الباحث القرآني

﴿لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا﴾ أيْ بِناؤُهُمُ الَّذِي بَنَوْهُ فالبُنْيانُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ المَفْعُولُ كَما مَرَّ، ووَصَّفَهُ بِالمُفْرِدِ مِمّا يَرِدُ عَلى مُدَّعِي الجَمْعِيَّةِ وكَذا الإخْبارُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ﴾ واحْتِمالُ تَقْدِيرِ مُضافٍ وجَعْلُ الصِّفَةِ وكَذا الخَبَرِ لَهُ خِلافُ الظّاهِرِ. نَعَمْ قِيلَ: الإخْبارُ بِرِيبَةٍ لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى عَدَمِ الجَمْعِيَّةِ لِأنَّهُ يُقالُ: الحِيطانُ مُنْهَدِمَةٌ والجِبالُ راسِيَةٌ وجَوَّزَ بَعْضُهم كَوْنَ البُنْيانِ باقِيًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ و﴿الَّذِي﴾ مَفْعُولُهُ والرِّيبَةُ اسْمٌ مِنَ الرَّيْبِ بِمَعْنى الشَّكِّ وبِذَلِكَ فَسَّرَها ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما والمُرادُ بِهِ شَكُّهم في نُبُوَّتِهِ ﷺ المُضْمَرُ في قُلُوبِهِمْ وهو عَيْنُ النِّفاقِ وجَعَلَ بُنْيانَهم نَفْسَ الرِّيبَةِ لِلْمُبالَغَةِ في كَوْنِهِ سَبَبًا لَها قالَ الإمامُ: وفي ذَلِكَ وُجُوهٌ أحَدُها أنَّ المُنافِقِينَ عَظُمَ فَرَحُهم بِبُنْيانِهِ فَلَمّا أمَرَ بِتَخْرِيبِهِ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ وازْدادَ غَيْظُهم وارْتِيابُهم في نُبُوَّتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وثانِيها أنَّهُ لَمّا أمَرَ بِتَخْرِيبِهِ ظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ لِلْحَسَدِ فارْتَفَعَ أمانُهم عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعَظُمَ خَوْفُهم فارْتابُوا في أنَّهم هَلْ يُتْرَكُونَ عَلى حالِهِمْ أوْ يُؤْمَرُ بِقَتْلِهِمْ ونَهْبِ أمْوالِهِمْ. وثالِثُها أنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أنَّهم كانُوا مُحْسِنِينَ في البِناءِ فَلَمّا أُمِرَ بِتَخْرِيبِهِ بَقُوا شاكِّينَ مُرْتابِينَ في أنَّهُ لِأيِّ سَبَبٍ أُمِرَ بِذَلِكَ والصَّحِيحُ هو الأوَّلُ ويُمْكِنُ كَما قالَ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ أنْ يُرَجَّحَ الثّانِي بِأنْ تُحْمَلَ الرِّيبَةُ عَلى أصْلِ مَوْضُوعِها ويُرادُ مِنها قَلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها وحاصِلُ المَعْنى لا يَزالُ هَدْمَ بُنْيانِهِمُ الَّذِي بَنَوْا سَبَبًا لِلْقَلَقِ والِاضْطِرابِ والوَجَلِ في القُلُوبِ ووَصَفَ بُنْيانَهم بِما وصَفَ لِلْإيذانِ بِكَيْفِيَّةِ بِنائِهِمْ لَهُ وتَأْسِيسِهِ عَلى ما عَلَيْهِ تَأْسِيسُهُ مِمّا عَلِمْتَ ولِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ وقِيلَ: وُصِفَ بِذَلِكَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالبُنْيانِ ما هو المَبْنِيُّ حَقِيقَةً لا ما دَبَّرُوهُ مِنَ الأُمُورِ فَإنَّ البَنّاءَ قَدْ يُطْلَقُ عَلى تَدْبِيرِ الأمْرِ وتَقْدِيرِهِ (p-24)كَما في قَوْلِهِمْ: كَمْ أبْنِي وتَهْدِمُ وعَلَيْهِ قَوْلُهُ: ؎مَتى يَبْلُغُ البُنْيانُ يَوْمًا تَمامَهُ إذا كُنْتَ تَبْنِيهِ وغَيْرُكَ يَهْدِمُ وحاصِلُهُ أنَّ الوَصْفَ لِلتَّأْكِيدِ وفائِدَتُهُ دَفْعُ المَجازِ وهَذا نَظِيرُ ما قالُوا في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ وفِيهِ بَحْثٌ والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ مِن أعَمِّ الأوْقاتِ أوْ أعَمِّ الأحْوالِ وما بَعْدُ إلّا في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ أيْ لا يَزالُ بُنْيانُهم رِيبَةً في كُلِّ وقْتٍ إلّا وقْتَ تَقَطُّعِ قُلُوبِهِمْ أوْ في كُلِّ حالٍ إلّا حالَ تَقَطُّعِها أيْ تَفَرُّقِها وخُرُوجِها عَنْ قابِلِيَّةِ الإدْراكِ وهَذا كِنايَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ الرِّيبَةِ في قُلُوبِهِمُ الَّتِي هي مَحَلُّ الإدْراكِ وإضْمارِ الشِّرْكِ بِحَيْثُ لا يَزُولُ مِنها ما دامُوا أحْياءً إلّا إذا تَقَطَّعَتْ وفُرِّقَتْ وحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنها الرِّيبَةُ وتَزُولُ، وهو خارِجٌ مَخْرَجَ التَّصْوِيرِ والفَرْضِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالتَّقَطُّعِ ما هو كائِنٌ بِالمَوْتِ مِن تَفَرُّقِ أجْزاءِ البَدَنِ حَقِيقَةً ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ أيُّوبَ قالَ: كانَ عِكْرِمَةُ يَقْرَأُ: (إلّا أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهم في القُبُورِ) وقِيلَ: المُرادُ إلّا أنْ يَتُوبُوا ويَنْدَمُوا نَدامَةً عَظِيمَةً تُفَتِّتُ قُلُوبَهم وأكْبادَهم فالتَّقَطُّعُ كِنايَةٌ أوْ مَجازٌ عَنْ شِدَّةِ الأسَفِ. ورَوى ذَلِكَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ، وتَقَطَّعُ مِنَ التَّفَعُّلِ بِإحْدى التّاءَيْنِ والبِناءُ لِلْفاعِلِ أيْ تَتَقَطَّعُ وقُرِئَ (تُقَطَّعَ) عَلى بِناءِ المَجْهُولِ مِنَ التَّفْعِيلِ وعَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ مِنهُ عَلى أنَّ الخِطابَ لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيْ إلّا أنْ تَقْطَعَ أنْتَ قُلُوبَهم بِالقَتْلِ وقُرِئَ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الثُّلاثِيِّ مُذَكَّرًا ومُؤَنَّثًا وقَرَأ الحَسَنُ (إلى أنْ تَقْطَعَ) عَلى الخِطابِ وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (ولَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ) عَلى إسْنادِ الفِعْلِ مَجْهُولًا إلى قُلُوبِهِمْ، وعَنْ طَلْحَةَ ولَوْ قَطَّعْتَ قُلُوبَهم عَلى خِطابِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَصِحُّ أنْ يُعْنى بِالخِطابِ كُلُّ مُخاطَبٍ، وكَذا يَصِحُّ أنْ يُجْعَلَ ضَمِيرُ تَقَطَّعَ مَعَ نَصْبِ قُلُوبِهِمْ لِلرِّيبَةِ واللَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الأشْياءِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما ذُكِرَ مِن أحْوالِهِمْ ﴿حَكِيمٌ 110﴾ في جَمِيعِ أفْعالِهِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أمْرُهُ سُبْحانَهُ الوارِدُ في حَقِّهِمْ * * * هَذا ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿ومِنهم مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مَن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مَن الصّالِحِينَ﴾ إشارَةٌ إلى وصْفِ المَغْرُورِينَ الَّذِينَ ما ذاقُوا طَعْمَ المَحَبَّةِ ولا هَبَّ عَلَيْهِمْ نَسِيمُ العِرْفانِ ومِن هُنا صَحَّحُوا لِأنْفُسِهِمْ أفْعالًا فَقالُوا: لَنَصَّدَّقَنَّ ﴿فَلَمّا آتاهم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ﴾ أيْ أنَّهم نَقَضُوا العَهْدَ لِما ظَهَرَ لَهم ما سَألُوهُ والبُخْلُ كَما قالَ أبُو حَفْصٍ: تَرْكُ الإيثارِ عِنْدَ الحاجَةِ إلَيْهِ ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾ وهو ما لا يَعْلَمُونَهُ مِن أنْفُسِهِمْ ﴿ونَجْواهُمْ﴾ أيْ ما يَعْلَمُونَهُ مِنها دُونَ النّاسِ، وقِيلَ: السِّرُّ ما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلّا عالِمُ الأسْرارِ والنَّجْوى ما يُطْلِعُ عَلَيْهِ الحَفَظَةَ ﴿وقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرًّا﴾ أرادُوا التَّثْبِيطَ عَلى المُؤْمِنِينَ بِبَيانِ بَعْضِ شَدائِدِ الغَزْوِ وما دَرَوُا أنَّ المُحِبَّ يَسْتَعْذِبُ المُرَّ في طَلَبِ وِصالِ مَحْبُوبِهِ ويَرى الحَزَنَ سَهْلًا والشَّدائِدَ لَذائِذَ في ذَلِكَ ولا خَيْرَ فِيمَن عاقَهُ الحَرُّ والبَرْدُ، ورَدَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم آثَرُوا بِمُخالَفَتِهِمُ النّارَ الَّتِي هي أشَدُّ حَرًّا ويُشَبِّهُ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ في هَذا التَّثْبِيطِ أهْلَ البِطالَةِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ السّالِكِينَ عَنِ السُّلُوكِ بِبَيانِ شَدائِدِ السُّلُوكِ وفَواتِ اللَّذائِذِ الدُّنْيَوِيَّةِ ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ﴾ فَأفْنَوْا كُلَّ ذَلِكَ في طَلَبِ مَوْلاهم جَلَّ جَلالُهُ ﴿وأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْراتُ﴾ المُشاهَداتُ والمُكاشَفاتُ والقُرُباتُ ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ الفائِزُونَ بِالبُغْيَةِ. ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ﴾ أيِ الَّذِينَ أضْعَفَهم حَمْلُ المَحَبَّةِ ﴿ولا عَلى المَرْضى﴾ بِداءِ الصَّبابَةِ حَتّى ذابَتْ أجْسامُهم (p-25)بِحَرارَةِ الكُفْرِ وشَدائِدِ الرِّياضَةِ ﴿ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ﴾ وهُمُ المُتَجَرِّدُونَ مِنَ الأكْوانِ ﴿حَرَجٌ﴾ إثْمٌ في التَّخَلُّفِ عَنِ الجِهادِ الأصْغَرِ ﴿إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ﴾ بِأنْ أرْشَدُوا الخَلْقَ إلى الحَقِّ ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ غَرامَةً وخُسْرانًا قِيلَ: كُلُّ مَن يَرى المِلْكَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ ما يُنْفِقُ غَرامَةً عِنْدَهُ وكُلُّ مَن يَرى الأشْياءَ لِلَّهِ تَعالى وهي عارِيَّةٌ عِنْدَهُ يَكُونُ ما يُنْفِقُ غُنْمًا عِنْدَهُ ﴿والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ﴾ أيِ الَّذِينَ سَبَقُوا إلى الوَحْدَةِ مِن أهْلِ الصِّنْفِ الأوَّلِ ﴿مِنَ المُهاجِرِينَ﴾ وهُمُ الَّذِينَ هَجَرُوا مَواطِنَ النَّفْسِ و(الأنْصارِ) وهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا القَلْبَ بِالعُلُومِ الحَقِيقِيَّةِ عَلى النَّفْسِ ﴿والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾ في الِاتِّصافِ بِصِفاتِ الحَقِّ ﴿بِإحْسانٍ﴾ أيْ بِمُشاهَدَةٍ مِن مُشاهَداتِ الجَمالِ والجَلالِ ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ بِما أعْطاهم مِن غايَتِهِ وتَوْفِيقِهِ ﴿ورَضُوا عَنْهُ﴾ بِقَبُولِ ما أمَرَ بِهِ سُبْحانَهُ وبَذْلِ أمْوالِهِمْ ومُهَجِهِمْ في سَبِيلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿وأعَدَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ مِن جَنّاتِ الأفْعالِ والصِّفاتِ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ وهي أنْهارُ عُلُومِ التَّوَكُّلِ والرِّضا ونَحْوِهِما ووَراءَ هَذِهِ الجَنّاتِ المُشْتَرِكَةِ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ جَنَّةُ الذّاتِ وهي مُخْتَصَّةٌ بِالسّابِقِينَ ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ وهُمُ الَّذِينَ لَمْ تَرْسَخْ فِيهِمْ مَلَكَةُ الذَّنْبِ وبَقِيَ مِنهم فِيهِمْ نُورُ الِاسْتِعْدادِ ولِهَذا لانَتْ شَكِيمَتُهم واعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ورَأوْا قُبْحَها وأمّا مَن رَسَخَتْ فِيهِ مَلَكَةُ الذَّنْبِ واسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ فَلا يَرى ما يَفْعَلُ مِنَ القَبائِحِ إلّا حَسَنًا ﴿خَلَطُوا عَمَلا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا﴾ حَيْثُ كانُوا في رُتْبَةِ النَّفْسِ اللَّوّامَةِ الَّتِي لَمْ يَصِرِ اتِّصالُها بِالقَلْبِ وتَنُّورُها بِنُورِهِ مَلَكَةً لَها ولِهَذا تَنْقادُ لَهُ تارَةً وتَعْمَلُ أعْمالًا صالِحَةً وذَلِكَ إذا اسْتَوْلى القَلْبُ عَلَيْها وتَنْفِرُ عَنْهُ أُخْرى وتَفْعَلُ أفْعالًا سَيِّئَةً إذا احْتَجَبَتْ عَنْهُ بِظُلْمَتِها وهي دائِمًا بَيْنَ هَذا وذاكَ حَتّى يَقْوى اتِّصالُها بِالقَلْبِ ويَصِيرَ ذَلِكَ مَلَكَةً لَها وحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أمْرُها وتَنْجُو مِنَ المُخالَفاتِ، ولَعَلَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى ذَلِكَ وقَدْ تَتَراكَمُ عَلَيْها الهَيْئاتُ المُظْلِمَةُ فَتَرْجِعُ القَهْقَرى ويَزُولُ اسْتِعْدادُها وتُحْجَبُ عَنْ أنْوارِ القَلْبِ وتَهْوِي إلى سِجِّينِ الطَّبِيعَةِ فَتَهْلِكُ مَعَ الهالِكِينَ، وتَرَجُّحُ أحَدِ الجانِبَيْنِ عَلى الآخَرِ يَكُونُ بِالصُّحْبَةِ فَإنْ أدْرَكَها التَّوْفِيقُ صَحِبَتِ الصّالِحِينَ فَتَحَلَّتْ بِأخْلاقِهِمْ وعَمِلَتْ أعْمالَهم فَكانَتْ مِنهُمْ، وإنْ لَحِقَها الخِذْلانُ صَحِبَتِ المُفْسِدِينَ واخْتَلَطَتْ بِهِمْ فَتَدَنَّسَتْ بِخِلالِهِمْ وفَعَلَتْ أفاعِيلَهم فَصارَتْ مِنَ الخاسِرِينَ أعاذَنا اللَّهُ تَعالى مِن ذَلِكَ ولِلَّهِ دَرُّ مَن قالَ: ؎عَلَيْكَ بِأرْبابِ الصُّدُورِ فَمَن غَدا مُضافًا لِأرْبابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرا ؎وإيّاكَ أنْ تَرْضى صَحابَةَ ناقِصٍ ∗∗∗ فَتَنْحَطَّ قَدْرًا عَنْ عُلاكَ وتَحْقُرا ؎فَرَفَعَ أبُو مِن ثَمَّ خَفْضٌ مُزَّمَّلٌ ∗∗∗ يُبَيِّنُ قَوْلِي مُغْرِيًا ومُحَذِّرًا وقَدْ يَكُونُ تَرَجُّحُ جانِبِ الِاتِّصالِ بِأسْبابٍ أُخَرَ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ لِأنَّ المالَ مادَّةُ الشَّهَواتِ فَأمَرَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالأخْذِ مِن ذَلِكَ لِيَكُونَ أوَّلُ حالِهِمُ التَّجَرُّدَ لِتَنْكَسِرَ قُوى النَّفْسِ وتَضْعُفَ أهْواؤُها وصِفاتُها فَتَتَزَكّى مِنَ الهَيْئاتِ المُظْلِمَةِ وتَتَطَهَّرَ مِن خَبَثِ الذُّنُوبِ ورِجْسِ دَواعِي الشَّيْطانِ ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ بِإمْدادِ الهِمَّةِ وإفاضَةِ أنْوارِ الصُّحْبَةِ ﴿إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ أيْ سَبَبٌ لِنُزُولِ السَّكِينَةِ فِيهِمْ، وفَسَّرُوا السَّكِينَةَ بِنُورٍ يَسْتَقِرُّ في القَلْبِ وبِهِ يَثْبُتُ عَلى التَّوَجُّهِ إلى الحَقِّ ويَتَخَلَّصُ عَنِ الطَّيْشِ ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ لِأنَّ النَّفْسَ تَتَأثَّرُ (p-26)فِيهِ بِصَفاءِ الوَقْتِ وطِيبِ الحالِ وذَوْقِ الوِجْدانِ بِخِلافِ ما إذا كانَ مَبْنِيًّا عَلى ضِدِّ ذَلِكَ فَإنَّها تَتَأثَّرُ فِيهِ بِالكُدُورَةِ والتَّفْرِقَةِ والقَبْضِ وأصْلُ ذَلِكَ أنَّ عالَمَ المُلْكِ تَحْتَ قَهْرِ عالَمِ المَلَكُوتِ وتَسْخِيرِهِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ لِنِيّاتِ النُّفُوسِ وهَيْئَتِها تَأْثِيرٌ فِيما تُباشِرُهُ مِنَ الأعْمالِ، ألا تَرى الكَعْبَةَ كَيْفَ شَرُفَتْ وعَظُمَتْ وجُعِلَتْ مَحَلًّا لِلتَّبَرُّكِ لِما أنَّها كانَتْ مَبْنِيَّةً بِيَدِ خَلِيلِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِنِيَّةٍ صادِقَةٍ ونَفْسٍ شَرِيفَةٍ، ونَحْنُ نَجِدُ أيْضًا أثَرَ الصَّفاءِ والجَمْعِيَّةِ في بَعْضِ المَواضِعِ والبِقاعِ وضِدَّ ذَلِكَ في بَعْضِها، ولَسْتُ أعْنِي إلّا وُجُودَ ذَوِي النُّفُوسِ الحَسّاسَةِ الصّافِيَةِ لِذَلِكَ وإلّا فالنُّفُوسُ الخَبِيثَةُ تَجِدُ الأمْرَ عَلى عَكْسِ ما تَجِدُهُ أرْبابُ تِلْكَ النُّفُوسِ، والصَّفْراوِيُّ يَجِدُ السُّكَّرَ مُرًّا، والجُعْلُ يَسْتَخْبِثُ رائِحَةَ الوَرْدِ: ومِن هُنا كانَ المُنافِقُ في المَسْجِدِ كالسَّمَكِ في اليُبْسِ والمُخْلِصُ فِيهِ كالسَّمَكَةِ في الماءِ ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ أيْ أهْلُ إرادَةٍ وسَعْيٍ في التَّطَهُّرِ عَنِ الذُّنُوبِ، وهو إشارَةٌ إلى أنَّ صُحْبَةَ الصّالِحِينَ لَها أثَرٌ عَظِيمٌ، ويَتَحَصَّلُ مِن هَذا وما قَبْلَهُ الإشارَةُ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي رِعايَةُ المَكانِ والإخْوانِ في حُصُولِ الجَمْعِيَّةِ وجاءَ عَنِ القَوْمِ أنَّهُ يَجِبُ مُراعاةُ ذَلِكَ مَعَ مُراعاةِ الزَّمانِ في حُصُولٍ ما ذُكِرَ ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ ولَوْ مَحَبَّتُهُ إيّاهم لَما أحَبُّوا ذَلِكَ. وعَنْ سَهْلٍ الطَّهارَةُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: طَهارَةُ العِلْمِ مِنَ الجَهْلِ، وطَهارَةُ الذِّكْرِ مِنَ النِّسْيانِ، وطَهارَةُ الطّاعَةِ مِنَ المَعْصِيَةِ وقالَ بَعْضِهِمْ: الطَّهارَةُ عَلى أقْسامٍ كَثِيرَةٍ: فَطَهارَةُ الإسْرارِ مِنَ الخَطَراتِ، وطَهارَةُ الأرْواحِ مِنَ الغَفَلاتِ، وطَهارَةُ القُلُوبِ مِنَ الشَّهَواتِ، وطَهارَةُ العُقُولِ مِنَ الجَهالاتِ، وطَهارَةُ النُّفُوسِ مِنَ الكُفْرِيّاتِ، وطَهارَةُ الأبْدانِ مِنَ الزَّلّاتِ وقالَ آخَرُ: الطِّهارَةُ الكامِلَةُ طَهارَةُ الإسْرارِ مِن دَنَسِ الأغْيارِ واللَّهُ تَعالى هو الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب