الباحث القرآني
﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تَجْهِيلٌ لَهم بِتَقْصِيرِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ في الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وتَصَرُّفِهِ وكَوْنِ جَمِيعِ ما سِواهُ مَقْهُورًا تَحْتَ مَلَكُوتِهِ عَلى وجْهٍ يَنْتَفِعُونَ بِهِ ويَعْلَمُونَ أنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ لا يَنْبَغِي أنْ يَعْدِلَ عَنْ عِبادَتِهِ إلى عِبادَةِ حَجَرٍ أوْ نَحْوِهِ مِمّا لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمِيدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِغَيْرِ واوٍ، والرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ أيْ ألَمْ يَتَفَكَّرُوا ولَمْ يَعْلَمُوا ﴿أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا﴾ الضَّمِيرُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ، والمُرادُ مِنَ السَّماواتِ طائِفَتُها ولِذا ثُنِّيَ الضَّمِيرُ ولَمْ يُجْمَعْ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ [فاطِرَ: 41] وكَذا قَوْلُ الأسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
؎إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُما دُونَ المَحارِمِ يَرْقُبانِ سَوادِي
وأُفْرِدَ الخَبَرَ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿رَتْقًا﴾ ولَمْ يُثَنَّ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، والحَمْلُ إمّا بِتَأْوِيلِهِ بِمُشْتَقٍّ أوْ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ أوْ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ ذاتَيْ رَتْقٍ، وهو في الأصْلِ الضَّمُّ والِالتِحامُ خِلْقَةً كانَ أمْ صَنْعَةً، ومِنهُ الرَّتْقاءُ المُلْتَحِمَةُ مَحِلَّ الجِماعِ وقَرَأ الحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو حَيْوَةَ وعِيسى (رَتَقًا ) بِفَتْحِ التّاءِ وهو اسْمُ المَرْتُوقِ كالنَّقْضِ والنَّقْضِ فَكانَ قِياسُهُ أنْ يُثَنّى هُنا لِيُطابِقَ الِاسْمَ فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو عَلى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أيْ كانَتا شَيْئًا رَتْقًا وشَيْءٌ اسْمُ جِنْسٍ شامِلٍ لِلْقَلِيلِ والكَثِيرِ فَيَصِحُّ الإخْبارُ بِهِ عَنِ المُثَنّى كالجَمْعِ ويُحَسِّنُهُ أنَّهُ في حالِ الرَّتْقِيَّةِ لا تَعَدُّدَ فِيهِ.
وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: الأكْثَرُ في هَذا البابِ أنْ يَكُونَ المُتَحَرِّكُ مِنهُ اسْمًا بِمَعْنى المَفْعُولِ والسّاكِنُ مَصْدَرًا وقَدْ يَكُونانِ مَصْدَرَيْنِ، والأوْلى هُنا كَوْنُهُما كَذَلِكَ وحِينَئِذٍ لا حاجَةَ إلى ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَوْجِيهِ الإخْبارِ، وقَدْ أُرِيدَ بِالرَّتْقِ عَلى ما نُقِلَ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ حالَةُ العَدَمِ إذْ لَيْسَ فِيهِ ذَواتٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَكَأنَّ السَّماواتِ والأرْضَ أمْرٌ واحِدٌ مُتَّصِلٌ مُتَشابِهٌ وأُرِيدَ بِالفَتْقِ وأصْلُهُ الفَصْلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ الإيجادُ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ وانْفِصالِ بَعْضِ الحَقائِقِ عَنِ البَعْضِ بِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ( فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ ) [الأنْعامَ: 14، يُوسُفَ: 101، إبْراهِيمَ: 10، فاطِرَ: 1، الزُّمَرَ: 46، الشُّورى: 11] بِناءً عَلى أنَّ الفَطْرَ الشَّقُّ وظاهِرُهُ نَفْيُ تَمايُزِ المَعْدُوماتِ، والَّذِي حَقَّقَهُ مَوْلانا الكُورانِيُّ في جَلاءِ الفُهُومِ وذَبَّ عَنْهُ حَسَبَ جُهْدِهِ أنَّ المَعْدُومَ المُمْكِنَ مُتَمَيِّزٌ في نَفْسِ الأمْرِ لِأنَّهُ مُتَصَوَّرٌ ولا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ إلّا بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ وإلّا لَمْ يَكُنْ بِكَوْنِهِ مُتَصَوَّرًا أوْلى مِن غَيْرِهِ ولِأنَّ بَعْضَ المَعْدُوماتِ قَدْ يَكُونُ مُرادًا دُونَ بَعْضٍ ولَوْلا التَّمْيِيزُ بَيْنَها لَما عُقِلَ ذَلِكَ إذِ القَصْدُ إلى إيجادِ غَيْرِ المُتَعَيَّنِ مُمْتَنِعٌ لِأنَّ ما لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ في نَفْسِهِ لَمْ يَتَمَيَّزِ القَصْدُ إلَيْهِ عَنِ القَصْدِ إلى غَيْرِهِ، وقَدْ يُقالُ عَلى هَذا: يَكْفِي في تِلْكَ الإرادَةِ عَدَمُ تَمايُزِ السَّماواتِ والأرْضِ في حالَةِ العَدَمِ نَظَرًا إلى الخارِجِ المُشاهَدِ، وأيًّا ما كانَ فَمَعْنى الآيَةِ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا مَعْدُومَتَيْنِ فَأوْجَدْناهُما، ومَعْنى عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ تَمَكُّنُهم مِنَ العِلْمِ بِهِ بِأدْنى نَظَرٍ لِأنَّهُما مُمْكِنانِ، والمُمْكِنُ بِاعْتِبارِ ذاتِهِ وحْدَها يَكُونُ مَعْدُومًا واتِّصافُهُ بِالوُجُودِ لا يَكُونُ إلّا مِن واجِبِ الوُجُودِ.
قالَ ابْنُ سِينا في المَقالَةِ الثّامِنَةِ مِن إلَهِيّاتِ الشِّفاءِ: سائِرُ الأشْياءِ غَيْرُ واجِبِ الوُجُودِ لا تَسْتَحِقُّ الوُجُودَ بَلْ (p-35)هِيَ في أنْفُسِها ومَعَ قَطْعِ إضافَتِها إلى الواجِبِ تَسْتَحِقُّ العَدَمَ ولا يُعْقَلُ أنْ يَكُونَ وُجُودُ السَّماواتِ والأرْضِ مَعَ إمْكانِهِما الضَّرُورِيِّ عَنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، وأمّا ما ذَهَبَ إلَيْهِ ذِيمُقْرَطِيسُ مِن أنَّ وُجُودَ العالَمِ إنَّما كانَ بِالِاتِّفاقِ وذَلِكَ لِأنَّ مَبادِيَهُ أجْرامٌ صِغارٌ لا تَتَجَزَّأُ لِصَلابَتِها وهي مَبْثُوثَةٌ في خَلاءٍ غَيْرِ مُتَناهٍ وهي مُتَشاكِلَةُ الطَّبائِعِ مُخْتَلِفَةُ الأشْكالِ دائِمَةُ الحَرَكَةِ فاتَّفَقَ أنْ تَضامَّتْ جُمْلَةٌ مِنهُ واجْتَمَعَتْ عَلى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَتَكَوَّنَ مِنها هَذا العالَمُ فَضَرْبٌ مِنَ الهَذَيانِ، ووافَقَهُ عَلَيْهِ عَلى ما قِيلَ أبْناذِقْلَسُ لَكِنَّ الأوَّلَ زَعَمَ أنَّ تَكَوُّنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ لَيْسَ بِالِاتِّفاقِ وهَذا زَعَمَ أنَّ تَكَوُّنَ الأجْرامِ الأسْطَقْسِيَّةِ بِالِاتِّفاقِ أيْضًا إلّا أنَّ ما اتَّفَقَ إنْ كانَ ذا هَيْئَةٍ اجْتِماعِيَّةٍ عَلى وجْهٍ يَصْلُحُ لِلْبَقاءِ والنَّسْلِ بَقِيَ وما اتَّفَقَ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ، وهَذا الهَذَيانُ بَعِيدٌ مِن هَذا الرَّجُلِ فَإنَّهم ذَكَرُوا أنَّهُ مِن رُؤَساءِ يُونانَ كانَ في زَمَنِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَلَقّى العِلْمَ مِنهُ واخْتَلَفَ إلى لُقْمانَ الحَكِيمِ واقْتَبَسَ مِنهُ الحِكْمَةَ، ثُمَّ إنَّ وُجُودَهُما عَنِ العِلَّةِ حادِثٌ بَلِ العالَمُ المَحْسُوسُ مِنهُ وغَيْرُهُ حادِثٌ حُدُوثًا زَمانِيًّا بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ وما يُتَوَهَّمُ مِن بَعْضِ عِباراتِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ مِن أنَّهُ حادِثٌ بِالذّاتِ قَدِيمٌ بِالزَّمانِ مَصْرُوفٌ عَنْ ظاهِرِهِ إذْ هم أجَلُّ مِن أنْ يَقُولُوا بِهِ لِما أنَّهُ كُفْرٌ. والفَلاسِفَةُ في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلى ثَلاثَةِ آراءٍ فَجَماعَةٌ مِنَ الأوائِلِ الَّذِينَ هم أساطِينُ مِنَ المَلْطِيَّةِ وسامِيا صارُوا إلى القَوْلِ بِحُدُوثِ مَوْجُوداتِ العالَمِ مَبادِيها وبَسائِطِها ومُرَكَّباتِها وطائِفَةٌ مِنَ الأتِينِينِيَّةِ وأصْحابِ الرِّواقِ صارُوا إلى قِدَمِ مَبادِيها مِنَ العَقْلِ والنَّفْسِ والمُفارَقاتِ والبَسائِطِ دُونَ المُتَوَسِّطاتِ والمُرَكَّباتِ فَإنَّ المَبادِيَ عِنْدَهم فَوْقَ الدَّهْرِ والزَّمانِ فَلا يَتَحَقَّقُ فِيها حُدُوثٌ زَمانِيٌّ بِخِلافِ المُرَكَّباتِ الَّتِي هي تَحْتَ الدَّهْرِ والزَّمانِ ومَنَعُوا كَوْنَ الحَرَكاتِ سَرْمَدِيَّةً، ومَذْهَبُ أرِسْطُو ومَن تابَعَهُ مِن تَلامِذَتِهِ أنَّ العالَمَ قَدِيمٌ وأنَّ الحَرَكاتِ الدَّوْرِيَّةَ سَرْمَدِيَّةٌ، وهَذا بِناءً عَلى المَشْهُورِ عَنْهُ وإلّا فَقَدْ ذُكِرَ في الأسْفارِ أنَّ أساطِينَ الحِكْمَةِ المُعْتَبَرِينَ عِنْدَ الطّائِفَةِ ثَمانِيَةٌ ثَلاثَةٌ مِنَ المَلْطِيِّينَ ثالسُ وانْكَسْيَمائِسُ وأغاثاذِيمُونُ، وخَمْسَةٌ مِنَ اليُونانِيِّينَ أبْناذِقْلَسُ وفِيثاغُورْسُ وسُقْراطُ وأفْلاطُونُ وأرِسْطُو وكُلُّهم قائِلُونَ بِما قالَ بِهِ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وأتْباعُهم مِن حُدُوثِ العالَمِ بِجَمِيعِ جَواهِرِهِ وأعْراضِهِ وأفْلاكِهِ وأمْلاكِهِ وبَسائِطِهِ ومُرَكَّباتِهِ، ونُقِلَ عَنْ كُلٍّ كَلِماتٌ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وكَذا نُقِلَ عَنْ غَيْرِ أُولَئِكَ مِنَ الفَلاسِفَةِ وأطالَ الكَلامَ في هَذا المَقامِ، ولَوْلا مَخافَةُ السَّآمَةِ لَنَقَلْتُ ذَلِكَ ولَعَلِّي أنْقُلُ شَيْئًا مِنهُ في مَحِلِّهِ الألْيَقِ بِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وجاءَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ وقَتادَةَ وابْنِ جُبَيْرٍ أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا شَيْئًا واحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّهُ تَعالى بَيْنَهُما ورَفَعَ السَّماءَ إلى حَيْثُ هي وأقَرَّ الأرْضَ. وقالَ كَعْبُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعالى السَّماواتِ والأرْضَ مُلْتَصِقَتَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا فَتَوَسَّطَهُما فَفَتَقَهُما. وعَنِ الحَسَنِ خَلَقَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ في مَوْضِعِ بَيْتِ المَقْدِسِ كَهَيْئَةِ الفِهْرِ عَلَيْها دُخانٌ مُلْتَصِقٌ بِها ثُمَّ أصْعَدَ الدُّخانَ وخَلَقَ مِنهُ السَّماواتِ وأمْسَكَ الفِهْرَ في مَوْضِعِها وبَسَطَ مِنها الأرْضَ وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما﴾ فَجَعَلَ سَبْعَ سَمَواتٍ، وكَذَلِكَ الأرْضُ كانَتْ مُرَتَّقَةً طَبَقَةً واحِدَةً فَفَتَقَها فَجَعَلَها سَبْعَ أرْضِينَ، والمُرادُ مِنَ العِلْمِ عَلى هَذِهِ الأقْوالِ التَّمَكُّنُ مِنهُ أيْضًا إلّا أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ بَلْ بِالِاسْتِفْسارِ مِن عُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ كانُوا يُخالِطُونَهم ويَقْبَلُونَ أقْوالَهم وقِيلَ بِذَلِكَ أوْ بِمُطالَعَةِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ ويَدْخُلُ فِيها القُرْآنُ وإنْ لَمْ يَقْبَلُوهُ لِكَوْنِهِ مُعْجِزَةً في نَفْسِهِ وفي ذَلِكَ دَغْدَغَةٌ لا تَخْفى.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ رَجُلًا أتاهُ فَسَألَهُ عَنِ الآيَةِ فَقالَ: اذْهَبْ إلى ذَلِكَ الشَّيْخِ فاسْألْهُ ثُمَّ تَعالَ فَأخْبِرْنِي وكانَ ابْنَ عَبّاسٍ فَذَهَبَ إلَيْهِ فَسَألَهُ (p-36)فَقالَ: نَعَمْ كانَتِ السَّماواتُ رَتْقًا لا تُمْطِرُ وكانَتِ الأرْضُ رَتْقًا لا تُنْبِتُ فَلَمّا خَلَقَ اللَّهُ تَعالى لِلْأرْضِ أهْلًا فَتَقَ هَذِهِ بِالمَطَرِ وفَتَقَ هَذِهِ بِالنَّباتِ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلى ابْنِ عُمَرَ فَأخْبَرَهُ فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: الآنَ عَلِمْتُ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قَدْ أُوتِيَ في القُرْآنِ عِلْمًا صَدَقَ ابْنُ عَبّاسٍ هَكَذا كانَتْ، ورَوى عَنْهُ ما هو بِمَعْنى ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنهُمُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ وإلَيْهِ ذَهَبَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هو قَوْلٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ العِبْرَةَ والحُجَّةَ وتَعْدِيدَ النِّعْمَةِ ويُناسِبُ ما يُذْكَرُ بَعْدُ والرَّتْقُ والفَتْقُ مَجازِيّانِ عَلَيْهِ كَما هُما كَذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، والمُرادُ بِالسَّماواتِ جِهَةُ العُلُوِّ أوْ سَماءُ الدُّنْيا، والجَمْعُ بِاعْتِبارِ الآفاقِ أوْ مِن بابِ ثَوْبِ أخْلاقِ، وقِيلَ هو عَلى ظاهِرِهِ ولِكُلٍّ مِنَ السَّماواتِ مَدْخَلٌ في المَطَرِ، والمُرادُ بِالرُّؤْيَةِ العِلْمُ أيْضًا وعِلْمُ الكَفَرَةِ بِذَلِكَ ظاهِرٌ.
وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وجَعْلُها عِلْمِيَّةً أوْلى، ومِنَ البَعِيدِ ما نُقِلَ عَنْ بَعْضِ عُلَماءِ الإسْلامِ أنَّ الرَّتْقَ انْطِباقُ مِنطَقَتَيِ الحَرَكَتَيْنِ الأُولى والثّانِيَةِ المُوجِبُ لِبُطْلانِ العِماراتِ وفُصُولِ السَّنَةِ والفَتْقُ افْتِراقُهُما المُقْتَضِي لِإمْكانِ العِمارَةِ وتَمْيِيزِ الفُصُولِ بَلْ لا يَكادُ يَصِحُّ عَلى الأُصُولِ الإسْلامِيَّةِ الَّتِي أصَّلَها السَّلَفُ الصّالِحُ كَما لا يَخْفى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿أنَّ السَّماواتِ﴾ إلَخْ ولا حاجَةَ إلى تَكَلُّفِ عَطْفِهِ عَلى فَتَقْنا، والجَعْلُ بِمَعْنى الخَلْقِ المُتَعَدِّي لِمَفْعُولٍ واحِدٍ، ومِنَ ابْتِدائِيَّةٌ والماءُ هو المَعْرُوفُ أيْ خَلَقْنا مِنَ الماءِ كُلَّ حَيَوانٍ أيْ مُتَّصِفٍ بِالحَياةِ الحَقِيقِيَّةِ. ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الكَلْبِيِّ. وجَماعَةٌ ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ [النُّورَ: 45] ووَجْهُ كَوْنِ الماءِ مَبْدَأٌ ومادَّةٌ لِلْحَيَوانِ وتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ أنَّهُ أعْظَمُ مَوادِّهِ وفَرْطُ احْتِياجِهِ إلَيْهِ وانْتِفاعِهِ بِهِ بِعَيْنِهِ ولا بُدَّ مِن تَخْصِيصِ العامِّ لِأنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وكَذا الجِنَّ أحْياءٌ ولَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنَ الماءِ ولا مُحْتاجِينَ إلَيْهِ عَلى الصَّحِيحِ.
وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى خَلَقْنا كُلَّ نامٍ مِنَ الماءِ فَيَدْخُلُ النَّباتُ ويُرادُ بِالحَياةِ النُّمُوُّ أوْ نَحْوُهُ، ولَعَلَّ مَن زَعَمَ أنَّ في النَّباتِ حِسًّا وشُعُورًا أبْقى الحَياةَ عَلى ظاهِرِها، وقالَ قُطْرُبُ، وجَماعَةٌ: المُرادُ بِالماءِ النُّطْفَةُ ولا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ بِما سِوى المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والجِنِّ أيْضًا بَلْ بِما سِوى ذَلِكَ والحَيَواناتِ المَخْلُوقَةِ مِن غَيْرِ نُطْفَةٍ كَأكْثَرِ الحَشَراتِ الأرْضِيَّةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَعْلُ بِمَعْنى التَّصْيِيرِ المُتَعَدِّي لِمَفْعُولَيْنِ وهُما هُنا ( كُلَّ ومِنَ الماءِ ) وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ الثّانِي لِلِاهْتِمامِ بِهِ ومِنَ اتِّصالِيَّةٌ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ ﷺ: ««ما أنا مِن دَدٍ ولا الدَّدُ مِنِّي»» والمَعْنى صَيَّرْنا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ مُتَّصِلًا بِالماءِ أيْ مُخالِطًا لَهُ غَيْرَ مُنْفَكٍّ عَنْهُ، والمُرادُ أنَّهُ لا يَحْيا دُونَهُ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أنْ يَكُونَ الجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ( كُلَّ ) وجَعَلَ الطَّيِّبِيُّ مِن عَلى هَذا بَيانِيَّةً تَجْرِيدِيَّةً فَيَكُونُ قَدْ جُرِّدَ مِنَ الماءِ الحَيِّ مُبالَغَةً كَأنَّهُ هو، وقَرَأ حُمَيْدٌ (حَيًّا ) بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ صِفَةُ ( كُلَّ ) أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لِجَعَلَ، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ لا يَحْيا، والشَّيْءُ مَخْصُوصٌ بِالحَيَوانِ لِأنَّهُ المَوْصُوفُ بِالحَياةِ، وجَوَّزَ تَعْمِيمَهُ لِلنَّباتِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ العُلْوِيّاتِ والسُّفْلِيّاتِ حَيٌّ حَياةً لائِقَةً بِهِ وهُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلى أنَّ تَسْبِيحَ الأشْياءِ المُفادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسْراءَ: 44] قالِيٌّ لا حالِيٌّ، وإذا قِيلَ بِذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن تَخْصِيصِ الشَّيْءِ أيْضًا إذا لَمْ يَجْعَلْ مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيًّا ولَمْ أقِفْ عَلى مُخالِفٍ في ذَلِكَ مِنّا، نَعَمْ نُقِلَ عَنْ ثالِسَ المَلْطِيِّ وهو أوَّلُ مَن تَفَلْسَفَ بِمَلْطِيَّةَ أنَّ أصْلَ المَوْجُوداتِ الماءُ حَيْثُ قالَ: الماءُ قابِلٌ كُلَّ صُورَةٍ ومِنهُ أُبْدِعَتِ الجَواهِرُ كُلُّها مِنَ السَّماءِ والأرْضِ انْتَهى.
(p-37)ويُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلى مَشْرَبٍ صُوفِيٍّ بِأنْ يُقالَ إنَّهُ أرادَ بِالماءِ الوُجُودَ الِانْبِساطِيَّ المُعَبَّرَ عَنْهُ في اصْطِلاحِ الصُّوفِيَّةِ بِالنَّفْسِ الرَّحْمانِيِّ، وحِينَئِذٍ لَوْ جُعِلَتِ الإشارَةُ في الآيَةِ إلى ذَلِكَ عِنْدَهم لَمْ يَبْعُدْ ﴿أفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ إنْكارٌ لِعَدَمِ إيمانِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى وحْدَهُ مَعَ ظُهُورِ ما يُوجِبُهُ حَتْمًا مِنَ الآياتِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَسْتَدْعِيهُ الإنْكارُ أيْ أيَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلا يُؤْمِنُونَ
{"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق