الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الآية، ذكرنا الكلام في ﴿لَا يَزَالُ﴾ عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 217] [[انظر: النسخة الأزهرية 1/ 132 أوقد قال في هذا الموضع: (وقوله تعالى: (ولا يزالون) يعني مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له يقال: ما يزال يفعل كذا أو لا يزال، ولا يقال منه فاعل ولا مفعول، ومثله من الأفعال كثير .. ومعنى (لا يزالون): أي يدومون، وكأن هذا مأخوذ من قولهم: زال عن الشيء، أي تركه، فقولك: ما زال يفعل كذا، أي لم يتركه).]]. وقوله تعالى: ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾ هو مصدر يراد به المفعول، وإذا كان كذلك كان المضاف محذوفًا تقديره: لا يزال بناء [[في (ح): (بنيان).]] المبني الذي بنوه ريبة، ومعنى: ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ مع قوله: ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾ يبين معنى ذلك البناء، إذ قد يجوز أن يراد به المستقبل لو لم يوصف بالماضي، وقوله تعالى: ﴿رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الريبة والريب: الشك، قال ابن عباس: (يريد شكًا في قلوبهم، كما قال في سورة البقرة لأهل العجل: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 93] [[رواه بنحوه الثعلبي 6/ 150 أ، والبغوي 4/ 97، ورواه مختصرًا من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي الإمام ابن جرير 11/ 33، وابن أبي حاتم 6/ 1884، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 262.]] وهذا قول ابن زيد [[رواه ابن جرير 11/ 34، وابن أبي حاتم 6/ 1884.]] والضحاك [[ذكره مختصرًا الماوردي في "تفسيره" 2/ 405، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 525، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 266، وأشار إليه ابن أبي حاتم 6/ 1885.]]. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد الموت) [[رواه ابن جرير 11/ 33، وابن أبي حاتم 6/ 1885، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 262.]]، وقال الضحاك: (يقول: لا يزالون في شك منه إلى الموت) [[رواه الثعلبي 6/ 150 ب، والبغوي 4/ 97، وأشار إليه ابن أبي حاتم 6/ 1885.]]، ونحو هذا قال مجاهد وقتادة: (إلى الممات) [[رواه عنهما ابن جرير 11/ 33.]]، وقال أبو عمرو: (معناه حتى يموتوا فيستيقنوا) [[لم أجد من ذكره، ولم يتبين لي من أبو عمرو هذا، والقول في "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب منسوبًا لقتادة والضحاك.]]، هذا الذي ذكرنا قول المفسرين، ومعنى الآية على ما قالوا: إن الريبة في التردد هي المعنى بالحيرة، يقول: لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، كما حُبب [[في (ح): (تحبب)، وهو خطأ.]] العجل إلى قوم موسى، قال أبو علي: (والمعنى: لا يخلص لهم إيمان ولا ينزعون [[في (ى): (يرجعون)، والمثبت موافق للمصدر التالي.]] عن النفاق، ولا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدًا، ولا يندمون على الخطيئة التي كانت منهم في بناء المسجد) [["الحجة للقراء السبعة" 4/ 230 باختصار.]]، قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون الله -جل وعز- جعل عقوبتهم أن ألزمهم الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ) [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 470.]]. وقوله تعالى: ﴿إِلَأ أَن﴾ (إلا) هاهنا بمعنى (حتى) لأنها استثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منتهي إليه، فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على هذا المعنى، وموضع (أن) نصب، وفي ﴿تُقَطَّعَ﴾ قراءتان: ضم التاء [[وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وأبي بكر عن عاصم، وخلف. انظر: "كتاب السبعة" ص 319، و"تقريب النشر" 121، و"إتحاف فضلاء البشر" 245.]]، ومعناه: إلا أن تبلى وتتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة وابن عامر ﴿تَقَطَّعَ﴾ بفتح التاء [[وهي كذلك قراءة أبي جعفر ويعقوب، وحفص عن عاصم. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.]]، بمعنى تتقطع، ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الأولى؛ إلا أن الفعل أسند إلى القلوب لمّا [[في (ى): (وما)، وهو خطأ.]] كانت هي البالية المتقطعة، وهذا مثل: مات زيد، ومرض عمرو، وسقط الحائط، ونحو ذلك مما يسند الفعل فيه إلى من حدث فيه، وإن لم يكن له، ويدل على صحة ما قلنا إن معنى (إلا) هاهنا: الغاية، ما روي أن في حرف أُبىَّ: (حتى الممات) [[انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 231، و"البحر المحيط" 5/ 101، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف.]] وهذا يدل على أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان، وأخذوا به من الكفر، وفي قراءة الحسن (إلى أن) [["إتحاف فضلاء البشر" ص 245، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 452، و"تفسير ابن جرير" 11/ 33 - 34.]] مخففة بمعنى حتى، وهو اختيار أبي حاتم ويعقوب [[هو: يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي مولاهم، أبو محمد البصري، أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقرئها، كان عالمًا بالعربية ووجوهها، والقراءات واختلافاتها، فاضلًا نقيًا تقيًا، توفي سنة 205 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 157، و"غاية النهاية في طبقات القراء" 2/ 386.]] [[انظر: "تفسير الثعلبى" 6/ 150 ب، و"تقريب النشر" 121، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 245.]]، هذا الذي ذكرنا مذهب عامة المفسرين وقول أصحاب المعاني [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 452، وللزجاج 2/ 471، و"تفسير ابن جرير" 11/ 34 - 35، والبغوي 4/ 97، و"الدر المنثور" 3/ 500.]]، وفي الآية قول آخر زعم المبرد أن الآية على تقدير حذف المضاف كأنه قيل لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة، أي: حزازة وغيظًا في قلوبهم منكم ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم [[انظر قول المبرد في: "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب، وابن الجوزي 3/ 503، ولم أجده فيما بين يدي من كتب المبرد.]]، وهذا قول السدي [[رواه الثعلبي 6/ 150 أ، والبغوي 4/ 97، ورواه مختصرًا ابن جرير 11/ 34.]] وحبيب بن أبي ثابت [[هو: حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيي الكوفي، تابعي ثقة فقيه جليل، وكان مفتي الكوفة، وتوفي سنة 119 هـ. انظر: "تذكرة الحفاظ" 1/ 116، و"تهذيب التهذيب" 1/ 347، و"تقريب التهذيب" ص150 (1084).]] [[انظر قوله في "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب، ورواه مختصرًا ابن جرير 11/ 34، وابن أبي حاتم 6/ 1885.]] والقول هو الأول [[يعني القول بأن معنى (تقطع قلوبهم) أي يموتوا، وقد رواه ابن جرير 11/ 33 - 35 عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد وقتادة وحبيب بن أبي ثابت وابن زيد.]]، والآية بيان عما يوجبه البناء على الفساد من كون القلب على الريبة الموجبة للحيرة، حتى تتقطع حسرة حين لا تنفع الندامة، ولا يمكن استدراك الخطيئة، أو حتى تنقطع بالموت، فحينئذ يستيقن أنه كان مسيئاً بما فعل من النفاق، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد بخلقه، الصادق منهم والشاك ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما جعل للصادقين من الثواب، وللكاذبين [[في (ى): (للكافرين).]] من العقاب) [[لم أقف عليه.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب