الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا﴾ الآيات. اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وعلى كونه منزهاً عن الشريك، وعلى التوحيد، فتكون كالتوكيد لما تقدم، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد. وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع؟ فهذا وجه النظم. قرأ ابن كثير «أَلَمْ يَرَ» من غير واو، والباقون بالواو. ونظير حذف الواو وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله: ﴿قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: 116] ﴿سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ [آل عمران: 133] ، وقد تقدم حكمه، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية، وأن تكون بصرية. ف «أَنَّ» وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول، ومسد واحد والثاني محذوف عند الأخفش. وسادة مسد واحد قط على الثاني. فإن قيل: إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة، ولقوله تعالى: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض﴾ [الكهف: 51] . وإن كان المراد بالرؤية العلم فمشكل، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار المنكرين للرسالة، فكيف يجوز مثل هذا الاستدلال. فالجواب: المراد من الرؤية العلم، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه: أحدها: أنا نثبت نبوة محمد - عليه السلام - بسائر المعجزات، قم نستدل بقوله، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم، وانتفاء الفساد عنه، وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد. وثانيها: أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً. وثالثها: أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إيها بعين إلهية، فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها، وفتق بينهما، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك. قوله: «كَانَتَا» الضمير يعود على «السَّمواتِ والأَرضَ» بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه: أحدها: ما ذكره الزمخشري فقال: وإنما قال «كَانَتَا» دون كُنَّ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين، ومنه قولهم: لقاحان سوداوان، أي: جماعتان، فعل في المضمر ما فعل في المظهر. الثاني: قال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين. الثالث: قال الحوفي: «كَانَتَا رَتْقَاً» ، و «السَّمواتِ» جمع، لأنه أراد الصنفين. قال الأسود بن يعفر: 3709 - إِنَّ المَنِيَّةَ وَالخَوْفَ كِلاَهُمَا ... يُوفِي المخَارِمَ يَرْقُبَان سَوَادِي لأنه أراد الوعين. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: وقال: «كَانَتَا» من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شُيَيْم: 3710 - أَلَمْ يَحْزُنْكَ أن حِبَالَ قَيْسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَاً قال الأخفش: «السَّموات» نوع، والأرض نوع، ومثله: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: 41] . ومن ذلك: أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم، و «رَتْقَاً» خبر، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر، ثم لك أن تجعله قائماً مقام المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق أو تجعله على حذف مضاف أي: ذواتي رتق. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رَتَقاً» بفتح التاء وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر أيضاً، ففيه الوجاهن المتقدمان في الساكن التاء. والثاني: أنه فعل بمعنى مفعول كالقَبض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال: هو تقدير موصوف، أي: كانتا شيئاً رتقاً. وقال المفضل: لم يقل: كانتا رتقين كقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام﴾ [الأنبياء: 8] وحدّ «جسداً» كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق. ورجح بعضهم المصدرية بعدم المطابقة في التثنية، وقد عرف جوابه وله أن يقول: الأصل عدم حذف الموصوف، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق: الانضمام، ارتتق حلفه أي: انضم، وامرأة رتقاء أي: منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك. والفتق: فصل ذلك المرتتق. وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق. فصل قال ابن عبَّاس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: كانتا شيءاً واحداً ملتزمين ففصل الله بينهما، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي، وأصعد الأجزاء السماوية. قال كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقتهما. وقال مجاهد والسدي: كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين. وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين: إن السموات كانت رتقاً مستوية صلبة لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، ونظيره قوله تعالى: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع﴾ [الطارق: 11، 12] ورجحوا ذلك الوجه بقوله بعد ذلك: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، وهو ما ذكرنا فإن قيل: هذا الوجه مرجوح، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة، وهي سماء الدنيا. فالجواب: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وبُرْمَة أَعْشَار. وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار. وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله: ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ ، وكقوله: ﴿بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ﴾ [الأنبياء: 56] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق. وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم، والفتق عن الوجود. وقيل: إن الليل سابق النهار لقوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: 37] فكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر. واعلم أن دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك. قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ يجوز في «جَعَلَ» هذه أن يكون بمعنى «خَلَقَ» فيتعدى لواحد، وهو ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ و «من الماء» متعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من «كُلَّ شَيْءٍ» لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال. ومعنى خلقه من الماء: أحد شيئين: إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء. ويجوز أن يكون (جَعَلَ) بمعنى (صَيَّرَ) فيتعدى رثنين ثانيهما الجار بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. والعامة على خفض «حَيٍّ» صفة لشيء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعول ثان ل «جعلنا» والظرف لغو، ويبعد على هذه القراءة أن يكون «جَعَلَ» بمعنى (خلق) ، وأن ينتصب «حياً» على الحال. قال الزمخشري: و «مِنْ» في هذا نحو «مِنْ» في قوله عليه السلام «ما أنا مِنْ دَدٍ وَلاَ الدَّدُ مِنَّي» فإن قيل: كيف قال: خلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: 27] ، وقال عليه السلام: «إن الله تعالى خلق الملائكة من النور» ، وقال في عيسى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ﴾ [المائدة: 110] ، وقال في حق آدم: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59] فالجواب: اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الجليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك. فصل قال بعض المفسرين: المراد بقوله: ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ الحيوان فقط. وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات، لأنه من الماء صار نامياً، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمقصود، لأن المعنى كأنه قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً. فإن قيل: النبات لا يسمى حياً. فالجواب: لا نسلم، ويدل عليه قوله تعالى ﴿كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾ [الروم: 50] . ثم قال ﴿أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك. قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ﴾ الرواسي الجبال، والراسي: هو الداخل في الأرض. قوله: «أنْ تَمِيدَ» مفعول من أجله، أي: أن لا تميد، فحذفت «لا» لفهم المعنى كما زيدت في ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: 29] ، أو كراهة أن تميد وقدره أبو البقاء فقال: مخافة أن تميد وفيه نظر، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل. وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف. وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه: أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر المقدر، وحذف حرف الجر مطرد مع أنَّ وأَنْ بشرطه. فصل قال ابن عباس: إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها السفينة فأرساها الله بالجبال الثقال. قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً﴾ وجهان: أحدهما: أنه (مفعول به) و «سُبُلاً» بدل منه. والثاني: أنه منصوب على الحال من «سُبُلاً» ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله: 3711 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى ﴿لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ [نوح: 20] . وقال الزمخشري: فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى: ﴿لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ [نوح: 20] ، قلت: لم تقدم وهي صفة، ولكن جعلت حالاً كقوله: 3712 - لعزَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ قَدِيمُ ... فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قُلْتُ: أحدهما: إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني: أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة. قال أبو حيان: يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال: مررت بوحشيّ القاتل حمزة، وحالة المرور لم يمن قائماً به قتل حمزة. والفَجُّ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ، والجمع الفِجَاج. والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله ﴿والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ [نوح: 19، 20] . وأن يعود على الرواسي، يعني أنه جعل في الجبال طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً. وقوله ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله. والمعنى: ليهتدوا إلى البلاد. وقيل: ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم. وقيل: الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً. قوله: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ سميت سقفاً، لأنها كالسقف للبيت، ومعنى «محفوظاً» أي: محفوظاً من الوقوع كقوله: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ [الحج: 65] . وقيل: محفوظاً من الشياطين. قوله: ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا﴾ جملة استئنافية، ويضعف جعلها حالاً مقدرة. وقرأ مجاهد وحميد «عَنْ آيَتِهَا» بلفظ الإفراد. دعا الخلق آية وهي مشتملة على آيات، أو أطلق الواحد وأراد به الجنس والمعنى: أن الكفار معرضون عما خلق في السماء من الشمس والقمر والاستيضاء بنوريهما، والنجوم والاهتداء بها، وحياة الأرض بأمطارها، وعن كونها آية بينة على وجود الصانع ووحدانيته لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي: كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من اليل والنهار والشمس والقمر. و «يَسْبَحُون» يجوز أن يكون خبر «كُلٌّ» على المعنى، و «في فَلَكٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون حالاً والخبر «في فَلَكٍ» . وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره، إلا أن المضاف إليه (الشَّمْس والقَمَر) وهو الظاهر، لأن السباحة من صفتهما دون (اللَّيلِ والنَّهَارِ) ، وعلى هذا فيتعذر عن الإتيان بضمير الجمع، وعن كونه جمع من يعقل، أما الأول فقيل: إنما جمع، لأن ثم معطوفاً محذوفاً تقديره: والنجوم كما دلت عليه آيات أخر، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها. وقال الزمخشري: الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع مل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار. انتهى. والذي حسن ذلك كوته رأس آية. وقال أبو البقاء: و «يسبحون» على هذا الوجه حال، والخبر «في فَلَكٍ» . وقيل: التقدير: وكلها، والخبر «يَسْبَحُونَ» وأتى بضمير الجمع على معنى «كل» . وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و «يَسْبَحُونَ» حالاً فراراً من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ، فوقع في تخالف الحال وصاحبها. وأما الثاني فلأنه لمَّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع العقلاء كقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4] و ﴿أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: 11] . قال الزمخشري: والتنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه أي: كلهم. ﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وهذه الجملة يجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر» . فإن قلنا: إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين يكون حالاً من الجميع، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما كانت حالاً من «الشمس والقمر» وتأويل الجمع قد تقدم. قال أبو حيان: أو محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر» لأن الليل والنهار لا يصفان بأنهما يجريان في فَلَكٍ فهو كقولك: رأيت هنداً وزيداً (متبرجة) . انتهى. وسبقه إلى هذا الزمخشري، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: لكل واحد من القمرين فَلَكٌ على حدة فكيف قال: ﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ . قُلْت: هذا كقولهم: كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي: كل واحد منهم. والسباحة العوم في الماء، وثد يعبر عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في «سُبْحَانَكَ» . ومعنى «يُسَبِّحُونَ» يسيرون بسرعة كالسابح في الماء. فصل اعلم أن للكواكب حركتين الأولى: مجمع عليها وهي حركتها من المشرق إلى المغرب. والحركة الثانية: قالت الفلاسفة وأصحاب الهيئة: إن للكواكب حركة أخرى من المشرق إلى المغرب، قالوا: وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق. وهذا في القمر ظاهر جداً، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي. فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق. وأجيبوا: بأن ذلك محال، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة، وذلك محال، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها، فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين، وهو محال. قالوا: ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب. وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا. فصل والفَلَكُ مدار النجوم، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلاَك، ومنه فلك المغزل. قال الضحاك: الفلك ليس بجسم، وإنما هو مدار هذه النجوم. وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء. وقال بعضهم: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقيل: ماء مجموع تجري فيه الكواكب. واحتجوا بأن السباحة لا تكون إلا في الماء. وأجيبوا بالمنع، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ يديه في الجري «سابح. وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل. وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة: الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول. واختلف الناس في حركات الكواكب، فقال بعضهم: الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة في الماء، وقال آخرون: الفلك متحرك، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة. وقيل: الفلك متحرك والكواكب مغزورة فيه. أما الأول فقالت فذلك أيضاً يوجب الخرق، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق. فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أن يكون الكوكب مغزوراً في الفلك، والفلك يتحرك، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك. واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطلن بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة والكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء. فصل احتج ابن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله» يَسْبَحُونَ «قال: والجمع بالواو والنون لا يكون للعقلاء، وبقوله تعالى: ﴿والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4] . والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب