الباحث القرآني
(p-٣٠٨)﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِهِمْ وجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] .
هَذا اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ لِمَنِ ادَّعى مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، ودَلالَةٌ عَلى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، وتَوْكِيدٌ لِما تَقَدَّمَ مِن أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، ورَدٌّ عَلى عَبَدَةِ الأوْثانِ مِن حَيْثُ إنَّ الإلَهَ القادِرَ عَلى هَذِهِ المَخْلُوقاتِ المُتَصَرِّفَ فِيها التَّصَرُّفَ العَجِيبَ، كَيْفَ يَجُوزُ في العَقْلِ أنْ يَعْدِلَ عَنْ عِبادَتِهِ إلى عِبادَةِ حَجَرٍ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ والرُّؤْيَةُ هُنا مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ. وقِيلَ: مِن رُؤْيَةِ البَصَرِ وذَلِكَ عَلى الِاخْتِلافِ في الرَّتْقِ والفَتْقِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحُمَيدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ ألَمْ يَرَ بِغَيْرِ واوِ العَطْفِ والجُمْهُورُ (أوَلَمْ) بِالواوِ. (كانَتا) قالَ الزَّجّاجُ: السَّماواتُ جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الواحِدُ، ولِهَذا قالَ ﴿كانَتا رَتْقًا﴾ لِأنَّهُ أرادَ السَّماءَ والأرْضَ، ومِنهُ أنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا جَعَلَ السَّماواتِ نَوْعًا والأرَضِينَ نَوْعًا، فَأخْبَرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ كَما أخْبَرَ عَنِ اثْنَيْنِ كَما تَقُولُ: أصْلَحْتُ بَيْنَ القَوْمِ ومَرَّ بِنا غَنَمانِ أسْوَدانِ لِقَطِيعَيْ غَنَمٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: قالَ ﴿كانَتا رَتْقًا﴾ والسَّماواتُ جَمْعٌ لِأنَّهُ أرادَ الصِّنْفَيْنِ، ومِنهُ قَوْلُ الأسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
؎إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُما يُوَفِّي المَحارِمَ يَرْقُبانِ سَوادِي
لِأنَّهُ أرادَ النَّوْعَيْنِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى الجِنْسَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما قالَ (كانَتا) دُونَ كُنَّ لِأنَّ المُرادَ جَماعَةُ (السَّماواتِ) وجَماعَةُ (الأرْضِ) ونَحْوُهُ قَوْلُهم: لَقاحانِ سَوْداوانِ إنْ أرادَ جَماعَتانِ فَعَلَ في المُضْمَرِ ما فُعِلَ في المُظْهَرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ (كانَتا) مِن حَيْثُ هُما نَوْعانِ ونَحْوُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُيَيْمٍ:
؎ألَمْ يُحْزِنْكَ أنَّ جِبالَ قَيْسٍ ∗∗∗ وتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتِ انْقِطاعًا
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وعَطاءٌ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ: كانَتا شَيْئًا واحِدًا فَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَهُما بِالهَواءِ. وقالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا بِوَسَطِها فَفَتَحَها بِها وجَعَلَ السَّماواتِ سَبْعًا والأرَضِينَ سَبْعًا. وقالَ مُجاهِد والسُّدِّيُّ وأبُو صالِحٍ: كانَتِ السَّماواتُ والأرْضُ مُؤْتَلِفَةً طَبَقَةً واحِدَةً فَفَتَقَها فَجَعَلَها سَبْعَ سَماواتٍ، وكَذَلِكَ الأرَضُونَ كانَتْ مُرْتَتِقَةً طَبَقَةً واحِدَةً فَفَتَقَها وجَعَلَها سَبْعًا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: السَّماواتُ والأرْضُ رَتْقٌ بِالظُّلْمَةِ وفَتَقَها اللَّهُ بِالضَّوْءِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: السَّماءُ قَبْلَ المَطَرِ رَتْقٌ، والأرْضُ قَبْلَ النَّباتِ رَتْقٌ ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ بِالمَطَرِ والنَّباتِ كَما قالَ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ [الطارق: ١١] ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: ١٢] قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ العِبْرَةَ وتَعْدِيدَ النِّعْمَةِ والحُجَّةَ لِلْمَحْسُوسِ بَيِّنٌ، ويُناسِبُ قَوْلَهُ: ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أيْ مِنَ الماءِ الَّذِي أوْجَدَهُ الفَتْقُ. انْتَهى.
وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ البَصَرِ وعَلى ما قَبْلَهُما مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، وجاءَ تَقْرِيرُهم بِذَلِكَ لِأنَّهُ (p-٣٠٩)وارِدٌ في القُرْآنِ الَّذِي هو مُعْجِزَةٌ في نَفْسِهِ فَقامَ مَقامَ المَرْئِيِّ المُشاهَدِ، ولِأنَّ تَلاصُقَ الأرْضِ والسَّماءِ وتَبايُنَهُما كِلاهُما جائِزٌ في العَقْلِ فَلا بُدَّ لِلتَّبايُنِ دُونَ التَّلاصُقِ مِن مُخَصِّصٍ، وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿رَتْقًا﴾ بِسُكُونِ التّاءِ وهو مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ كَزَوْرٍ وعَدْلٍ فَوَقَعَ خَبَرًا لِلْمُثَنّى. وقَرَأ الحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو حَيْوَةَ وعِيسى ﴿رَتْقًا﴾ بِفَتْحِ التّاءِ وهو اسْمُ المَرْتُوقِ كالقَبْضِ والنَّفْضِ، فَكانَ قِياسُهُ أنْ يُبْنى لِيُطابِقَ الخَبَرُ الِاسْمَ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو عَلى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أيْ (كانَتا) شَيْئًا ﴿رَتْقًا﴾ . وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: الأكْثَرُ في هَذا البابِ أنْ يَكُونَ المُتَحَرِّكُ مِنهُ اسْمًا بِمَعْنى المَفْعُولِ والسّاكِنُ مَصْدَرًا، أوْ قَدْ يَكُونانِ مَصْدَرَيْنِ لَكِنَّ المُتَحَرِّكَ أوْلى بِأنْ يَكُونَ في مَعْنى المَفْعُولِ لَكِنَّ هُنا الأوْلى أنْ يَكُونا مَصْدَرَيْنِ فَأُقِيمَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَقامَ المَفْعُولَيْنِ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿كانَتا رَتْقًا﴾ فَلَوْ جَعَلْتَ أحَدَهُما اسْمًا لَوَجَبَ أنْ تُثَنِّيَهُ فَلَمّا قالَ ﴿رَتْقًا﴾ كانَ في الوَجْهَيْنِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ ورَجُلَيْنِ عَدْلٍ وقَوْمٍ عَدْلٍ. انْتَهى.
(وجَعَلْنا) إنْ تَعَدَّتْ لِواحِدٍ كانَتْ بِمَعْنى (وخَلَقْنا مِنَ الماءِ) كُلَّ حَيَوانٍ أيْ مادَّتُهُ النُّطْفَةُ قالَهُ قُطْرُبٌ وجَماعَةٌ أوْ لَمّا كانَ قِوامُهُ الماءَ المَشْرُوبَ وكانَ مُحْتاجًا إلَيْهِ لا يَصْبِرُ عَنْهُ جُعِلَ مَخْلُوقًا مِنهُ كَقَوْلِهِ: ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧] قالَهُ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ، وتَكُونُ الحَياةُ عَلى هَذا حَقِيقَةً ويَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ عامًّا مَخْصُوصًا إذْ خَرَجَ مِنهُ المَلائِكَةُ والجِنُّ ولَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِن نُطْفَةٍ ولا مُحْتاجِينَ لِلْماءِ.
وقالَ قَتادَةُ: أيْ خَلَقْنا كُلَّ نامٍ مِنَ الماءِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّباتُ والمَعْدِنُ، وتَكُونُ الحَياةُ فِيهِما مَجازًا أوْ عَبَّرَ بِالحَياةِ عَنِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُما وبَيْنَ الحَيَوانِ وهو النُّمُوُّ ويَكُونُ أيْضًا عَلى هَذا عامًّا مَخْصُوصًا، وإنْ تَعَدَّتْ (جَعَلْنا) لِاثْنَيْنِ فالمَعْنى صَيَّرْنا ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ بِسَبَبٍ مِنَ الماءِ لا بُدَّ لَهُ مِنهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (حَيٍّ) بِالخَفْضِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ. وقَرَأ حُمَيْدٌ حَيًّا بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثانِيًا لِجَعَلْنا، والجارُّ والمَجْرُورُ لَغْوٌ أيْ لَيْسَ مَفْعُولًا ثانِيًا (لِجَعَلْنا) ﴿أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وفِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ مِن ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، والمَعْنى أفَلا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ الأدِلَّةَ ويَعْمَلُوا بِمُقْتَضاها ويَتْرُكُوا طَرِيقَةَ الشِّرْكِ، وأطْلَقَ الإيمانَ عَلى سَبَبِهِ وقَدِ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلَيْنِ مِن دَلائِلِ التَّوْحِيدِ وهي مِنَ الأدِلَّةِ السَّماوِيَّةِ والأرْضِيَّةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ فَقالَ: ﴿وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾ وتَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في سُورَةِ النَّحْلِ ﴿وجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا﴾ وهَذا دَلِيلٌ رابِعٌ مِنَ الدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (فِيها) عائِدٌ عَلى الأرْضِ. وقِيلَ يَعُودُ عَلى الرَّواسِي، وجاءَ هُنا تَقْدِيمُ (فِجاجًا) عَلى قَوْلِهِ: (سُبُلًا) وفي سُورَةِ نُوحٍ ﴿لِتَسْلُكُوا مِنها سُبُلًا فِجاجًا﴾ [نوح: ٢٠] . فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهي يَعْنِي (فِجاجًا) صِفَةٌ ولَكِنْ جُعِلَتْ حالًا كَقَوْلِهِ:
؎لِمَيَّـةَ مُوحِشًـا طَلَلُ
يَعْنِي أنَّها حالٌ مِن سُبُلٍ وهي نَكِرَةٌ، فَلَوْ تَأخَّرَ (فِجاجًا) لَكانَ صِفَةً كَما في تِلْكَ الآيَةِ ولَكِنْ تَقَدَّمَ فانْتَصَبَ عَلى الحالِ قالَ: فَإنْ قُلْتَ: ما الفَرْقُ بَيْنَهُما مِن جِهَةِ المَعْنى ؟ قُلْتُ: وجْهانِ أحَدُهُما إعْلامٌ بِأنَّهُ جَعَلَ فِيها طُرُقًا واسِعَةً، والثّانِي بِأنَّهُ حِينَ خَلَقَها خَلَقَها عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ فَهو بَيانٌ لِما أُبْهِمَ ثَمَّةَ. انْتَهى. يَعْنِي بِالإبْهامِ أنَّ الوَصْفَ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَوْصُوفُ مُتَّصِفًا بِهِ حالَةَ الإخْبارِ عَنْهُ، وإنْ كانَ الأكْثَرُ قِيامَهُ بِهِ حالَةَ الإخْبارِ عَنْهُ، ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ: مَرَرْتُ بِوَحْشِيٍّ القاتِلِ حَمْزَةَ، فَحالَةُ المُرُورِ لَمْ يَكُنْ قائِمًا بِهِ قَتْلُ حَمْزَةَ، وأمّا الحالُ فَهي هَيْئَةُ ما تُخْبِرُ عَنْهُ حالَةَ الإخْبارِ ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ في مَسالِكِهِمْ وتَصَرُّفِهِمْ. وما رُفِعَ وسُمِكَ عَلى شَيْءٍ فَهو سَقْفٌ. قالَ قَتادَةُ: حِفْظٌ مِنَ البِلى والتَّغَيُّرِ عَلى طُولِ الدَّهْرِ. وقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ السُّقُوطِ لِإمْساكِهِ مِن غَيْرِ عَلاقَةٍ ولا عِمادٍ. وقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي. وقالَ الفَرّاءُ: حِفْظٌ مِنَ الشَّياطِينِ بِالرُّجُومِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَظَرَ إلى السَّماءِ فَقالَ: (إنَّ السَّماءَ سَقْفٌ مَرْفُوعٌ ومَوْجٌ مَكْفُوفٌ يَجْرِي كَما يَجْرِي السَّهْمُ مَحْفُوظًا مِنَ الشَّياطِينِ) وإذا صَحَّ هَذا الحَدِيثُ كانَ نَصًّا في مَعْنى الآيَةِ.
(p-٣١٠)﴿وهم عَنْ آياتِها﴾ أيْ عَنْ ما وضَعَ اللَّهُ فِيها مِنَ الأدِلَّةِ والعِبَرِ بِالشَّمْسِ والقَمَرِ وسائِرِ النَّيِّراتِ ومَسايِرِها وطُلُوعِها وغُرُوبِها عَلى الحِسابِ القَوِيمِ والتَّرْتِيبِ العَجِيبِ الدّالِّ عَلى الحِكْمَةِ البالِغَةِ والقُدْرَةِ الباهِرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿عَنْ آياتِها﴾ بِالجَمْعِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وحُمَيدٌ عَنْ آيَتِها بِالإفْرادِ، فَيَجُوزُ أنَّهُ جَعَلَ الجَعْلَ أوِ السَّقْفَ أوِ الخَلْقَ أيْ خَلْقَ السَّماءِ آيَةً واحِدَةً تَحْوِي الآياتِ كُلَّها، ويَجُوزُ أنَّهُ أرادَ بِها الجَمْعَ فَجَعَلَها اسْمَ الجِنْسِ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ كَثْرَةُ ما في السَّماءِ مِنَ الآياتِ. والمَعْنى ﴿وهم عَنْ﴾ الِاعْتِبارِ بِآياتِها (مُعْرِضُونَ) وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هم يَتَفَطَّنُونَ لِما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مِنَ المَنافِعِ الدُّنْياوِيَّةِ كالِاسْتِضاءَةِ بِقَمَرَيْها والِاهْتِداءِ بِكَواكِبِها وحَياةِ الأرْضِ والحَيَوانِ بِأمْطارِها ﴿وهم عَنْ﴾ كَوْنِها آيَةً بَيِّنَةً عَلى الخالِقِ (مُعْرِضُونَ) .
والتَّنْوِينُ في (كُلٌّ) عِوَضٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، والفَلَكُ الجِسْمُ الدّائِرُ دَوْرَةَ اليَوْمِ واللَّيْلَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ: الفَلَكُ السَّماءُ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: الفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ تَحْتَ السَّماءِ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ والقَمَرُ. وقالَ قَتادَةُ: الفَلَكُ اسْتِدارَةٌ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ يَدُورُ بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوتِ السَّماءِ. وقِيلَ: الفَلَكُ القُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ النُّجُومُ وهو قُطْبُ الشَّمالِ. وقِيلَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ السَّيّاراتِ فَلَكٌ، وفَلَكُ الأفْلاكِ يُحَرِّكُها حَرَكَةً واحِدَةً مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ. وقالَ الضَّحّاكُ: الفَلَكُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وإنَّما هو مَدارُ هَذِهِ النُّجُومِ، والظّاهِرُ أنَّهُ جِسْمٌ وفِيهِ الِاخْتِلافُ المَذْكُورُ والظّاهِرُ أنَّ كُلًّا يَسْبَحُ في فَلَكٍ واحِدٍ. قِيلَ: ولِكُلِّ واحِدٍ فَلَكٌ يَخُصُّهُ فَهو كَقَوْلِهِمْ: كَساهُمُ الأمِيرُ حُلَّةً أيْ كَسى كُلَّ واحِدٍ، وجاءَ (يَسْبَحُونَ) بِواوِ الجَمْعِ العاقِلِ، فَأمّا الجَمْعُ فَقِيلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ وهو والنُّجُومُ، ولِذَلِكَ عادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا ولَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ لَكانَ يَسْبَحانِ مُثَنًّى.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ، والمُرادُ بِهِما جِنْسُ الطَّوالِعِ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ جَعَلُوها مُتَكاثِرَةً لِتَكاثُرِ مَطالِعِها وهو السَّبَبُ في جَمْعِها بِالشُّمُوسِ والأقْمارِ، وإلّا فالشَّمْسُ واحِدَةٌ والقَمَرُ واحِدٌ. انْتَهى. وحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُ جاءَ فاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ، وأمّا كَوْنُهُ ضَمِيرَ مَن يَعْقِلُ ولَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ يُسَبِّحْنَ. فَقالَ الفَرّاءُ: لَمّا كانَتِ السِّباحَةُ مِن أفْعالِ الآدَمِيِّينَ جاءَ ما أُسْنِدَ إلَيْهِما مَجْمُوعًا جَمْعَ مَن يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وعَلى قَوْلِ أبِي عَلِيِّ بْنِ سِينا سَبَبُ ذَلِكَ أنَّها عِنْدَهُ تَعْقِلُ. انْتَهى. وهَذِهِ الجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ فَلا مَحَلَّ لَها، أوْ مَحَلُّها النَّصْبُ عَلى الحالِ مِن ﴿الشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ [الرعد: ٢] لِأنَّ (اللَّيْلَ والنَّهارَ) لا يَتَّصِفانِ بِأنَّهُما يَجْرِيانِ ﴿فِي فَلَكٍ﴾ فَهو كَقَوْلِكَ: رَأيْتُ زَيْدًا وهِنْدًا مُتَبَرِّجَةً والسِّباحَةُ العَوْمُ والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ هُما اللَّذانِ يَجْرِيانِ في الفَلَكِ، وأنَّ الفَلَكَ لا يَجْرِي.
﴿وما جَعَلْنا﴾ الآيَةَ. قِيلَ: إنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ قالَ: إنَّ مُحَمَّدًا لَنْ يَمُوتَ وإنَّما هو مُخَلَّدٌ، فَأنْكَرَ ذَلِكَ الرَّسُولُ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: طَعَنَ كُفّارُ مَكَّةَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ بَشَرٌ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمُوتُ فَكَيْفَ يَصِحُّ إرْسالُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانُوا يُقَدِّرُونَ أنَّهُ سَيَمُوتُ فَيَشْمَتُونَ بِمَوْتِهِ فَنَفى اللَّهُ عَنْهُ الشَّماتَةَ بِهَذا أيْ قَضى اللَّهُ أنْ لا يُخَلِّدَ في الدُّنْيا بَشَرًا فَلا أنْتَ ولا هم إلّا عُرْضَةً لِلْمَوْتِ فَإنْ مِتَّ أيَبْقى هَؤُلاءِ ؟ وفي مَعْناهُ قَوْلُ الإمامِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
؎تَمَنّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وإنْ أمُتْ ∗∗∗ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيها بِأوْحَدِ
؎فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلافَ الَّذِي مَضى ∗∗∗ تَزَوَّدْ لِأُخْرى مِثْلِها فَكَأنْ قَدِ
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎فَقُلْ لِلشّامِتِينَ بِنا أفِيقُوا ∗∗∗ سَيَلْقى الشّامِتُونَ كَما لَقِينا
والفاءُ في ﴿أفَإنْ مِتَّ﴾ العَطْفُ قُدِّمَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لَهُ صَدْرُ الكَلامِ، دَخَلَتْ عَلى (p-٣١١)إنِ الشَّرْطِيَّةِ والجُمْلَةُ بَعْدَها جَوابٌ لِلشَّرْطِ، ولَيْسَتْ مَصَبَّ الِاسْتِفْهامِ فَتَكُونُ الهَمْزَةُ داخِلَةً عَلَيْها، واعْتَرَضَ الشَّرْطُ بَيْنَهُما فَحُذِفَ جَوابُهُ هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وزَعَمَ يُونُسُ أنَّ تِلْكَ الجُمْلَةَ هي مَصَبُّ الِاسْتِفْهامِ والشَّرْطُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُما وجَوابُهُ مَحْذُوفٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وألِفُ الِاسْتِفْهامِ داخِلَةٌ في المَعْنى عَلى جَوابِ الشَّرْطِ. انْتَهى.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ إذْ لَوْ كانَ عَلى ما زَعَمَ يُونُسُ لَكانَ التَّرْكِيبُ ﴿أفَإنْ مِتَّ﴾ هُمُ ﴿الخالِدُونَ﴾ بِغَيْرِ فاءٍ، ولِلْمَذْهَبَيْنِ تَقْرِيرٌ في عِلْمِ النَّحْوِ.
{"ayahs_start":30,"ayahs":["أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ","وَجَعَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِیدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِیهَا فِجَاجࣰا سُبُلࣰا لَّعَلَّهُمۡ یَهۡتَدُونَ","وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ سَقۡفࣰا مَّحۡفُوظࣰاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِهَا مُعۡرِضُونَ","وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ","وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرࣲ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِی۟ن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَـٰلِدُونَ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق