئِذٍ يَسَلُونَ عَنْهُ.
وأمّا ما دامَتْ سالِمَةً مُجْتَمِعَةً، فالرِّيبَةُ باقِيَةٌ فِيها مُتَمَكِّنَةٌ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّقْطِيعِ تَصْوِيرًا لِحالِ زَوالِ الرِّيبَةِ عَنْها، ويَجُوزُ أيْ: يُرادُ حَقِيقَةُ تَقْطِيعِها وتَمْزِيقِها بِالمَوْتِ، أوْ بِعَذابِ النّارِ.
وقِيلَ: مَعْناهُ إلّا أنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِها قُلُوبُهم نَدَمًا وأسَفًا عَلى تَفْرِيطِهِمْ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أيْ: بِنِيّاتِهِمْ ﴿حَكِيمٌ﴾ أيْ: فِيما أمَرَ بِهَدْمِ بُنْيانِهِمْ، حِفْظًا لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ مَقاصِدِهِمُ الرَّدِيئَةِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في مَصاحِفِ أهْلِ المَدِينَةِ والشّامِ: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) بِغَيْرِ واوٍ، لِأنَّها قِصَّةٌ عَلى حِيالِها، وفي سائِرِها بِالواوِ عَلى عَطْفِ قِصَّةِ مَسْجِدِ الضِّرارِ الَّذِي أحْدَثَهُ المُنافِقُونَ عَلى سائِرِ قِصَصِهِمْ.
الثّانِي: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ «أنَّهُ كانَ بِالمَدِينَةِ، قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْها، رَجُلٌ مِنَ الخَزْرَجِ يُقالُ لَهُ أبُو عامِرٍ الرّاهِبُ، وكانَ قَدْ تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وقَرَأ عِلْمَ أهْلِ الكِتابِ، وكانَ فِيهِ عَبّادَةً في الجاهِلِيَّةِ، ولَهُ شَرَفٌ في الخَزْرَجِ كَبِيرٌ.
فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُهاجِرًا إلى المَدِينَةِ، واجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وصارَ لِلْإسْلامِ كَلِمَةٌ عالِيَةٌ، وأظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، (p-٣٢٦٤)شَرَّقَ اللَّعِينُ أبُو عامِرٍ بِرِيقِهِ، وبارَزَ بِالعَداوَةِ، وظاهَرَ بِها، وخَرَجَ فارًّا إلى كَفّارِ مَكَّةَ يُمالِئُهم عَلى حَرْبِ النَّبِيِّ ﷺ، فاجْتَمَعُوا بِمَن وافَقَهم مِن أحْياءِ العَرَبِ، وقَدِمُوا عامَ (أُحُدٍ)، فَكانَ أبُو عامِرٍ في أوَّلِ المُبارَزَةِ إلى قَوْمِهِ مِنَ الأنْصارِ فَخاطَبَهم واسْتَمالَهم إلى نَصْرِهِ ومُوافَقَتِهِ.
فَلَمّا عَرَفُوا كَلامَهُ قالُوا: لا أنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، يا فاسِقُ، يا عَدُوَّ اللَّهِ ! ونالُوا مِنهُ وسَبُّوهُ. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ دَعاهُ إلى اللَّهِ قَبْلَ فِرارِهِ، وقَرَأ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ، فَأبى أنْ يُسْلِمَ وتَمَرَّدَ.
فَدَعا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا فَنالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ. وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا فَرَغَ النّاسُ مِن (أُحُدٍ)، ورَأى أمْرَ الرَّسُولِ ﷺ في ارْتِفاعٍ وظُهُورٍ، ذَهَبَ إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ، فَوَعَدَهُ ومَنّاهُ، وأقامَ عِنْدَهُ، وكَتَبَ إلى جَماعَةٍ مِن قَوْمِهِ مِنَ الأنْصارِ، مِن أهْلِ النِّفاقِ والرَّيْبِ يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ أنَّهُ سَيُقْدِمُ بِجَيْشٍ يُقاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ويَغْلِبُهُ ويَرُدُّهُ عَمّا هو فِيهِ، وكانَ أمَرَهم أنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا ومَرْصَدًا لَهُ إذا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَرَعُوا في بِناءِ مَسْجِدٍ مُجاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُباءٍ، فَبَنَوْهُ وأحْكَمُوهُ، وفَرَغُوا مِنهُ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَجَهَّزُ إلى تَبُوكَ.
فَأتَوْهُ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنّا قَدْ بَنَيْنا مَسِجِدًا لِذِي العِلَّةِ والحاجَةِ واللَّيْلَةِ المَطِيرَةِ واللَّيْلَةِ الشّاتِيَةِ، وإنّا نُحِبُّ أنْ تَأْتِيَنا فَتُصَلِّيَ لَنا فِيهِ.
فَقالَ: «إنِّي عَلى جَناحِ سَفَرٍ، وحالِ شُغْلٍ، ولَوْ قَدِمْنا، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، أتَيْناكم، فَصَلَّيْنا لَكم فِيهِ» .
فَلَمّا نَزَلَ بِذِي أوانٍ - مَوْضِعٍ عَلى ساعَةٍ مِنَ المَدِينَةِ - أتاهُ خَبَرُ المَسْجِدِ، فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ ومَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أوْ أخاهُ عامِرًا، فَقالَ: انْطَلِقا إلى هَذا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ، فاهْدِماهُ وحَرِّقاهُ.
فَخَرَجا سَرِيعَيْنِ، حَتّى أتَيا بَنِي سالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وهم رَهْطُ مالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ، فَقالَ مالِكٌ لِمَعْنٍ: أنْظِرْنِي حَتّى أخْرُجَ إلَيْكَ بِنارٍ مِن أهْلِي، فَدَخَلَ أهْلُهُ، فَأخَذَ سَعْفًا مِنَ النَّخْلِ، فاشْعَلْ فِيهِ نارًا، ثُمَّ خَرَجا يَشْتَدّانِ، حَتّى دَخَلا المَسْجِدَ، وفِيهِ أهْلُهُ، فَحَرَّقاهُ وهَدَماهُ، وتَفَرَّقُوا عَنْهُ، ونَزَلَ فِيهِمْ ما نَزَلَ» - ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأسْنَدَ أطْرافَهُ إلى ابْنِ إسْحاقَ وابْنِ مَرْدُوَيْهِ - .
(p-٣٢٦٥)ورُوِيَ أنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ قُباءٍ، أتَوْا عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ في خِلافَتِهِ، فَسَألُوهُ أنْ يَأْذَنَ لِمُجَمِّعِ بْنِ جارِيَةَ أنْ يَؤُمَّهم في مَسْجِدِهِمْ فَقالَ: لا، ونُعْمَةَ عَيْنٍ ! ألَيْسَ هو إمامَ مَسْجِدِ الضِّرارِ ؟ قالَ مُجَمِّعٌ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، فَواللَّهِ ! لَقَدْ صَلَّيْتُ فِيهِ وأنا لا أعْلَمُ ما أضْمَرُوا عَلَيْهِ، ولَوْ عَلِمْتُ ما صَلَّيْتُ مَعَهم فِيهِ، وكُنْتُ غُلامًا قارِئًا لِلْقُرْآنِ، وكانُوا شُيُوخًا لا يَقْرَؤُونَ، فَصَلَّيْتُ بِهِمْ ولا أحْسَبُ إلّا أنَّهم يَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ، ولَمْ أعْلَمْ ما في نُفُوسِهِمْ. فَعَذَرَهُ عُمَرُ، فَصَدَّقَهُ وأمَرَهُ بِالصَّلاةِ في مَسْجِدِ قُباءٍ.
الثّالِثُ: ما قَدَّمْناهُ مِن أنَّ المَسْجِدَ في الآيَةِ هو مَسْجِدُ قُباءٍ، لِأنَّ السِّياقَ في مَعْرِضِهِ، وبَيانِ أحَقِّيَّةِ الصَّلاةِ فِيهِ مِن ذاكَ، لِأنَّهُ أُسِّسَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ، وجَمْعِ كَلِمَةِ المُؤْمِنِينَ.
ولِما في الآيَةِ مِنَ الإشْعارِ بِالحَثِّ عَلى تَعاهُدِهِ بِالصَّلاةِ فِيهِ، كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَزُورُهُ راكِبًا وماشِيًا، ويُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ - كَما في الصَّحِيحِ - .
وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ ساعِدَةَ الأنْصارِيِّ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أتاهم في مَسْجِدِ قُباءٍ فَقالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّناءَ في الطُّهُورِ في قِصَّةِ مَسْجِدِكم، فَما هَذا الطُّهُورُ الَّذِي تَطَّهَّرُونَ فِيهِ ؟» فَقالُوا، يا رَسُولَ اللَّهِ ! ما خَرَجَ مِنّا رَجُلٌ ولا امْرَأةٌ مِنَ الغائِطِ إلّا غَسَلَ فَرْجَهُ أوْ مَقْعَدَتَهُ بِالماءِ،» - رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والطَّبَرانِيُّ، واللَّفْظُ لَهُ - .
وقَدْ رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى فَقالَ: هو مَسْجِدُهُ» - رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ ـ.
(p-٣٢٦٦)قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ولا مُنافاةَ، لِأنَّهُ إذا كانَ مَسْجِدُ قُباءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِطَرِيقِ الأوْلى والأحْرى. انْتَهى.
ومَرْجِعُهُ إلى أنَّ هَذا الوَصْفَ، وإنْ كانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِما - إلّا أنَّ الأحْرى بِهِ بَعْدُ هو المَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، أيْ: فالحَدِيثُ لَيْسَ في مَعْرِضِ تَعْيِينِ ما في الآيَةِ، بَلْ في بَيانِ الأحَقِّ بِهَذا الوَصْفِ الآنَ.
وقالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: كُلٌّ مِنهُما مُرادٌ، لِأنَّ كُلًّا مِنهُما أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمِ تَأْسِيسِهِ.
والسِّرُّ في إجابَتِهِ ﷺ السُّؤالُ عَنْ ذَلِكَ، دَفْعُ ما تَوَهَّمَهُ السّائِلُ مِنِ اخْتِصاصِ ذَلِكَ بِمَسْجِدِ قُباءٍ، والتَّنْوِيهِ بِمَزِيَّةِ هَذا عَنْ ذاكَ.
الرّابِعُ: قالَ السُّهَيْلِيُّ - نُورُ اللَّهِ مَرْقَدُهُ ـ: في الآيَةِ - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ [التوبة: ١٠٨] - مِنَ الفِقْهِ، صِحَّةُ ما اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ شاوَرَهم في التّارِيخِ، فاتَّفَقَ رَأْيُهم عَلى أنْ يَكُونَ مِن عامِ الهِجْرَةِ، لِأنَّهُ الوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الإسْلامُ، والحِينُ الَّذِي أمِنَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ، وبُنِيَتِ المَساجِدُ، وعُبِدَ اللَّهُ كَما يَجِبُ، فَوافَقَ رَأْيُهم هَذا ظاهِرَ التَّنْزِيلِ، وفَهِمْنا الآنَ بِفِعْلِهِمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ [التوبة: ١٠٨] أنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ هو أوَّلُ أيّامِ التّارِيخِ الَّذِي يُؤَرَّخُ بِهِ الآنَ.
فَإنْ كانَ الصَّحابَةُ أخَذُوهُ مِن هَذِهِ الآيَةِ، فَهو الظَّنُّ بِهِمْ، لِأنَّهم أعْلَمُ النّاسِ بِتَأْوِيلِ كِتابِ اللَّهِ وأفْهَمُهم بِما في القُرْآنِ مِنَ الإشاراتِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ عَلى رَأْيٍ واجْتِهادٍ، فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وأشارَ إلى صِحَّتِهِ قَبْلَ أنْ يَفْعَلَ، إذْ لا يُعْقَلُ قَوْلُ القائِلِ: فَعَلْتُهُ أوَّلَ يَوْمٍ إلّا بِالإضافَةِ إلى عامٍ مَعْلُومٍ، أوْ شَهْرٍ مَعْلُومٍ، أوْ تارِيخٍ مَعْلُومٍ.
ولَيْسَ هَهُنا إضافَةٌ في المَعْنى إلّا إلى هَذا التّارِيخِ المَعْلُومِ، لِعَدَمِ القَرائِنِ الدّالَّةِ عَلى غَيْرِهِ مِن قَرِينَةِ لَفْظٍ أوْ حالٍ، فَتَدَبَّرْهُ، فَفِيهِ مُعْتَبَرٌ لِمَنِ ادَّكَرَ، وعِلْمٌ لِمَن رَأى بِعَيْنِ فُؤادِهِ واسْتَبْصَرَ.
الخامِسُ: (التَّأْسِيسُ) وضْعُ الأساسِ، وهو أصْلُ البَنّاءِ، وأوَّلُهُ، وبِهِ إحْكامُهُ، فَفي (p-٣٢٦٧)الآيَةِ شَبَّهَ التَّقْوى والرِّضْوانَ تَشْبِيهًا، مَكْنِيًّا مُضْمَرًا في النَّفْسِ، بِما يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أصْلُ البَنّاءِ.
و﴿أسَّسَ بُنْيانَهُ﴾ [التوبة: ١٠٩] تَخْيِيلٌ فَهو مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، أوْ هو مَجازٌ بِناءً عَلى جَوازِهِ، فَتَأْسِيسُ البُنْيانِ بِمَعْنى إحْكامِ أُمُورِ دِينِهِ، أوْ تَمْثِيلٌ لِحالِ مَن أخْلَصَ لِلَّهِ وعَمِلَ الأعْمالَ الصّالِحَةَ، بِحالِ مَن بَنى بِناءً مُحْكَمًا مُؤَسَّسًا يَسْتَوْطِنُهُ ويَتَحَصَّنُ بِهِ. أوِ البُنْيانُ اسْتِعارَةٌ أصْلِيَّةٌ، و(التَّأْسِيسُ) تَرْشِيحٌ أوْ تَبَعِيَّةٌ، و(الشَّفا): الحَرْفُ والشَّفِيرُ.
و(جُرُفُ الوادِي): جانِبُهُ الَّذِي يَتَحَفَّرُ أصْلَهُ بِالماءِ، وتَجْرُفُهُ السُّيُولُ، فَيَبْقى واهِيًا.
و(الهارُ): الهائِرُ، وهو المُتَصَدِّعُ الَّذِي أشَفى عَلى التَّهَدُّمِ والسُّقُوطِ. قِيلَ: هو مَقْلُوبٌ، وأصْلُهُ (هاوِرٌ)، أوْ (هايِرٌ) . وقِيلَ: حُذِفَتْ عَيْنُهُ اعْتِباطًا، فَوَزْنُهُ (فالَ) . والإعْرابُ عَلى رائِهِ كَبابٍ، وقِيلَ: لا قَلْبَ فِيهِ ولا حَذْفَ، ووَزْنُهُ في الأصْلِ (فَعِلَ)
بِكَسْرِ العَيْنِ، كَكَتِفٍ، وهو هَوِرَ أوْ هَيِرَ، ومَعْناهُ ساقِطٌ أوْ مُشْرِفٌ عَلى السُّقُوطِ. وفاعِلُ (انْهارَ)، إمّا ضَمِيرُ البُنْيانِ، وضَمِيرُ (بِهِ) لِلْمُؤَسَّسِ، أيْ: سَقَطَ بُنْيانُ البانِي بِما عَلَيْهِ. أوْ لِـ (الشَّفا)، وضَمِيرُ (بِهِ) لِلْبُنْيانِ.
والظّاهِرُ في التَّقابُلِ أنْ يُقالَ: أمْ مَن أُسِّسَ بُنْيانُهُ عَلى ضَلالٍ وباطِلٍ وسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، ولِذا قالَ في " الكَشّافِ ": المَعْنى أفَمَن أُسِّسَ بُنْيانُ دِينِهِ عَلى قاعِدَةٍ مُحْكَمَةٍ قَوِيَّةٍ، وهي الحَقُّ الَّذِي هو تَقْوى اللَّهِ ورِضْوانُهُ، خَيْرٌ أمْ مَن أسَّسَهُ عَلى قاعِدَةٍ هي أضْعَفُ القَواعِدِ وأرْخاها، وأقَلُّها بَقاءً وهو (الباطِلُ والنِّفاقُ)، الَّذِي مَثَلُهُ مَثَلُ شَفا جُرُفٍ هارٍ في قِلَّةِ الثَّباتِ والِاسْتِمْساكِ.
وُضِعَ (شَفا الجُرُفِ) في مُقابَلَةِ التَّقْوى، لِأنَّهُ جُعِلَ مَجازًا عَمّا يُنافِي (التَّقْوى)، يَعْنِي أنَّهُ شَبَّهَ الباطِلَ بِشَفا جُرُفٍ هارٍ، في قِلَّةِ الثَّباتِ، فاسْتُعِيرَ لِلْباطِلِ بِقَرِينَةِ مُقابَلَتِهِ لِلتَّقْوى، والتَّقْوى حَقٌّ، ومُنافِي الحَقِّ هو الباطِلُ.
وقَوْلُهُ ﴿فانْهارَ﴾ [التوبة: ١٠٩] تَرْشِيحٌ، وباؤُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، أوْ لِلْمُصاحَبَةِ، (فَشَفا جُرُفٍ هارٍ)، اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ، والتَّقابُلُ بِاعْتِبارِ المَعْنى المَجازِيِّ المُرادِ مِنها.
فَإنْ قُلْتَ لِماذا غايَرَ بَيْنَهُما حَيْثُ أتى بِالأوَّلِ عَلى طَرِيقَةِ الكِنايَةِ والتَّخْيِيلِ، وبِالثّانِي عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ والتَّمْثِيلِ ؟
(p-٣٢٦٨)قُلْتُ: التَّفَنُّنُ في الطَّرِيقِ رِعايَةٌ لِحَقِّ البَلاغَةِ، وعُدُولًا عَنِ الظّاهِرِ، مُبالَغَةً في الطَّرَفَيْنِ، إذْ جَعَلَ أُولَئِكَ مَبْنِيًّا عَلى تَقْوى ورِضْوانٍ، هو أعْظَمُ مِن كُلِّ ثَوابٍ، وحالُ هَؤُلاءِ عَلى فَسادٍ أشْرَفَ بِهِمْ عَلى أشَدِّ نَكالٍ وعَذابٍ، ولَوْ أتى بِهِ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ لَمْ يُفِدْهُ، ما فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ.
وقَوْلُنا: (فانْهارَ تَرْشِيحٌ)، أوْضَحَهُ " الكَشّافُ " بِقَوْلِهِ: لِمَ جُعِلَ الجُرُفُ الهائِرُ مَجازًا بَعْضِها عَنِ الباطِلِ، قِيلَ: ﴿فانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ١٠٩] عَلى مَعْنى فَطاحَ بِهِ الباطِلُ في نارِ جَهَنَّمَ، إلّا أنَّهُ رَشَّحَ المَجازَ فَجِيءَ بِلَفْظِ الِانْهِيارِ الَّذِي هو لِلْجُرُفِ، ولِيُصَوِّرَ أنَّ المُبْطِلَ كَأنَّهُ أسَّسَ بُنْيانًا عَلى شَفا جُرُفٍ مِن أوْدِيَةِ جَهَنَّمَ، فانْهارَ بِهِ ذَلِكَ الجُرُفُ، فَهَوى في قَعْرِها.
السّادِسُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى ما بُنِيَ عَلَيْهِ مَسْجِدُ الضِّرارِ، أنَّهُ لا حُكْمَ لَهُ ولا حُرْمَةَ، ولا يَصِحُّ الوَقْفُ عَلَيْهِ.
وقَدْ حَرَقَ الرّاضِي بِاللَّهِ كَثِيرًا مِن مَساجِدِ الباطِنِيَّةِ والمُشَبِّهَةِ والمُجْبَرَةِ وسُبُلَ بَعْضِها. نَقَلَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ: كُلُّ مَسْجِدٍ بُنِيَ مُباهاةً أوْ رِياءً وسُمْعَةً أوْ لِغَرَضٍ سِوى ابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ، أوْ بِمالٍ غَيْرِ طَيِّبٍ، فَهو لاحِقٌ بِمَسْجِدِ الضِّرارِ.
وعَنْ شَقِيقٍ أنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الصَّلاةَ في مَسْجِدِ بَنِي عامِرٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ لَمْ يُصَلُّوا فِيهِ بَعْدُ، فَقالَ: لا أُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ فِيهِ، فَإنَّهُ بُنِيَ عَلى ضِرارٍ، كُلُّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى ضِرارٍ، أوْ رِياءٍ وسُمْعَةٍ فَإنَّ أصْلَهُ يَنْتَهِي إلى المَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ضِرارًا.
وعَنْ عَطاءٍ: لَمّا فَتَحَ اللَّهُ تَعالى الأمْصارَ عَلى يَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أمَرَ المُسْلِمِينَ أنْ يَبْنُوا المَساجِدَ، وألّا يَتَّخِذُوا في مَدِينَةٍ مَسْجِدَيْنِ، يُضارُّ أحَدُهُما صاحِبَهُ. انْتَهى.
وقالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمُ في (" زادِ المَعادَ ") في فَوائِدِ غَزْوَةِ تَبُوكَ:
ومِنها تَحْرِيقُ أمْكِنَةِ المَعْصِيَةِ الَّتِي يُعْصى اللَّهُ ورَسُولُهُ فِيها وهَدْمُها، كَما حَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَسْجِدَ الضِّرارِ وأمَرَ بِهَدْمِهِ، وهو مَسْجِدٌ يُصَلّى فِيهِ، ويُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ فِيهِ. لِما كانَ بِناؤُهُ ضِرارًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، ومَأْوًى لِلْمُنافِقِينَ، وكُلُّ مَكانٍ هَذا شَأْنُهُ، فَواجِبٌ (p-٣٢٦٩)عَلى الإمامِ تَعْطِيلُهُ، إمّا بِهَدْمٍ أوْ تَحْرِيقٍ، وإمّا بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ، وإخْراجِهِ عَمّا وُضِعَ لَهُ.
وإذا كانَ هَذا شَأْنَ مَسْجِدِ الضِّرارِ، فَمَشاهِدُ الشِّرْكِ الَّتِي تَدْعُو سَدَنَتُها إلى اتِّخاذِ مَن فِيها أنْدادًا مِن دُونِ اللَّهِ، أحَقُّ بِذَلِكَ وأوْجَبُ، وكَذَلِكَ مَحالُّ المَعاصِي والفُسُوقِ، كالحاناتِ وبُيُوتِ الخَمّارِينَ، وأرْبابِ المُنْكَراتِ.
وقَدْ حَرَقَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرْيَةً بِكامِلِها يُباعُ فِيها الخَمْرُ، وحَرَقَ حانُوتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ وسَمّاهُ (فُوَيْسِقًا)، وأحْرَقَ قَصْرَ سَعْدٍ عَلَيْهِ لَمّا احْتَجَبَ عَنِ الرَّعِيَّةِ.
وهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ تارِكِي حُضُورِ الجَماعَةِ والجُمُعَةِ، وإنَّما مَنَعَهُ مَن فِيها مِنَ النِّساءِ والذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ لا تَجِبُ عَلَيْهِمْ، كَما أخْبَرَ هو عَنْ ذَلِكَ. انْتَهى.
ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: ومِنها أنَّ الوَقْفَ لا يَصِحُّ عَلى غَيْرِ بِرٍّ ولا قُرْبَةٍ، كَما لَمْ يَصِحَّ وقْفُ هَذا المَسْجِدِ.
وعَلى هَذا فَيُهْدَمُ المَسْجِدُ إذا بُنِيَ عَلى قَبْرٍ، كَما يُنْبَشُ المَيِّتُ إذا دُفِنَ في المَسْجِدِ - نَصَّ عَلى ذَلِكَ الإمامُ أحْمَدُ وغَيْرُهُ - فَلا يَجْتَمِعُ في دِينِ الإسْلامِ مَسْجِدٌ وقَبْرٌ، بَلْ أيُّهُما طَرَأ عَلى الآخَرِ مُنِعَ مِنهُ، وكانَ الحُكْمُ لِلسّابِقِ، فَلَوْ وُضِعا مَعًا لَمْ يَجُزْ.
ولا يَصِحُّ هَذا الوَقْفُ، ولا يَجُوزُ، ولا تَصِحُّ الصَّلاةُ في هَذا المَسْجِدِ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، ولَعْنِهِ مَنِ اتَّخَذَ القَبْرَ مَسْجِدًا، أوْ أوْقَدَ عَلَيْهِ سِراجًا.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: فَهَذا دِينُ الإسْلامِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ ونَبِيُّهُ، وغُرْبَتُهُ بَيْنَ النّاسِ كَما تَرى. انْتَهى.
السّابِعُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ اليَمانِيِّينَ: في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى فَضْلِ المَسْجِدِ المَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، يَعْنِي التَّأْسِيسَ عَلى التَّقْوى، وفِيها أنَّ نِيَّةَ القُرْبَةِ في عِمارَةِ المَسْجِدِ شَرْطٌ، لِأنَّ (p-٣٢٧٠)النِّيَّةَ هي الَّتِي تُمَيِّزُ الأفْعالَ.
وفِيها: أنَّهُ لا يَجُوزُ تَكْثِيرُ سَوادِ الكُفّارِ - ذَكَرَ ذَلِكَ الحاكِمُ - لِأنَّهُ قالَ تَعالى:
﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ [التوبة: ١٠٨] وأرادَ بِـ (القِيامِ) الصَّلاةَ.
الثّامِنُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى اسْتِحْبابِ الصَّلاةِ في المَساجِدِ القَدِيمَةِ المُؤَسَّسَةِ مِن أوَّلِ بِنائِهِ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، وعَلى اسْتِحْبابِ الصَّلاةِ مَعَ الجَماعَةِ الصّالِحِينَ، والعِبادِ العامِلِينَ المُحافِظِينَ عَلى إسْباغِ الوُضُوءِ، والتَّنَزُّهِ عَنْ مُلابَسَةِ القاذُوراتِ.
وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأ الرُّومَ فَأوْهَمَ، فَلَمّا انْصَرَفَ قالَ: «إنَّهُ يَلْبِسُ عَلَيْنا القُرْآنَ، إنَّ أقْوامًا مِنكم يُصَلُّونَ مَعَنا لا يُحْسِنُونَ الوُضُوءَ، فَمَن شَهِدَ الصَّلاةَ مَعَنا فَلْيُحْسِنِ الوُضُوءَ»» . فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ إكْمالَ الطَّهارَةِ يُسَهِّلُ القِيامَ في العِبادَةِ، ويُعِينُ عَلى إتْمامِها وإكْمالِها، والقِيامِ بِمَشْرُوعاتِها.
التّاسِعُ: ذَهَبَ أبُو العالِيَةِ والأعْمَشُ إلى أنَّ المُرادَ مِنَ الطَّهارَةِ في الآيَةِ، الطَّهارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ، والتَّوْبَةُ مِنها، والتَّطَهُّرُ مِنَ الشِّرْكِ.
قالَ الرّازِيُّ: وهَذا القَوْلُ مُتَعَيِّنٌ، لِأنَّ التَّطَهُّرَ مِنَ الذُّنُوبِ والمَعاصِي هو المُؤَثِّرُ في القُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، واسْتِحْقاقِ ثَوابِهِ ومَدْحِهِ، ولِأنَّهُ تَعالى وصَفَ أصْحابَ مَسْجِدِ الضِّرارِ بِمَضارَّةِ المُسْلِمِينَ، والكُفْرِ بِاللَّهِ، والتَّفْرِيقِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَؤُلاءِ بِالضِّدِّ مِن صِفاتِهِمْ، وما ذَلِكَ إلّا كَوْنُهم مُبَرَّئِينَ عَنِ الكُفْرِ والمَعاصِي. انْتَهى.
أقْوالٌ: لا تَسْلَمُ دَعْوى التَّعَيُّنِ، فَإنَّ اللَّفْظَ يَتَناوَلُ الطِّهارَتَيْنِ الباطِنَةَ والظّاهِرَةَ. بَلِ الثّانِيَةُ ما رَواهُ أصْحابُ السُّنَنِ والإمامُ أحْمَدُ وابْنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِأهْلِ قُباءٍ: «قَدْ أثْنى اللَّهُ عَلَيْكم في الطُّهُورِ، فَماذا تَصْنَعُونَ» ؟ فَقالُوا: نَسْتَنْجِي بِالماءِ».
(p-٣٢٧١)ورَوى البَزّارُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «هَذِهِ الآيَةُ في أهْلِ قُباءٍ، سَألَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: إنّا نُتْبِعُ الحِجارَةَ بِالماءِ».
فَإنْ صَحَّ ذَلِكَ كانَ المُرادَ مِنَ الآيَةِ، وتَكُونُ حَثًّا عَلى الطَّهارَةِ المَذْكُورَةِ، ومَدْحًا لَها. وكَوْنُ ذَوِيها عَلى الضِّدِّ مِن صِفاتِ أُولَئِكَ، يُسْتَفادُ مِن عُمُومِ هَذا، ومِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى﴾ [التوبة: ١٠٨] الآيَةَ.
العاشِرُ: قالَ القاشانِيُّ: لَمّا كانَ عالَمُ المُلْكِ تَحْتَ قَهْرِ عالَمِ المَلَكُوتِ، وتَسْخِيرِهِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ لِنِيّاتِ النُّفُوسِ وهَيْئاتِها تَأْثِيرٌ فِيما يُباشِرُها مِنَ الأعْمالِ، فَكُلُّ ما فُعِلَ بِنِيَّةٍ صادِقَةٍ لِلَّهِ تَعالى عَنْ هَيْئَةٍ نُورانِيَّةٍ، صَحِبَتْهُ بَرَكَةٌ ويُمْنٌ وجَمْعِيَّةٌ وصَفاءٌ، وكُلُّ ما فُعِلَ بِنِيَّةٍ فاسِدَةٍ شَيْطانِيَّةٍ عَنْ هَيْئَةٍ مُظْلِمَةٍ، صَحِبَتْهُ تَفْرِقَةٌ وكُدُورَةٌ ومَحْقٌ وشُؤْمٌ.
ألا تَرى الكَعْبَةَ كَيْفَ شَرُفَتْ وعَظُمَتْ وجُعِلَتْ مُتَبَرَّكَةً لِكَوْنِها مَبْنِيَّةً عَلى يَدَيْ نَبِيٍّ مِن أنْبِياءِ اللَّهِ، بِنِيَّةٍ صادِقَةٍ، ونَفْسٍ شَرِيفَةٍ صافِيَةٍ، عَنْ كَمالِ إخْلاصٍ لِلَّهِ تَعالى ؟ ونَحْنُ نُشاهِدُ أثَرَ ذَلِكَ في أعْمالِ النّاسِ، ونَجِدُ أثَرَ الصَّفاءِ والجَمْعِيَّةِ في بَعْضِ المَواضِعِ والبِقاعِ، والكُدُورَةِ والتَّفْرِقَةِ في بَعْضِها.
وما هو إلّا لِذَلِكَ، فَلِهَذا قالَ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى﴾ [التوبة: ١٠٨] الآيَةَ، لِأنَّ الهَيْئاتِ الجُسْمانِيَّةَ مُؤَثِّرَةٌ في النُّفُوسِ، كَما أنَّ الهَيْئاتِ النَّفْسانِيَّةَ مُؤَثِّرَةٌ في الأجْسامِ، فَإذا كانَ مَوْضِعُ القِيامِ مَبْنِيًّا عَلى التَّقْوى وصَفاءِ النَّفْسِ، تَأثَّرَتِ النَّفْسُ بِاجْتِماعِ الهِمَّةِ، وصَفاءِ الوَقْتِ، وطِيبِ الحالِ، وذَوْقِ الوِجْدانِ، وإذا كانَ مَبْنِيًّا عَلى الرِّياءِ والضِّرارِ، تَأثَّرَتْ بِالكُدُورَةِ والتَّفْرِقَةِ والقَبْضِ.
وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ زَكاءَ نَفْسِ البانِي، وصِدْقَ نِيَّتِهِ، مُؤَثِّرٌ في البِناءِ، وأنَّ تَبَرُّكَ المَكانِ، وكَوْنَهُ مَبْنِيًّا عَلى الخَيْرِ، يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فِيهِ أهْلُ الخَيْرِ والصَّلاحِ، مِمَّنْ يُناسِبُ حالُهُ حالَ بانِيهِ، وأنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ واجِبَةٌ لِأهْلِ الطَّهارَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨]
{"ayah":"لَا یَزَالُ بُنۡیَـٰنُهُمُ ٱلَّذِی بَنَوۡا۟ رِیبَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ إِلَّاۤ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق