الباحث القرآني

(p-٤٢٦٦)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣٠] ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ . ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ هَذا شُرُوعٌ في آياتِهِ الكَوْنِيَّةِ، الدّالَّةِ عَلى وحْدَتِهِ في أُلُوهِيَّتِهِ، الَّتِي عَمِيَ عَنْها المُشْرِكُونَ، فَلَمْ يَرَوْها رُؤْيَةَ اعْتِبارٍ وتَدَبُّرٍ. ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿كانَتا رَتْقًا﴾ أيْ: لا تُمْطِرُ ولا تُنْبِتُ: ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ أيْ: بِالمَطَرِ والنَّباتاتِ. فالفَتْقُ والرَّتْقُ اسْتِعارَةٌ. ونَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ [الطارق: ١١] ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: ١٢] و(الرَّجْعُ) لُغَةً هو الماءُ و(الصَّدْعُ) هو النَّباتُ لِأنَّهُ يَصْدَعُ الأرْضَ أيْ: يَشُقُّها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ﴾ [عبس: ٢٤] أيْ كَيْفَ انْفَرَدْنا في إحْداثِهِ وتَهْيِئَتِهِ لِيُقِيمَ بِنْيَتَهُ: ﴿أنّا صَبَبْنا الماءَ صَبًّا﴾ [عبس: ٢٥] أيْ: مِنَ المُزْنِ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ: ﴿ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقًّا﴾ [عبس: ٢٦] أيْ: ثُمَّ بَعْدَ أنْ كانَتِ الأرْضُ رَتْقًا مُتَماسِكَةَ الأجْزاءِ، شَقَقْناها شَقًّا مَرْئِيًّا مَشْهُودًا، كَما تَراهُ في الأرْضِ بَعْدَ الرَّيِّ. أوْ شَقًّا بِالنَّباتِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالفَتْقِ الإيجادُ والإظْهارُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الشورى: ١١] وكَقَوْلِهِ: ﴿قالَ بَلْ رَبُّكم رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ [الأنبياء: ٥٦] فَأخْبَرَ عَنِ الإيجادِ بِلَفْظِ (الفَتْقِ) وعَنِ الحالِ قَبْلَ الإيجادِ بِلَفْظِ (الرَّتْقِ). قالَ الرّازِيُّ: وتَحْقِيقُهُ أنَّ العَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ. فَلَيْسَ فِيهِ ذَواتٌ مُمَيَّزَةٌ وأعْيانٌ مُتَبايِنَةٌ. بَلْ (p-٤٢٦٧)كَأنَّهُ أمْرٌ واحِدٌ مُتَّصِلٌ مُتَشابِهٌ. فَإذا وُجِدَتِ الحَقائِقُ، فَعِنْدَ الوُجُودِ والتَّكْوِينِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، ويَنْفَصِلُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ. فَهَذا الطَّرِيقُ حَسَنٌ جَعَلَ (الرَّتْقَ) مَجازًا عَنِ العَدَمِ والفَتْقِ عَنِ الوُجُودِ. انْتَهى. وقالَ بَعْضُ عُلَماءِ الفَلَكِ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كانَتا رَتْقًا﴾ أيْ: شَيْئًا واحِدًا. ومَعْنى: ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ فَصَلْنا بَعْضَهُما عَنْ بَعْضٍ. قالَ: فَتَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ كَباقِي الكَواكِبِ السَّيّارَةِ مِن كُلِّ وجْهٍ. أيْ أنَّها إحْدى هَذِهِ السَّيّاراتِ. وهي مِثْلُها في المادَّةِ وكَيْفِيَّةِ الخَلْقِ وكَوْنِها تَسِيرُ حَوْلَ الشَّمْسِ وتَسْتَمِدُّ النُّورَ والحَرارَةَ مِنها. وكَوْنُها مَسْكُونَةً بِحَيَواناتٍ كالكَواكِبِ الأُخْرى. وكَوْنُها كَرَوِيَّةَ الشَّكْلِ. فالسَّيّاراتُ أوِ السَّماواتُ هي مُتَماثِلَةٌ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، كُلُّها مَخْلُوقَةٌ مِن مادَّةٍ واحِدَةٍ، وهي مادَّةُ الشَّمْسِ. وعَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ. اهـ كَلامُهُ. وقَدْ يُرْجَّحُ الوَجْهُ الأوَّلُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا يُبَيِّنُ أنَّ لِسابِقِهِ تَعَلُّقًا بِالماءِ. وعَلى هَذا فالرُّؤْيَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَ﴾ بَصَرِيَّةٌ. وعَلى قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ وما بَعْدَهُ، عِلْمِيَّةٌ. عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى لِنَبِيِّهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحابِ الفِيلِ﴾ [الفيل: ١] مَعَ أنَّهُ لَمْ يُشاهِدِ الحادِثَةَ، بَلْ وُلِدَ بَعْدَها. وإنَّما تَيَقَّنَها بِالأخْبارِ الصّادِقَةِ. وكَذَلِكَ ما هُنا مِنَ الفَتْقِ والرَّتْقِ، بِمَعْنَيَيْهِ الأخِيرَيْنِ، مِمّا أخْبَرَ بِهِ الحَقُّ تَعالى عَلى لِسانِ مَن قامَتِ الحُجَّةُ عَلى صِدْقِهِ وعِصْمَتِهِ. فَكانَ مِمّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقُهُ فَعِلْمُهُ. ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ صَيَّرْنا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بِسَبَبٍ مِنَ الماءِ، لا يَحْيا دُونَهُ. فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّباتُ والشَّجَرُ. لِأنَّهُ مِنَ الماءِ صارَ نامِيًا. وصارَ فِيهِ الرُّطُوبَةُ والخُضْرَةُ والنُّورُ والثَّمَرُ. وإسْنادُهُ الحَياةَ إلى ظُهُورِ النَّباتِ مَعْرُوفٌ في آياتٍ شَتّى. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [الروم: ١٩] وخَصَّ بَعْضُهُمُ الشَّيْءَ بِالحَيَوانِ، لِآيَةِ: (p-٤٢٦٨)﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ [النور: ٤٥] ولا ضَرُورَةَ إلَيْهِ. بَلِ العُمُومُ أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ، وأعْظَمُ في العِبْرَةِ، وأبْلَغُ في الخِطابِ، وألْطَفُ في المَعْنى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ إنْكارٌ لِعَدَمِ إيمانِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى وحْدَهُ، مَعَ ظُهُورِ ما يُوجِبُهُ حَتْمًا مِنَ الآياتِ الظّاهِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب