الباحث القرآني

طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة ٤١]. * الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أول ليلة نبتدئ بها تفسير كتاب الله عز وجل بعد غياب طال، وبما أن معنا الآن إخوانًا لم يكونوا حضروا من أول الدراسة فإننا نحب أن نلقي شيئًا من الأضواء على ما يتعلق بتفسير كتاب الله عز وجل فنقول: أولًا: معرفة تفسير كتاب الله فرض؛ إما فرض كفاية، وإما فرض عين، وعلى هذا فمن قام بمعرفة تفسير القرآن الكريم فإنه قد قام بفريضة من فرائض الله عز وجل، ووجه كون التفسير فرضًا أن الله تعالى قال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص ٢٩]، وقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد ٢٤]، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا القرآن لمجرد أن نتعبد بلفظه، بل لنعرف معناه ونطبقه عملًا وعلمًا، وإلا لكانت فائدته قليلة لو كان المقصود مجرد أن نتعبد لله بتلاوته، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل. فإذا قال قائل: إلى أي شيء نرجع في التفسير، كتب التفسير كثيرة وتناولها للقرآن على وجوه متنوعة فإلى أيها نرجع؟ نقول: أهم شيء نلاحظ في هذا ما يتعلق بالعقيدة، وعلى هذا فنحذر من كل من ينحى منحى أهل التعطيل في صفات الله عز وجل وأسمائه، فإذا عرف أن هذا التفسير من هؤلاء القوم فلنحذره، حتى وإن كان فيه فوائد من الناحية اللغوية أو الفقهية، لكن يجب أن نحذره في مقام أيش؟ العقيدة؛ لئلا نَزِلَّ. ولنضرب لهذا مثلًا: الكشاف للزمخشري لا شك أنه تفسير جيد في تحرير المعاني وفي ما يرمي إلى البلاغة، وأن كل من كانوا بعده ممن ينهجون هذا المنهج كلهم عيال عليه، حتى إنك لترى العبارة -عبارة الزمخشري- بنصها وفصها في هذه التفاسير، لكنه في مسألة العقيدة سيء يجب الحذر منه حتى قال بعضهم: إنه لا يطلع على ما في كتابه هذا من الاعتزال إلا بالمناقيش، يعني أنه خفي، كما أن الشوكة لا تخرج إلا بالمنقاش كذلك لا يمكن أن يخرج الإنسان اعتزاليات صاحب الكشاف إلا بالمناقيش. وضرب لهذا مثلًا قال: إنه قال -عفى الله عنا وعنه- في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران ١٨٥] قال: أي فوز أعظم من أن يزحزح الإنسان عن النار ويدخل الجنة، الكلام هذا هل أحد يشعر بأن فيه انحرافًا؟ * طالب: لا. * الشيخ: قد لا يشعر بأن فيه انحرافًا، لكن إذا علمنا أن الرجل ذكي وأنه يغلف المعاني بما يخفى على كثير من الناس، فهو يريد بهذا أن ينكر الرؤية رؤية الرب عز وجل؛ لأن رؤية الرب عز وجل أعظم فوزًا من أن يدخل الإنسان الجنة ويزحزح عن النار، لكن الرجل ذكي، فمثل هذه العبارة يقرؤها الإنسان على أنها عبارة سليمة ليس فيها شيء، ولكن ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَله العذاب. إذن على أي تفسير نعتمد؟ نقول أولًا: إن التفاسير الأثرية -أي التي تفسر القرآن بالأثر عن الصحابة وعن كبار التابعين- هي أولى ما يلتفت إليه، وعلى رأسها تفسير ابن جرير، لكن في تفسير ابن جرير آفة وهو أنه يطلق التفسير عن الصحابة والتابعين بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وكأنه رحمه الله يريد أن يجمع ما روي، فإما أن المنية أدركته قبل تمحيصه، وإما أنه يريد أن يَكِلَ هذا إلى القارئ؛ ولهذا إذا مر عليك شيء مشكل من تفسير القرآن بالأثر في ابن جرير أو غيره فارجع إلى السند، ربما تجد به آفة توجب رد ما روي عن ابن عباس أو عن مجاهد أو غيره. من خير ما نرى من التفاسير تفسير ابن كثير رحمه الله فهو تفسير أثري نظري، لكنه أحيانًا يتغاضى عن الكلام عن بعض الإسرائيليات أو بعض القصص، وهذه لا شك أنها آفة، لكن كما قلت لكم: متى أنكر قلبك شيئًا من هذا فارجع إلى الأسانيد أو إلى أصل هذا المتن المروي قد يكون عن بني إسرائيل، وهو من الأشياء التي رخص فيها «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ»[[أخرجه البخاري (٣٤٦١) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.]]، لكن التفسير جيد. تفسير المتأخرين تفاسيرهم منها بعض التفاسير تجد الكلام الطويل العريض على الآية، ثم إذا أردت أن تحصِّل منه شيئًا لا تجد شيئًا، فهو قش هش فائدته قليلة، اللهم إلا النادر، وعلى كل حال طالب العلم يستطيع أن يميز بين الغث والسمين. لكن هنا مسألة أحب أن أنبه عليها إني أريد منكم أن تحاولوا أولًا: فهم القرآن بأنفسكم، اقرأ الآية، تدبرْ معناها، ثم سيكون لديك شيء من المعنى، بعد ذلك ارجع إلى أقوال المفسرين؛ لأن تعويد الإنسان نفسه على أخذ المعاني -أو بعبارة ثانية على تفسير القرآن بنفسه- يكسبه فهمًا كثيرًا؛ لأنه امتثال لأمر الله ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، لكن لا تجزم إذا كان الأمر ليس بواضح إلا بعد مراجعة كتب التفاسير. ومن المفسرين من ينحى منحًى آخر كمسائل فقهية، مثل القرطبي رحمه الله فإنه ينحى هذا المنحى، تجد تفسيره مسائل كثيرة من مسائل الفقه، وهذا طيب، لا شك أنه طيب ويفيد طالب العلم. المسألة الثانية في التفسير: قال العلماء: يرجع أولًا إلى تفسير القرآن بالقرآن، وهذا كثير، ثم إلى تفسيره بالسنة، ثم إلى تفسيره بأقوال فقهاء الصحابة ولا سيما من لهم عناية بتفسير القرآن كابن عباس وابن مسعود، ثم إلى كبار التابعين الذين تلقوا التفسير عن الصحابة. فمثلًا إذا قال لك قائل: ما هي القوة المذكورة في قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال ٦٠]؟ ننظر في القرآن ما نجد تفسيرًا لها، لكن نجد السنة قال النبي ﷺ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[[أخرجه مسلم (١٩١٧ / ١٦٧) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.]]، إذن نفسر القوة بأنها الرمي، أي تعلم الرمي، والرمي في كل زمان ومكان بحسبه، كان الناس في الأول يرمون بأيش؟ * الطلبة: بالسهام. * الشيخ: بالنبال وما أشبهها، ثم صاروا يرمون بالبارود بالبنادق بالرصاص، ثم صاروا الآن يرمون بالصواريخ قريبة المدى وبعيدة المدى، والقوة هي الرمي الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام يشمل أي رمي يكون حسب أساليب الحرب التي في وقته. كذلك لو قال لك قائل: ما هو يوم الدين؟ ننظر القرآن فسره قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار ١٧ - ١٩] يعني إذن يوم الدين هو اليوم الذي لا ينفع فيه إلا العمل ولا يملك فيه أحد لأحد منفعة، وأمثال هذا كثير. فإذن نفسر القرآن بالقرآن أولًا، ثم بالسنة ثانيًا، ثم بأقوال الصحابة لا سيما المعتنون بالتفسير، ثم بأقوال التابعين الذين أخذوا التفسير عن الصحابة كمجاهد. ولا يعني هذا أننا إذا رأينا الآية تحتمل معاني أخرى غير ما ذكر أن نقتصر على ما ذكر؛ لأن كلام الله تعالى أوسع من أن يحيط به البشر، قد يفهمون معنًى ونحن نفهم معنًى آخر للآية، لكن إن كان يضاد ما فهمه الصحابة والتابعون فإننا لا نقبله، أما إذا كان لا يضاده فلا مانع من أن نقول: الآية أيش؟ واسعة، الآية واسعة تشمل هذا وهذا؛ لأن كلام الله واسع. القاعدة الثالثة: قد تكون الآية محتملة لوجهين فأكثر فماذا نصنع؟ إذا احتمل وجهين فأكثر نقول: أي هذه المعاني أظهر؟ فإذا كان أحد هذه المعاني أظهر وجب حملها على هذا الأظهر، لا سيما إذا كان الأخفى يعارض الأظهر فإننا نأخذ بالظاهر. فمثلًا قول الله تبارك وتعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة ٦٤] تحتمل معنيين أحدهما أظهر من الثاني، المعنى الأول أيش؟ أن المراد باليدين هما اليدان الحقيقيتان اللتان يأخذ الله بهما ويقبض، المعنى الثاني القوة، لكن هذا المعنى الثاني بالنسبة للأول ضعيف، ضعيف جدًّا، فنقول: لا يمكن أن نحملها على المعنى الثاني؛ لأن المعنى الأول أظهر، والله عز وجل لا يمكن أن يخاطب عباده بما هو أظهر ويريد الأخفى، هذا مستحيل؛ لأن الله قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ﴾ [النساء ٢٦] ويقول: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦]، فلا يمكن أن نحمل كلام الله عز وجل على المعنى الأخفى مع وجود الأظهر، بل يتعين أن نأخذ بالأظهر. أما إذا كان المعنيان محتملان، يعني أنه صالح لهذا وهذا، فحينئذٍ إن كان المعنيان لا يتعارضان وجب حمل الآية على المعنيين جميعًا ولا مانع، وإن كانا يتنافيان وجب أن نطلب المرجح من الخارج؛ لأن اللفظ الذي بين أيدينا ما فيه ترجيح نحتاج إلى مرجح من الخارج. مثال الأول: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ [التكوير ١٧، ١٨] الليل إذا عسعس قال بعضهم: معناها أدبر، وقال بعضهم: معناها أقبل، وكلاهما صالح في السياق وفي اللغة العربية، فماذا نقول في مثل هذا؟ نقول: تحمل على المعنيين جميعًا ولا مانع؛ لأن كلام الله تعالى واسع. ومثل: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ [الطور ٦] البحر المسجور هل المعنى الذي سيسجَّر ويكون نارًا يوم القيامة، أو المسجور: المملوء، أو المسجور: الممنوع عن الفيضان على الأرض؟ فيه أقوال، هل كل قول ينافي الآخر؟ لا، هل المسجور ظاهرة في أحدها دون الأخر؟ لا، صالحة للجميع، حينئذٍ نقول: المسجور: الذي سيسجَّر، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير ٦]، والمسجور المملوء، كما تقول العرب: دلو مسجورة، أي مملوءة، المسجور: الممنوع، كما يقال: سجرت الدابة بالقيد، أي منعتها من الشرود، فالآية صالحة للجميع تحمل على أيش؟ على الجميع ولا مانع؛ لأن كلام الله عز وجل -كما قلت لكم- واسع. مثال آخر قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة ٢٢٨] يرى بعض العلماء أن المراد بالقروء الأطهار، ويرى آخرون المراد بالقروء الحيض، هذان المعنيان لا يمكن أن تحمل الآية عليهما جميعًا؛ لأنهما أيش؟ متنافيان، إذن لا بد من مرجح خارجي، المرجح الخارجي إما من السنة أو من الكلام العرب أو من غير ذلك، المهم لا بد من مرجح، إذا رجعنا إلى المرجح الخارجي وجدنا أن «النبي ﷺ أطلق الأقراء على الحيض فقال للمستحاضة: «اجْلِسِي قَدْرَ مَا تَحْبِسُكِ أَقْرَاؤُكِ»[[أخرجه أبو داود (٢٨٠)، والنسائي (٢١١)، وابن ماجه (٦٢٠) من حديث فاطمة بنت أبي حبيش.]] أو كلمة نحوها، فهنا نقول: المراد بالقروء أيش؟ الحيض، يتعين ذلك لدلالة السنة على هذا. وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم: أنه متى احتملت الآية معنيين فأكثر ولا مرجح لأحدهما ولا منافاة بينهما فإنها تحمل عليهما جميعًا. كذلك أيضًا القاعدة الرابعة في التفسير: هل يجوز للإنسان أن يفسر القرآن برأيه أو لا يجوز؟ لا يجوز، ومعنى تفسيره بالرأي أن تحمله على ما تعتقد، فتجعل القرآن تابعًا لرأيك وعقيدتك، وهذا يقع كثيرًا في أهل الأهواء يحملون القرآن على ما يعتقدون، فيكونون قد قالوا في القرآن برأيهم، وهذه آفة قلَّ من يسلم منها، حتى الفقهاء رحمهم الله تجدهم إذا مر بهم النص وهو على خلاف ما يرونه تجدهم يحاولون أن يصرفوه إلى أيش؟ إلى ما يرون، وهذا ما يجوز، هذا يعني أن الإنسان جعل نفسه مشرعًا مع الله، فالله يريد كذا وهو يحمله على غيره، وهذا من أعظم المحرمات؛ تحريف الكلم عن مواضعه. لو فرض أنك حملته على غير ظاهره لدليل من القرآن أو السنة فلا بأس، لكن لمجرد أنك تعتقد خلاف ما يدل عليه الظاهر هذا لا يجوز أبدًا ولا يحل، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، ومن اتخاذ الإنسان نفسه مشرعًا مع الله، وهذا تجدونه كثيرًا عند الفقهاء رحمهم الله في بعض المسائل، تجد أن الإنسان يحرف الدليل تحريفًا ظاهرًا من أجل أنه يعتقد خلاف ما يدل عليه، ولهذا أمثلة. مثلًا: يرى الفقهاء رحمهم الله أن الرجل لا يجوز أن يتطهر بفضل طهور المرأة، ويجوز للمرأة أن تطهر بفضل طهور الرجل، ثم يستدلون بقول النبي ﷺ: «لَا يَغْتَسِلِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا»[[أخرجه أبو داود (٨١)، والنسائي (٢٣٨) من حديث رجل من أصحاب النبي ﷺ.]] ماذا نقول الآن؟ تناقض، كيف يستدل بهذا الحديث على منع تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وجواز تطهر المرأة بفضل طهور الرجل مع أن الحديث واحد؟ الحديث واحد، الذي يحمل على هذا هو اعتقادهم أن هذا هو الصواب. وكذلك حديث عائشة المشهور: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٥٢)، ومسلم (١١٤٧ / ١٥٣) من حديث عائشة رضي الله عنها.]]، هذا الحديث حمله بعض الفقهاء على أن المراد به النذر، وقال: إن المرء إذا مات وعليه صيام فرض رمضان أو كفارة فإنه لا يصام عنه. فلننظر يا إخواننا ما الذي حملهم على صرف الحديث عن عمومه؟ اعتقادهم أن الفرائض يكلف بها الإنسان بنفسه، ولا أحد يصوم عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، فانظر كيف حملوا الحديث على مسائل نادرة الوقوع وصرفوه عن مسائل كثيرة الوقوع، أيهما أكثر: أن يموت الإنسان عن صيام رمضان أو عن صيام نذر؟ * طلبة: صيام رمضان. * الشيخ: الأول لا شك، وهذا خطأ في الاستدلال، وقد مر علينا في اقتضاء الصراط المستقيم قبل كام ليلة أن شيخ الإسلام رحمه الله نبأ على هذا أنه لا يجوز أن تحمل النصوص على المسائل النادرة وتترك المسائل الكثيرة الوقوع. يتعلق بالقرآن وتفسيره: مراعاة المعاني فإن بعض الناس يقف موقفًا لا يتلاءم مع المعنى، وهذه مسألة تحتاج إلى فهم الإنسان لا إلى الرموز الموجودة في المطبوعات؛ المصحف؛ لأن بعض الرموز خطأ، خطأ واضح، لكن ترجع إلى فهم الإنسان. أضرب لكم مثلًا: قال الله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ [الأنبياء ٢١] بعض الناس يصل فيقول: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ﴾، وهذه يفسد به المعنى؛ لأن جملة ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ مستقلة عن التي قبلها ومعناها: أم لهم آلهة من الأرض أهم ينشرون، يعني: أهذه الآلهة تنشر؛ تحيي الأموات؟! فتكون الجملة هنا مستأنفة، وهي استفهامية أيضًا حذف منها حرف الاستفهام لإبطال دعوى هؤلاء لآلهتهم التي يعبدونها. كذلك أيضًا بعض الناس يقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء ٤٣] فيقف ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾، وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا قرأ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ ثم استأنف فسد المعنى تمامًا. أما قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون ٤، ٥] فلا بأس أن تقف على قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ لماذا؟ لأنها رأس آية، فالله تعالى أعلم بكتابه، فإذا كانت رأس آية قفْ ولا مانع وإن تعلق ما بعدها بما قبلها، ثم قد يكون فيه فائدة في الوقوف إذا قرأت ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ وسكت، اللي يسمع يقول لك: كيف هذا؟ وينتبه تجده متشوفًا لما يأتي بعدها، فإذا قرأت ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ برد قلبه وانشرح صدره، فيكون في جعل ذلك رأس آية يكون في هذه فائدة. كذلك أيضًا من جهة التحزيب للقرآن: شيخ الإسلام رحمه الله انتقد التحزيب الموجود، في بعض الأحيان تجد أن الحزب يقف على آية ما بعدها متعلق بها تعلق الروح بالجسد لكن مكتوب مثلًا: حزب، ثلاثة أرباع حزب، ثمن، وما أشبه ذلك، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ما هكذا حزبه الصحابة، الصحابة يحزبونه ولكنهم يراعون المعنى، فإذا كان باقيًا على تمام المعنى سطر أو سطران أخروا التحزيب، وهذا صحيح، في بعض الأحزاب تتعجب كيف هذا آخر الحزب وما بعده متعلق به تعلقًا واضحًا! هذا ما يحضرني الآن من الكلام على شيء من قواعد التفسير، وقد ألفنا كتابًا صغيرًا في قواعد التفسير موجود في المعاهد يدرس، فمن شاء فليرجع إليه. * طالب: شيخ بارك الله فيكم، إذا أرد الإنسان فهم آية هل يخرج بهذا الترتيب: القرآن الأول والسنة، ثم أقوال الصحابة، أم أن الإنسان قد يذهب للآية من بين ما ذكر الصحابة فقط، أو إلى كلام بعض المفسرين فقط؟ * الشيخ: إي، ما هو لازم يرجع، لكن إذا اضطر إلى مراجعة التفسير يرجع إلى هذا، ولكن إذا كان فهم من أصلها ما يحتاج إلى الرجوع، فمثلًا إذا قال قائل: كيف أتوضأ؟ هذا واضح في الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة ٦] فما حاجة أرجع إلى التفسير. * الطالب: طيب يا شيخ متى، يعني وقع العلماء في هذا الترتيب متى نرجع إليه؟ * الشيخ: عند الاختلاف لا بد أن نرجع إلى تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين. * طالب: (...)؟ * الشيخ: لا، هذا عام، هذا كاللقاء المفتوح. * طالب: بارك الله فيكم، بعض المفسرين المعاصرين يربط بين آيات القرآن وبين الاكتشافات العصرية فمثلًا..؟ * الشيخ: نعم، بعض المعاصرين الآن يحاول أن يربط الاكتشافات العصرية بالقرآن، لكن بعضهم يتجاوز ويفرط في هذا ويفسر القرآن بما يطابق الحاضر وهو بعيد عنه، لكن إذا كان المعنى قريب فلا بأس. مثلًا: أنا رأيت بعض الناس أول ما قيل: إنهم وصلوا إلى القمر صار يدندن على تفسير قول الله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن ٣٣] وقال: إن هؤلاء نفذوا، نفذوا إلى أقطار السماوات، وأن المراد بالسلطان هو العلم، هذا حرام ما يجوز، تفسير الآية بهذا المعنى حرام لا إشكال فيه؛ لأن الآية ظاهرة جدًّا في أن هذا من باب التحدي وأنهم لا يستطيعون، والله يقول: ﴿مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هل أحد نفذ من أقطار السماوات؟ يعني لو قلنا: نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية ما نفذوا من أقطار السماوات، والآية واضحة بأنها يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن ٢٦، ٢٧]، ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن ٢٩]، ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ [الرحمن ٣١]، ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن ٣٣]، ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ [الرحمن ٣٥]، ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ [الرحمن ٣٧]، واضح جدًّا أن هذا يكون يوم القيامة. ثم من قال: إن السلطان هو العلم في الآية هذه؟ صحيح أن السلطان يأتي بمعنى العلم مثل: ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا﴾ [يونس ٦٨]، لكن في هذه الآية أن المراد بالسلطان القدرة؛ لأنه قال: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ ولا سلطان لكم، فالسلطان يأتي بمعانٍ متعددة في كل موضع بحسبه. أنا قصدي أن هؤلاء الذين يفسرون القرآن بما حدث بعضهم يفرط في هذا ويتجاوز الحد، ولم يعلم أنه ربما يأتي يوم من الأيام تكون النظرية التي حمل عليها القرآن نظرية خاطئة، وحينئذٍ يخطأ مدلول القرآن. * طالب: شيخ، أحيانًا تجد في القرآن تكون الآية قد فسرت من قبل أهل العلم إما بالقرآن وإما بالسنة على الترتيب ولم يذكر فيها تفسير يذكره هذا المستدل بها لكن اللفظ يحتمله لغةً، قوله مثلًا: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾ [نوح ٢٨] يجعلها على باب الشقة مثلًا، أو ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة ١٠١] وهلم جرًّا؟ * الشيخ: هذه يعني معناه أن بعض الناس يستعمل الآيات أو الاستدلال بالآيات في معانٍ غير مقصودة، مثلًا كثيرًا ما نرى على المنازل أو على الأسواق التجارية أو حتى على الإدارات: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة ١٠٥] هذا ما يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يرى هذا العمل، الله عز وجل يراه والمؤمنون الموجودون يرونه، لكن الرسول ما يراه، فكيف نكذب ونقول: سيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون؟! هذا لا يجوز. كذلك أيضًا ربما تطبق الآية على غير المراد أيضًا لا يجوز؛ لأن تحويل الآية إلى المعنى الذي اختاره هذا الرجل حرام إذا لم تدل عليه. * طالب: شيخ، كيف تخلص القول الصحيح من قول العلماء التفسير الراجح وفي تفسيرهم بعض الأشياء؟ * الشيخ: والله هذا صحيح إن فيها إشكالًا، يعني مثلًا لو نقول: لو رجع الإنسان مثلًا إلى تفسير الزمخشري وأعجبه بلاغته وحسن أسلوبه ولكنه صغير ما يعرف، لا بد من أن ينبه على هذا ويقال: خذ ما يتعلق بالبلاغة وما يتعلق بالنحو وما يتعلق بالمعنى، لكن مسألة العقيدة احذر، ينبه على هذا. * طالب: (...) المفسرين (...) المناسبة بين كل آية وآية وبين كل سورة وسورة؟ * الشيخ: إي نعم، المناسبة بين الآيات حقيقة أنها من علم التفسير، وينبغي للإنسان إذا أمكن أن يعرف المناسبة بين الآية والآية التي قبلها، لكن المبالغة في هذا والتكلف لا داعي لها؛ لأن حسبنا أن نقول: الله أعلم بمراده، وإذا قال الإنسان: (الله أعلم) فيما لا يعلم هذا خير؛ ولهذا بعض الآيات لا يمكن أن تعرف المناسبة مثل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة ٢٣٨] في سياق المعتدات، هذا ما تقدر تعرف له مناسبة، وهذه من الحكمة: أن يقطع الله تبارك وتعالى أطماع الخلق في أن يحيطوا بكلامه علمًا. * طالب: بعض المفسرين ينتهج منهج تفسير القرآن باللغة دون النظر إلى القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة هل هذا المنهج صحيح؟ * الشيخ: لا شك أن هذا منهج غلط، الرجوع إلى اللغة مطلقًا غلط؛ لأننا لو رجعنا إلى هذا وقلنا: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فالصلاة في اللغة؟ * طلبة: الدعاء. * الشيخ: أي: أقيموا الدعاء، فهذا غلط. * طالب: أحسن الله إليكم، هل (...) تفسير القرآن بالقرآن؟ * الشيخ: حسب الاسم والعنوان تفسير الشيخ الشنقيطي رحمه الله؛ لأنه معنون بقوله: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن. * الطالب: وابن كثير يا شيخ؟ * الشيخ: وابن كثير لا بأس، لكن ما هو من جنس أضواء البيان. * طالب: في هذا الزمان أصبح قليل من يجيد التفسير من العلماء، هل نقول لطالب العلم: اتجه للقراءة لكي يملأ هذا الفراغ؟ * الشيخ: والله أنا رأيي أن طالب العلم يجب أن يعتني بالتفسير، الآن طلبة العلم كثير منهم يعتني بالعقيدة وهذا طيب، كثير منهم يعتني بالفقه وهذا طيب، كثير منهم يعتني بالحديث وهذا طيب، لكن قليل -فيما أرى، والعلم عند الله- من يعتني بالتفسير، وهذا من العجائب، القرآن الكريم مملوء من كل خير، أحيانًا تحاول تطلع على حكم مسألة من مسائل في كلام الفقهاء وتحاول هذا ما تجد وإذا هي في القرآن موجودة، والله عز وجل يقول: ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]؛ ولهذا القرآن فيه كنوز عظيمة، حتى الإنسان يقف أحيانًا يتأمل ما وجه ارتباط هذا بهذا؟ أو ما وجه هذه الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو ما أشبه ذلك؟ فعليك بالتفسير. * طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، هل يبدأ الطالب من البداية بداية التفسير أو (...)؟ * الشيخ: هو عاد لازم يأخذ هذا وهذا، حتى لو أراد أن يقرأ بالتفسير وحده بدون أن يسبق له شيء من العلم الآلة علم اللغة بأنواعه يمكن لا يدرك شيئًا. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة ٤١]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ [المائدة ٤١] المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وفي قوله: ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾ قراءتان: ﴿يُحْزِنْ﴾ و﴿يَحْزُنْ﴾، وكلاهما سبعيتان صحيحتان، أي: لا يجعلك تحزن من قول هؤلاء الذين يسارعون في الكفر، يسارعون فيه أي: يتسابقون فيه. والكفر هو في اللغة: الستر، ومنه سمي الكافور أو الكفُرَّى الذي هو وعاء طلع النخل؛ لأنه يستر الطلع الذي في جوفه، والمراد بالكفر هنا الكفر بالله عز وجل، والكفر بالله يدور على شيئين: إما الجحود والإنكار يعني التكذيب، وإما الاستكبار مع الإقرار، كفر إبليس من أي النوعين؟ من الاستكبار؛ لأنه مؤمن لكنه مستكبر -والعياذ بالله- وكفر قريش الذين يقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص ٥] هذا كفر إنكار وتكذيب. ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ (من) هنا بيان للاسم الموصول الأول الذي هو ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ﴾. ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ ﴿الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلقة بـ﴿قَالُوا﴾ أي: قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم، وهذا الوصف ينطبق تمامًا على المنافقين، كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة ٨]، وهؤلاء في الكفر كاليهود والنصارى كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ [الحشر ١١] يعني اليهود. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ بيَّن الله تعالى أحوال اليهود الذين هادوا وهم الذين قالوا: ﴿إِنَّا هُدْنَا﴾ [الأعراف ١٥٦] أي: رجعنا إليك من المعصية إلى الطاعة، ويسمون: الذين هادوا، ويسمون: اليهود، أما التسمية الأولى فبقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾، وأما الثانية فنسبة إلى أبيهم يهوذا. يقول عز وجل: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي: قابلون له، يقبلون الكذب من أحبارهم الذين يقولون: إن محمدًا ليس بنبي، وهذا من أكذب ما يكون، بل هو أكذب شيء بعد الكذب على الله عز وجل. ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ تحتمل معنيين: المعنى الأول: أنهم سماعون للكذب ممن أتوك وممن لم يأتوك، فهم يستجيبون للكذب من أي إنسان سواء كان يأتي إليك أو لا يأتي. ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي: سماعون لكذبهم، فيكون الله عز وجل ذكر أن هؤلاء الذين هادوا يسمعون الكذب مطلقًا، ويسمعون لقوم آخرين لم يأتوا إلى الرسول ﷺ. والاحتمال الثاني في قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي: يسمعون منك ليوصلوه إلى قوم آخرين، فكأنهم واسطة بين الرسول ﷺ وبين من ينقلون إليه الخبر، يعني: سماعون لك من أجل أيش؟ من أجل قوم آخرين يوصلون ما تقوله إليهم، فإذا أوصلوه إلى هؤلاء القوم الآخرين حرفوه وبدلوه وغيروه؛ ولهذا قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ يعني أن القوم الآخرين -وهم أحبار اليهود الذين ينقل إليهم العامة ما يسمعونه من النبي ﷺ- هؤلاء يحرفون الكلم من بعد مواضعه، والتحريف: بمعنى التغيير؛ أي يغيرونه عن وجهه، فيكون المرادُ كذا المرادَ كذا على خلاف ما أراد الله ورسوله. وهل المراد أنهم يحرفون الكلم من التوراة، أو الكلم من التوراة وغيرها؟ الأولى العموم، فهم يحرفون الكلم من التوراة ويحرفون الكلم من القرآن. ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ يعين لهم شيئًا معينًا؛ حكمًا معينًا، يعينون لهؤلاء القوم الذين ينقلون إليهم الأخبار شيئًا معينًا حكمًا معينًا فيقولون: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ ممن؟ من محمد ﷺ فخذوه واقبلوه، ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ يعني: احذروا أن تقبلوا، فصار الآن هؤلاء الأحبار الذين ينقل إليهم الكلام من الرسول ﷺ هؤلاء يقولون لأتباعهم: اعرضوا هذا على محمد، فإن أعطاكم إياه فخذوه، وإلا فاحذروا. وضرب المفسرون لهذا مثلًا بقصة الرجم: كان الرجم -أعني رجم الزاني- محكومًا به في التوراة، وكانت بنو إسرائيل ترجم من زنى، فلما كثر الزنا في أشرافهم صعب عليهم أن يرجموا أشرافهم فقالوا: لا نرجم ولكننا نحمم الوجه؛ أي: نسوده، ونركب الزانيين على حمار كل واحد منهما مستدبر الآخر، ونطوف بهم في الأسواق فقط ولا نرجم، فقدر الله عز وجل أن يزني منهم -أي من اليهود- رجل وامرأة، فرفعوا الأمر إلى النبي ﷺ وقال أحبارهم: إن آتاكم محمد هذا، يعني إيه؟ * طلبة: تسويد الوجه. * الشيخ: تسويد الوجه، تحميم الوجه والطواف بهم في البلد فخذوه، وإن لم يعطكم وأمر بالرجم فاحذروا، وهذا مثال وليس حصرًا لمعنى الآية، بل المراد أنهم يعينون -أي الأحبار- أحكامًا لعامتهم ويقولون: إن حكم بها محمد فاقبلوها، وإن لم يحكم فاحذروا. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ﴾ وتحريفهم الكلم هنا تحريف معنوي، بمعنى أنهم جعلوا الرجم منسوخًا وأنه لا يجب العمل به، وسنذكر -إن شاء الله تعالى في الفوائد- أن التحريف ينقسم إلى قسمين. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ أي: ضلاله، ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ وهذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، يعني أن الله إذا أراد فتنة أحد فإنه لا يستطيع أحد من الخلق أن يرد هذه الإرادة بل لا بد أن تقع، ولكن هل إرادة الله لفتنة أحد من الناس مبنية على غير حكمة؟ لا، بل هي مبنية على حكمة، الحكمة ذكرت في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، إذن هم السبب، فلما علم الله أن ليس في قلوبهم خير أزاغهم الله، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال ٧٠]. إذن نقول: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ أي: إضلاله، ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾، هذا فيمن هو أهل للإضلال، كما قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]. قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ (أولئك) المشار إليهم هؤلاء اليهود الذين لا يقبلون من الحق إلا ما وافق أهواءهم. ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ يعني: ما نريد من الحكم فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: هؤلاء القوم الذين لا يقبلون من الحق إلا ما وافق أهواءهم، ﴿الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ والإشارة بما يدل على البعد ليس لرفع شأنهم ولكن لإبعادهم عن الثناء وأن يكونوا على حق. ﴿لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من أي شيء؟ من الشك والشرك والإلحاد وغير ذلك، وإنما ذكر القلوب؛ لأن القلوب هي محل الصلاح والفساد، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.]]. ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وعار، وذلهم وعارهم؛ أما من جهة اليهود فبقتالهم والغلبة عليهم، وقد حصل -والحمد لله- ذلك، فإن قبائل اليهود الذين في المدينة كلهم منهم من قتل ومنهم من جلي، فهذا خزي في الدنيا، المنافقون خزيهم أن الله سبحانه وتعالى بيَّنهم وكشف عوارهم، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد ٣٠]، وكان النبي ﷺ قد علم أسماء أناس من المنافقين وأخبر بهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه؛ ولهذا يقال: إنه صاحب السر. ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو عذاب النار -نسأل الله أن يجيرنا وإياكم منها- والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. * ففي هذه الآية الكريمة فوائد؛ منها: الشهادة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه رسول؛ لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾. * ومنها: تعظيم الله تعالى لرسوله؛ لأن صيغة النداء على هذا الوجه من علامة التعظيم، كما تقول: يا أيها الملك، يا أيها الأمير، يا أيها الكريم، وما أشبه ذلك، فهذه الصيغة -يعني النداء- تفيد التعظيم. * ومن فوائد هذه الآية: تقوية النبي ﷺ، أي تقوية قلبه وتسلية بقوله: ﴿لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ﴾ يعني: لا يهمنك أمرهم، فإن عاقبتهم أن لهم في الدنيا خزيًا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الناس يختلفون في الكفر؛ فمنهم من يسارع فيه بخطى حثيثة، ومنهم من هو دون ذلك؛ لأنه قسم ﴿لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ يعني: وهناك أناس لا يسارعون فيه، فالداعي إلى الكفر هذا مسارع فيه أو لا؟ مسارع فيه، وغير الداعية غير مسارع لكن الداعي مسارع فيه وهو واضح. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى أن المدار بالإيمان على القلب؛ لقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾، فالإيمان باللسان ليس إيمانًا حتى يكون مبنيًّا على أيش؟ على إيمان القلب، وإلا فإنه لا ينفع صاحبه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإيمان محله القلب؛ لقوله: ﴿وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾. ولكن إذا قال قائل: ألسنا مأمورين بأن نأخذ الناس بظواهرهم؟ فالجواب: بلى، نحن مأمورون بهذا، لكن من تبين نفاقه فإننا نعامله بما تقتضي حاله، كما لو كان معلنًا للنفاق فهذا لا نسكت عنه، أما من لم يعلن بنفاقه فإنه ليس لنا إلا بالظاهر والباطن إلى الله. كما أننا لو رأينا رجلًا كافرًا فإننا نعامله بأيش؟ بمعاملة الكافر ولا نقول: إننا لا نكفره بعينه، كما اشتبه على بعض الطلبة الآن يقولون: إذا رأيت الذي لا يصلي لا تكفره بعينه، كيف لا أكفر بعينه؟ إذا رأيت الذي يسجد للصنم لا تكفره بعينه؛ لأنه ربما يكون قلبه مطمئنًّا بالإيمان، فيقال: هذا غلط عظيم، نحن نحكم بماذا؟ بالظاهر، فإذا وجدنا شخصًا لا يصلي قلنا: هذا كافر بملء أفواهنا، وإذا رأينا من يسجد للصنم قلنا: هذا كافر ونعيِّنه ونلزمه بأحكام الإسلام، فإن لم يفعل قتلناه، أما في أمر الآخرة فنعم لا نشهد لأحد معين لا بجنة ولا بنار إلا من شهد له النبي ﷺ أو جاء ذلك في القرآن. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من اليهود من هو سماع للكذب نَقَّالٌ للكذب، بمعنى أنه يصدق الكذب ولا يتحرى فيه ويقبله وأيضًا ينقل الكذب، وهذا شيء مشاهد. * فينبني على هذه الفائدة: أن من كان هذه حاله ففيه شبه من اليهود، الذي يقبل الكذب ويتحدث به ويأخذه مُسَلَّمًا مشابه لليهود، والذي ينقل الكذب كذلك مشابه لليهود، فمن كذب أو صدق بالكذب فإنه مشابه لليهود بلا شك، وهذا يقتضي الحذر من هذا الخلق الذميمة. * ومن فوائد هذه الآية: تعاظم اليهود -أعني أحبارهم- واستكبارهم عن الحضور إلى النبي ﷺ، وكأنهم يظنون أنهم إذا حضروا فهذا ذل وصغار، لكن الله أذلهم وأصغرهم -والحمد لله- بعدم إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان هذا الوصف الذميم لليهود وهو تحريف الكلم، والمراد بالكلم هنا الوحي الذي جاءت به الرسل: التوراة والقرآن وغيرها. قال العلماء والتحريف نوعان: الأول: التحريف المعنوي، والقائلون به كثير، والثاني: التحريف اللفظي والقائلون به قليل. أما الأول التحريف المعنوي فهو: أن يصرف كلام الله وكلام رسوله ﷺ إلى غير ما أراد الله ورسوله، سواء في الأمور العقدية أو في الأحكام الفقهية، إذا صرف النص عما لا يريد الله ورسوله فإنه محرف للكلم، وهذا -كما قلت لكم- كثير. الثاني التحريف اللفظي: هو أيضًا محرم لكنه قليل؛ وذلك لأن المحرف تحريفًا لفظيًّا إن كان لا يتغير به المعنى فلن نقيم عليه؛ لأنه لا يستفيد، ولكن سوف يظهر الناس عليه حتى العامي يرد عليه، وإن كان يتغير به المعنى فقد جمع بين التحريف اللفظي والتحريف المعنوي. فالذي يقول: إن الله استوى على العرش لكن معنى استوى استولى، هذا محرف تحريفًا؟ * الطلبة: معنويًّا. * الشيخ: معنويًّا، والذي قرأ: وكلم اللَّهَ موسى تكليمًا، هذا محرف تحريفًا لفظيًّا ومعنويًّا؛ لأنه إذا قال: كلم اللَّهَ موسى تكليمًا صار الكلام مِن؟ مِن موسى، وهذا تحريف معنوي، وإذا نصب لفظ الجلالة فهو تحريف لفظي، والذي يقول: الحمد لله رَبَّ العالمين، محرف تحريفًا لفظيًّا، يعني المعنى لا يختلف لكن اللفظ يختلف. وكل أنواع التحريف المعنوي واللفظي محرم، ثم إن تعمد الشيء مع علمه بمراد الله ورسوله فهذا قد يصل إلى الكفر -والعياذ بالله- لأنه قال على الله ما يعلم أن الحق في خلافه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن التحريف المذموم هو الذي يقع بعد معرفة الإنسان للحق؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ وفي الآية الأخرى: ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، فهم يريدون أن يزيلوا الكلم عن مواضعه، أما الإنسان الذي تأول بتأويل سائغ فإنه لا يذم، ولا يعد فعله تحريفًا يأثم به، وإن كنا قد نعده تحريفًا نأثم به إذا كنا وافقناه ونعلم أنه على غير صواب. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من حرف الكلم عن مواضعه من هذه الأمة ففيه شبه؟ * طالب: باليهود. * الشيخ: ففيه شبه باليهود، فيقتضي التحذير من تحريف الكلم عن مواضعه؛ لئلا يقع الإنسان في مشابهة اليهود. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن اليهود لا يقبلون من الحق إلا ما وافق أهواءهم؛ لقوله: ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾. * ومن فوائدها: ذم أولئك الذين لا يقبلون من الحق إلا ما وافق أهواءهم وإذا لم يوافق أهواءهم ذهبوا يتطلبون الرخص من هذه الأمة، فإن كثيرًا من الناس على هذه المنوال إذا أفتي بما تطمئن إليه نفسه قبل، وإلا ذهب يطلب آخرين يفتونه بما يشتهي، فهذا نقول: إن فيه شبهًا من اليهود. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: شدة كراهة أحبار اليهود للحق؛ لقوله: ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ لم يقل: فلا تأخذوه، قال: ﴿فَاحْذَرُوا﴾، وهذا أشد وقعًا من قولهم أيش؟ فلا تأخذوه ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾، وكان مقتضى المقابلة أن يقال: وإن لم تؤتوه فلا تأخذوه، لكنهم قالوا: احذروا، وهو أشد وقعًا من قولهم: لا تأخذوه. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات إرادة الله عز وجل وأنها شاملة حتى لإرادة الإنسان؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾. واعلم أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وهي التي بمعنى المحبة، وإرادة كونية وهي التي بمعنى المشيئة، فهنا ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ هي إرادة كونية؛ أي: من يشأ الله فتنته. وفي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء ٢٧] هذه إرادة شرعية؛ لأنه لو كانت إرادة قدرية لتاب الله على جميع الناس لكنها إرادة شرعية، بمعنى أن الله يحب أن يتوب عليهم، إذن الفرق بين الإرادتين من حيث حقيقتيهما أن الإرادة الشرعية بمعنى؟ * طالب: الإرادة الشرعية قد تقع وقد لا تقع. * الشيخ: ما وصلنا إلى تقع ولا تقع، والإرادة الكونية؟ * الطالب: مشيئة. * الشيخ: بمعنى المشيئة، الفرق بينهما: الإرادة الكونية لا بد من وقوع مراد الله بها، والإرادة الشرعية قد يقع وقد لا يقع، والفرق الثاني: أن الإرادة الكونية تكون فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، والإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله. فإذا قال قائل: هل الله يريد الكفر؟ قلنا: فيه تفصيل، بالإرادة الكونية نعم، بالإرادة الشرعية لا، وبه نعرف ضلال من يقول: كل ما وقع فهو محبوب إلى الله، وهذا غلط؛ لأننا لو أخذنا بهذا لزم من ذلك أن الله يحب الكفر الفسوق والعصيان وهو -عز وجل- لا يحب هذا ولا يحب الفساد. ولو قال قائل: الإيمان هل هو مراد لله كونًا أو شرعًا؟ * طلبة: شرعًا. * الشيخ: فالجواب: إن وقع؟ * طلبة: كونًا وشرعًا. * الشيخ: فهو مراد كونًا وشرعًا، وإن لم يقع فهو مراد شرعًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد يملك أن يغير مراد الله؛ لقوله: ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن المدار على الصلاح والفساد على القلب؛ لقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب على الإنسان المستدل أن ينظر إلى النصوص من جميع الجوانب، وذلك أنك إذا نظرت إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ لقلت: إن إرادة الله تعالى لتطهير القلب مجرد مشيئة، لكن إذا قيدتها بالنصوص الأخرى عرفت أن عدم إرادة الله تطهير قلوب هؤلاء؛ لأنهم ليسوا أهلًا لذلك، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، وكما يتضح هذا جليًّا في قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنها شاهد واضح لقول النبي ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.]]. * ومن فوائدها: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا أن يطهر قلبه وأن يعتني بأعمال القلب، واعتناء المرء بأعمال القلب يجب أن يكون أشد من اعتنائه بعمل الجسد؛ لأن عمل الجسد في الواقع يقع من كل إنسان؛ من مؤمن ومنافق، لكن عمل القلب هو المهم، أسأل الله أن يصلح قلوبنا جميعًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بشارة النبي عليه الصلاة والسلام بأن هؤلاء القوم لهم الذل والعار في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. * ومنها؛ أي من فوائد الآية: الوعيد لهؤلاء لعلهم يرجعون، فإن الوعيد على المعصية من أسباب العدول عنها بحيث لا يقدم عليها، وإذا أقدم استعتب وتاب. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن لبني آدم دارين، هما؟ * طالب: الدنيا والأخرة. * الشيخ: الدنيا والآخرة، الدنيا يكون عذابها إما من الله، وإما من عباد الله ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة ١٤] هذا على أيدي الرسول وأصحابه، وقد يكون من الله عز وجل كما إذا ابتلوا بالأمراض والقحط والجذب وغير ذلك، عذاب الآخرة من أين؟ من الله وحده، لا أحد يستطيع أن يعذب أحدًا في الآخرة ولا أن يثيبه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب