الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ خُوطِبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِعُنْوانِ الرِّسالَةِ لِلتَّشْرِيفِ والإشْعارِ بِما يُوجِبُ عَدَمَ الحُزْنِ. والمُسارَعَةُ في الشَّيْءِ: الوُقُوعُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ ورَغْبَةٍ، وإيثارُ كَلِمَةِ " في " عَلى كَلِمَةٍ " إلى " الواقِعَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ﴾ إلَخْ؛ لِلْإيماءِ إلى أنَّهم مُسْتَقِرُّونَ في الكُفْرِ لا يَبْرَحُونَهُ، وإنَّما يَنْتَقِلُونَ بِالمُسارَعَةِ عَنْ بَعْضِ فُنُونِهِ وأحْكامِهِ إلى بَعْضٍ آخَرَ مِنها، كَإظْهارِ مُوالاةِ المُشْرِكِينَ، وإبْرازِ آثارِ الكَيْدِ لِلْإسْلامِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ فَإنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى الخَيْرِ، مُسارِعُونَ في أنْواعِهِ وأفْرادِهِ، والتَّعْبِيرُ عَنْهم بِالمَوْصُولِ لِلْإشارَةِ بِما في حَيِّزِ صِلَتِهِ إلى مَدارِ الحُزْنِ، وهَذا وإنْ كانَ بِحَسَبِ الظّاهِرِ نَهْيًا لِلْكَفَرَةِ عَنْ أنْ يُحْزِنُوهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمُسارَعَتِهِمْ في الكُفْرِ، لَكِنَّهُ في الحَقِيقَةِ نَهْيٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنِ التَّأثُّرِ مِن ذَلِكَ، والمُبالاةِ بِهِمْ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ وآكَدِهِ، فَإنَّ النَّهْيَ عَنْ أسْبابِ الشَّيْءِ ومَبادِيهِ المُؤَدِّيَةِ إلَيْهِ، نَهْيٌ عَنْهُ بِالطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ، وقَلْعٌ لَهُ مِن أصْلِهِ، وقَدْ يُوَجَّهُ النَّهْيُ إلى المُسَبِّبِ، ويُرادُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ، كَما في قَوْلِهِ: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا، يُرِيدُ: نَهْيَ مُخاطَبِهِ عَنِ الحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقُرِئَ: ( لا يُحْزِنْكَ ) مِن أحْزَنَهُ، مَنقُولًا مِن حَزِنَ بِكَسْرِ الزّاءِ. وقُرِئَ: ( يُسْرِعُونَ ) يُقالُ: أسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ؛ أيْ: وقَعَ فِيهِ سَرِيعًا؛ أيْ: لا تَحْزَنْ ولا تُبالِ بِتَهافُتِهِمْ في الكُفْرِ بِسُرْعَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأفْواهِهِمْ﴾ بَيانٌ لِلْمُسارِعِينَ في الكُفْرِ. وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن فاعِلِ يُسارِعُونَ. وقِيلَ: مِنَ المَوْصُولِ؛ أيْ: كائِنِينَ مِنَ الَّذِينَ ... إلَخْ. والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقالُوا لا بِآمَنّا. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن ضَمِيرِ " قالُوا " . وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى " قالُوا " . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ عَطْفٌ عَلى " مِنَ الَّذِينَ قالُوا " ... إلَخْ، وبِهِ يَتِمُّ بَيانُ المُسارِعِينَ في الكُفْرِ بِتَقْسِيمِهِمْ إلى قِسْمَيْنِ: المُنافِقِينَ واليَهُودِ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ راجِعٍ إلى الفَرِيقَيْنِ، أوْ إلى المُسارِعِينَ، وأمّا رُجُوعُهُ إلى الَّذِينَ هادُوا فَمُخِلٌّ بِعُمُومِ (p-37)الوَعِيدِ الآتِي ومَبادِيهِ لِلْكُلِّ، كَما سَتَقِفُ عَلَيْهِ، وكَذا جُعِلَ قَوْلُهُ: " ومِنَ الَّذِينَ " ... إلَخْ، خَبَرًا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: " سَمّاعُونَ " صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: ومِنهم قَوْمٌ سَمّاعُونَ إلَخْ؛ لِأدائِهِ إلى اخْتِصاصِ ما عُدِّدَ مِنَ القَبائِحِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ الغَوائِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ بِهِمْ؛ فالوَجْهُ ما ذُكِرَ أوَّلًا؛ أيْ: هم سَمّاعُونَ، واللّامُ إمّا لِتَقْوِيَةِ العَمَلِ، وإمّا لِتَضْمِينِ السَّماعِ مَعْنى القَبُولِ، وإمّا لامُ " كَيْ " والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، والمَعْنى: هم مُبالِغُونَ في سَماعِ الكَذِبِ، أوْ في قَبُولِ ما يَفْتَرِيهِ أحْبارُهم مِنَ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَحْرِيفِ كِتابِهِ، أوْ سَمّاعُونَ أخْبارَكم وأحادِيثَكم لِيَكْذِبُوا عَلَيْكم بِأنْ يَمْسَخُوها بِالزِّيادَةِ والنَّقْصِ، والتَّبْدِيلِ والتَّغْيِيرِ، أوْ أخْبارَ النّاسِ وأقاوِيلَهُمُ الدّائِرَةَ فِيما بَيْنَهم، لِيَكْذِبُوا فِيها بِأنْ يُرْجِفُوا بِقَتْلِ المُؤْمِنِينَ، وانْكِسارِ سَراياهم، ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا يُضِرُّ بِهِمْ. وَأيّا ما كانَ فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ جارِيَةٌ مَجْرى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، فَإنَّ كَوْنَهم سَمّاعِينَ لِلْكَذِبِ عَلى الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ، وابْتِناءَ أُمُورِهِمْ عَلى ما لا أصْلَ لَهُ مِنَ الأباطِيلِ والأراجِيفِ، مِمّا يَقْتَضِي عَدَمَ المُبالاةِ بِهِمْ وتَرْكَ الِاعْتِدادِ بِما يَأْتُونَ، وما يَذَرُونَ لِلْقَطْعِ بِظُهُورِ بُطْلانِ أكاذِيبِهِمْ، واخْتِلالِ ما بَنَوْا عَلَيْها مِنَ الأفاعِيلِ الفاسِدَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى الخِزْيِ والعَذابِ كَما سَيَأْتِي، وقُرِئَ: ( سَمّاعِينَ لِلْكَذِبِ ) بِالنَّصْبِ عَلى الذَّمِّ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ خَبَرٌ ثانٍ لِلْمُبْتَدَإ المُقَدَّرِ، مُقَرِّرٌ لِلْأوَّلِ ومُبَيِّنٌ لِما هو المُرادُ بِالكَذِبِ عَلى الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ، واللّامُ مِثْلُ ما في " سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ " في الرُّجُوعِ إلى مَعْنى مِن؛ أيْ: قَبِلَ مِنهُ حَمْدَهُ، والمَعْنى: مُبالِغُونَ في قَبُولِ كَلامِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وأمّا كَوْنُها لامَ التَّعْلِيلِ بِمَعْنى: سَمّاعُونَ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِأجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ وجَّهُوهم عُيُونًا، لِيُبَلِّغُوهم ما سَمِعُوا مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أوْ كَوْنُها مُتَعَلِّقَةً بِالكَذِبِ عَلى أنَّ " سَمّاعُونَ " الثّانِيَ مُكَرَّرٌ لِلتَّأْكِيدِ، بِمَعْنى: سَمّاعُونَ لِيَكْذِبُوا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَلا يَكادُ يُساعِدُهُ النَّظْمُ الكَرِيمُ أصْلًا. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾ صِفَةٌ أُخْرى لِقَوْمٍ؛ أيْ: لَمْ يَحْضُرُوا مَجْلِسَكَ، وتَجافَوْا عَنْكَ تَكَبُّرًا وإفْراطًا في البَغْضاءِ. قِيلَ: هم يَهُودُ خَيْبَرَ، والسَّمّاعُونَ: بَنُو قُرَيْظَةَ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ﴾ صِفَةٌ أُخْرى لِقَوْمٍ وُصِفُوا أوَّلًا بِمُغايَرَتِهِمْ لِلسَّمّاعِينَ؛ تَنْبِيهًا عَلى اسْتِقْلالِهِمْ وأصالَتِهِمْ في الرَّأْيِ والتَّدْبِيرِ. ثُمَّ بِعَدَمِ حُضُورِهِمْ مَجْلِسَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيذانًا بِكَمالِ طُغْيانِهِمْ في الضَّلالِ، ثُمَّ بِاسْتِمْرارِهِمْ عَلى التَّحْرِيفِ بَيانًا لِإفْراطِهِمْ في العُتُوِّ والمُكابَرَةِ، والِاجْتِراءِ عَلى الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وتَعْيِينًا لِلْكَذِبِ الَّذِي سَمِعَهُ السَّمّاعُونَ؛ أيْ: يُمِيلُونَهُ ويُزِيلُونَهُ عَنْ مَواضِعِهِ بَعْدَ أنْ وضَعَهُ اللَّهُ تَعالى فِيها؛ إمّا لَفْظًا بِإهْمالِهِ أوْ تَغْيِيرِ وضْعِهِ، وإمّا مَعْنًى بِحَمْلِهِ عَلى غَيْرِ المُرادِ وإجْرائِهِ في غَيْرِ مَوْرِدِهِ. وقِيلَ: الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ ناعِيَةٌ عَلَيْهِمْ شَنائِعَهم. وقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ راجِعٌ إلى القَوْمِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَقُولُونَ﴾ كالجُمْلَةِ السّابِقَةِ في الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ يُحَرِّفُونَ، وأمّا تَجْوِيزُ كَوْنِها صِفَةً لِسَمّاعُونَ، أوْ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ، فِيما لا سَبِيلَ إلَيْهِ أصْلًا، كَيْفَ لا وأنَّ مَقُولَ القَوْلِ ناطِقٌ بِأنَّ قائِلَهُ مِمَّنْ لا يَحْضُرُ مَجْلِسَ الرَّسُولِ ﷺ، والمُخاطَبُ بِهِ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يَقُولَهُ السَّمّاعُونَ المُتَرَدِّدُونَ إلَيْهِ ﷺ لِمَن لا يَحُومُ حَوْلَهُ قَطْعًا، وادِّعاءُ قَوْلِ السَّمّاعِينَ لِأعْقابِهِمُ المُخالِطِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، تَعَسُّفٌ ظاهِرٌ مُخِلٌّ بِجَزالَةِ النَّظْمِ الكَرِيمِ، والحَقُّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ أنَّ المُحَرِّفِينَ والقائِلِينَ هُمُ القَوْمُ الآخَرُونَ؛ أيْ: يَقُولُونَ لِأتْباعِهِمُ السَّمّاعِينَ لَهم عِنْدَ إلْقائِهِمْ إلَيْهِمْ أقاوِيلَهُمُ الباطِلَةَ مُشِيرِينَ إلى كَلامِهِمُ الباطِلِ. ﴿إنْ أُوتِيتُمْ﴾ مِن جِهَةِ الرَّسُولِ ﷺ . ﴿هَذا فَخُذُوهُ﴾ واعْمَلُوا بِمُوجَبِهِ فَإنَّهُ الحَقُّ. ﴿وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾ بَلْ أُوتِيتُمْ غَيْرَهُ. (p-38) ﴿فاحْذَرُوا﴾؛ أيْ: فاحْذَرُوا قَبُولَهُ وإيّاكم وإيّاهُ، وفي تَرْتِيبِ الأمْرِ بِالحَذَرِ عَلى مُجَرَّدِ عَدَمِ إيتاءِ المُحَرَّفِ مِنَ المُبالَغَةِ في التَّحْذِيرِ ما لاك يَخْفى. رُوِيَ «أنَّ شَرِيفًا مِن خَيْبَرَ زَنى بِشَرِيفَةٍ وهُما مُحْصَنانِ، وحَدُّهُما الرَّجْمُ في التَّوْراةِ، فَكَرِهُوا رَجْمَهُما لِشَرَفِهِما، فَبَعَثُوا رَهْطًا مِنهم إلى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَسْألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، وقالُوا: إنْ أمَرَكم بِالجَلْدِ والتَّحْمِيمِ فاقْبَلُوا، وإنْ أمَرَكم بِالرَّجْمِ فَلا تَقْبَلُوا، وأرْسَلُوا الزّانِيَيْنِ مَعَهم فَأمَرَهم بِالرَّجْمِ، فَأبَوْا أنْ يَأْخُذُوا بِهِ، فَقالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: اجْعَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَهُمُ ابْنَ صُورِيا، ووَصَفَهُ لَهُ، فَقالَ ﷺ: " هَلْ تَعْرِفُونَ شابًّا أبْيَضَ أعْوَرَ يَسْكُنُ فَدَكَ يُقالُ لَهُ: ابْنُ صُورِيا " ؟ قالُوا: نَعَمْ، وهو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ عَلى وجْهِ الأرْضِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى مُوسى بْنِ عِمْرانَ في التَّوْراةِ، قالَ: " فَأرْسَلُوا إلَيْهِ "، فَفَعَلُوا فَأتاهم، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: " أنْتَ ابْنُ صُورِيا " ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ ﷺ: " وأنْتَ أعْلَمُ اليَهُودِ " ؟ قالَ: كَذَلِكَ يَزْعُمُونَ. قالَ لَهم: " أتَرْضَوْنَ بِهِ حَكَمًا " ؟ قالُوا: نَعَمْ. فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " أنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو، الَّذِي فَلَقَ البَحْرَ وأنْجاكم وأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الغَمامَ وأنْزَلَ عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى، ورَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ وأنْزَلَ عَلَيْكُمُ التَّوْراةَ فِيها حَلالُهُ وحَرامُهُ، هَلْ تَجِدُونَ في كِتابِكُمُ الرَّجْمَ عَلى مَن أُحْصِنَ " ؟ قالَ: نَعَمْ، والَّذِي ذَكَّرْتَنِي بِهِ لَوْلا خَشِيتُ أنْ يَحْرِقَنِي التَّوْراةَ إنْ كَذَبْتُ، أوْ غَيَّرْتُ ما اعْتَرَفْتُ لَكَ، ولَكِنْ كَيْفَ هي في كِتابِكَ يا مُحَمَّدُ ؟ قالَ ﷺ: " إذا شَهِدَ أرْبَعَةُ رَهْطٍ عُدُولٍ أنَّهُ أدْخَلَ فِيها كَما يُدْخَلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ، وجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ " . قالَ ابْنُ صُورِيا: والَّذِي أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى، هَكَذا أنْزَلَ اللَّهُ في التَّوْراةِ عَلى مُوسى. فَوَثَبَ عَلَيْهِ سِفْلَةُ اليَهُودِ، فَقالَ: خِفْتُ إنْ كَذَبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ عَلَيْنا العَذابُ، ثُمَّ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أشْياءَ كانَ يَعْرِفُها مِن أعْلامِهِ، فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، النَّبِيُّ الأُمِّيُّ العَرَبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ المُرْسَلُونَ. وأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالزّانِيَيْنِ فَرُجِما عِنْدَ بابِ المَسْجِدِ» . ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾؛ أيْ: ضَلالَتَهُ، أوْ فَضِيحَتَهُ كائِنًا مَن كانَ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ المَذْكُورُونَ انْدِراجًا أوَّلِيًّا، وعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ لِلْإشْعارِ بِكَمالِ ظُهُورِهِ واسْتِغْنائِهِ عَنْ ذِكْرِهِ. ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ﴾ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ. ﴿مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ في دَفْعِها، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، ومُبَيِّنَةٌ لِعَدَمِ انْفِكاكِهِمْ عَنِ القَبائِحِ المَذْكُورَةِ أبَدًا. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارَةٌ إلى المَذْكُورِينَ مِنَ المُنافِقِينَ واليَهُودِ، وما في اسْمِ الإشارَةِ مِن مَعْنى البُعْدِ؛ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الفَسادِ، وهو مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾؛ أيْ: مِن رِجْسِ الكُفْرِ وخَبَثِ الضَّلالَةِ، لِانْهِماكِهِمْ فِيهِما، وإصْرارِهِمْ عَلَيْهِما، وإعْراضِهِمْ عَنْ صَرْفِ اخْتِيارِهِمْ إلى تَحْصِيلِ الهِدايَةِ بِالكُلِّيَّةِ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ وصْفُهم بِالمُسارَعَةِ في الكُفْرِ أوَّلًا، وشَرْحُ فَنُونِ ضَلالاتِهِمْ آخِرًا، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنٌ لِكَوْنِ إرادَتِهِ تَعالى لِفِتْنَتِهِمْ مَنُوطَةً بِسُوءِ اخْتِيارِهِمْ، وقُبْحِ صَنِيعِهِمُ المُوجِبِ لَها لا واقِعَةً مِنهُ تَعالى ابْتِداءً. ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ أمّا المُنافِقُونَ فَخِزْيُهم فَضِيحَتُهم، وهَتْكُ سُتْرَتِهِمْ بِظُهُورِ نِفاقِهِمْ فِيما بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وأمّا خِزْيُ اليَهُودِ فالذُّلُّ والجِزْيَةُ، والِافْتِضاحُ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ في كِتْمانِ نَصِّ التَّوْراةِ. وتَنْكِيرُ " خِزْيٌ " لِلتَّفْخِيمِ، وهو مُبْتَدَأٌ، و" لَهم " خَبَرُهُ، و" في الدُّنْيا " مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ مِنَ الِاسْتِقْرارِ، وكَذا الحالُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَهم في الآخِرَةِ﴾؛ أيْ: مِنَ الخِزْيِ الدُّنْيَوِيِّ. ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ هو الخُلُودُ في النّارِ، وضَمِيرُ " لَهم " في الجُمْلَتَيْنِ لِلْمُنافِقِينَ واليَهُودِ جَمِيعًا، لا اليَهُودِ خاصَّةً كَما قِيلَ، وتَكْرِيرُ " لَهم " مَعَ اتِّحادِ المَرْجِعِ لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ والتَّأْكِيدِ، والجُمْلَتانِ اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِن تَفْصِيلِ أفْعالِهِمْ، وأحْوالِهِمُ المُوجِبَةِ لِلْعِقابِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَما لَهم مِنَ العُقُوبَةِ ؟ فَقِيلَ: لَهم في الدُّنْيا، الآيَةَ.(p-39)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب