الباحث القرآني
ولَمّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ كانَ مِن غَيْرِ شَكٍّ عِلَّةً لِعَدَمِ الحُزْنِ عَلى شَيْءٍ مِن أمْرِهِمْ؛ ولا مِن أمْرِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَصى شَيْئًا مِن هَذِهِ الأحْكامِ؛ كَما قالَ (تَعالى): ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ [الحديد: ٢٢]؛ إلى أنْ قالَ: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣]؛ فَقَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ﴾؛ أيْ: المُبَلِّغُ لِما أُرْسِلَ بِهِ - مَعْلُولٌ لِما قَبْلَهُ - وأدَلُّ دَلِيلٍ (p-١٣٨)عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ومَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ ﴿لا يَحْزُنْكَ﴾؛ أيْ: لا يُوقِعْ عِنْدَكَ شَيْئًا مِنَ الحُزْنِ صُنْعُ ﴿الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾؛ أيْ: يَفْعَلُونَ؛ في إسْراعِهِمْ في الوُقُوعِ فِيهِ غايَةَ الإسْراعِ؛ فِعْلَ مَن يُسابِقُ غَيْرَهُ؛ وفي تَبْيِينِهِمْ بِالمُنافِقِينَ وأهْلِ الكِتابِ بِشارَةٌ بِإتْمامِ النِّعْمَةِ عَلى العَرَبِ بِدَوامِ إسْلامِهِمْ؛ ونَصْرِهِمْ عَلَيْهِمْ؛ وقَدَّمَ أسْوَأ القِسْمَيْنِ؛ فَقالَ: ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا﴾؛ ولَمّا كانَ الكَلامُ هو النَّفْسِيَّ؛ أخْرَجَهُ بِتَقْيِيدِهِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾؛ مُعَبِّرًا لِكَوْنِهِمْ مُنافِقِينَ بِما مِنهُ ما هو أبْعَدُ عَنِ القَلْبِ مِنَ اللِّسانِ؛ فَهم إلى الحَيَوانِ أقْرَبُ مِنهم إلى الإنْسانِ؛ وزادَ ذَلِكَ بَيانًا بِقَوْلِهِ: ﴿ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾
ولَمّا بَيَّنَ المُسارِعِينَ بِالمُنافِقِينَ؛ عَطَفَ عَلَيْهِمْ قِسْمًا آخَرَ؛ هم أشَدُّ النّاسِ مُؤاخاةً لَهُمْ؛ فَقالَ: ﴿ومِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾؛ أيْ: الَّذِينَ عَرَفَتْ قُلُوبُهُمْ؛ وكَفَرَتْ ألْسِنَتُهُمْ؛ تَبَعًا لِمُخالَفَةِ قُلُوبِهِمْ لِما تَعْرِفُ؛ عِنادًا وطُغْيانًا؛ ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿سَمّاعُونَ﴾؛ أيْ: مُتَقَبِّلُونَ غايَةَ التَّقَبُّلِ؛ بِغايَةِ الرَّغْبَةِ؛ ﴿لِلْكَذِبِ﴾؛ أيْ: مِن قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ؛ يَأْتُونَكَ فَيَنْقُلُونَ عَنْكَ الكَذِبَ؛ ﴿سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾؛ أيْ: الصِّدْقِ؛ ثُمَّ وصَفَهم بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾؛ أيْ: لِعِلَّةٍ؛ وذَكَرَ الضَّمِيرَ لِإرادَةِ الكَلامِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ البُغْضُ عَلى (p-١٣٩)نِفاقِهِمْ؛ ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ﴾؛ أيْ: الَّذِي يَسْمَعُونَهُ عَنْكَ عَلى وجْهِهِ؛ فَيُبالِغُونَ في تَغْيِيرِهِ وإمالَتِهِ؛ بَعْدَ أنْ يَقِيسُوا المَعْنَيَيْنِ؛ المُغَيَّرَ؛ والمُغَيَّرَ إلَيْهِ؛ واللَّفْظَيْنِ؛ فَلا يَبْعُدُوا بِهِ؛ بَلْ يَأْخُذُونَ بِالكَلِمِ عَنْ حَدِّهِ وطَرَفِهِ إلى حَدٍّ آخَرَ قَرِيبٍ مِنهُ جِدًّا؛ ولِذَلِكَ أثْبَتَ الجارَّ؛ فَقالَ: ﴿مِن بَعْدِ﴾؛ أيْ: يُثْبِتُونَ الإمالَةَ مِن مَكانٍ قَرِيبٍ مِن ﴿مَواضِعِهِ﴾؛ أيْ: النّازِلَةِ عَنْ رُتْبَتِهِ؛ بِأنْ يَتَأوَّلُوهُ عَلى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ؛ أوْ يُثْبِتُوا ألْفاظًا غَيْرَ ألْفاظِهِ؛ قَرِيبَةً مِنها؛ فَلا يَبْعُدُ مِنها المَعْنى جِدًّا؛ وهَذا أدَقُّ مَكْرًا مِمّا في ”النِّساءِ“؛ وهو مِن ”الحَرْفُ“؛ وهو الحَدُّ؛ والطَّرَفُ؛ و”انْحَرَفَ عَنِ الشَّيْءِ“: مالَ عَنْهُ؛ قالَ الصَّغانِيُّ: وتَحْرِيفُ الكَلامِ عَنْ مَواضِعِهِ: تَغْيِيرُهُ؛ وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القَزّازُ: والتَّحْرِيفُ: التَّفْعِيلُ؛ مِن ”انْحَرَفَ عَنِ الشَّيْءِ“؛ إذا مالَ؛ فَمَعْنى حَرَّفْتُ الكَلامَ: أزَلْتُهُ عَنْ حَقِيقَةِ ما كانَ عَلَيْهِ في المَعْنى؛ وأبْقَيْتُ لَهُ شِبْهَ اللَّفْظِ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ﴾؛ وذَلِكَ أنَّ اليَهُودَ كانَتْ تُغَيِّرُ مَعانِيَ التَّوْراةِ بِالأشْباهِ؛ وفي الحَدِيثِ: «”يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ طاعُونٌ يُحَرِّفُ القُلُوبَ“؛» أيْ: يُغَيِّرُها عَنِ التَّوَكُّلِ؛ ويَدْعُوهم إلى الِانْتِقالِ عَنْ تِلْكَ البِلادِ؛ وحُكِيَ: ”حَرَفْتُهُ عَنْ جِهَتِهِ“ - أيْ: بِالتَّخْفِيفِ -؛ مِثْلُ: حَرَّفْتُهُ؛ والمُحارَفَةُ: المُقايَسَةُ؛ مِن ”المِحْرافُ“؛ وهو (p-١٤٠)المِيلُ؛ الَّذِي يُقاسُ بِهِ الجِراحُ؛ انْتَهى.
فالآيَةُ مِنَ الاحْتِباكِ: ”حَذَفَ مِنها أوَّلًا الإتْيانَ؛ وأثْبَتَ عَدَمَهُ ثانِيًا؛ لِلدَّلالَةِ عَلَيْهِ؛ وحَذَفَ مِنها ثانِيًا الصِّدْقَ؛ ودَلَّ عَلَيْهِ بِإثْباتِ ضِدِّهِ - الكَذِبِ - في الأُولى“.
ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما غَرَضُهم بِإثْباتِ الكَذِبِ؛ وتَحْرِيفِ الصِّدْقِ؟ قالَ: ﴿يَقُولُونَ﴾؛ أيْ: لِمَن يُوافِقُهُمْ؛ ﴿إنْ أُوتِيتُمْ﴾؛ أيْ: مِن أيِّ مُؤْتٍ كانَ؛ ﴿هَذا﴾؛ أيْ: المَكْذُوبِ؛ والمُحَرَّفِ؛ ﴿فَخُذُوهُ﴾؛ أيْ: اعْمَلُوا بِهِ؛ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾؛ أيْ: بِأنْ أُوتِيتُمْ غَيْرَهُ؛ أوْ سَكَتَ عَنْكُمْ؛ ﴿فاحْذَرُوا﴾؛ أيْ: بِأنْ تُؤْتَوْا غَيْرَهُ فَتَقْبَلُوهُ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أرادَ اللَّهُ فِتْنَتَهُمْ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يُرِدِ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ؛ ﴿فِتْنَتَهُ﴾؛ أيْ: أنَّ يَحِلُّ بِهِ ما يُمِيلُهُ عَنْ وجْهِ سَعادَتِهِ بِالكُفْرِ حَقِيقَةً؛ أوْ مَجازًا؛ ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْلى؛ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ؛ ﴿شَيْئًا﴾؛ أيْ: مِنَ الإسْعادِ؛ وإذا لَمْ تَمْلِكْ ذَلِكَ أنْتَ؛ وأنْتَ أقْرَبُ الخَلْقِ إلى اللَّهِ؛ فَمَن يَمْلِكُهُ؟!
ولَمّا كانَ هَذا أنْتَجَ لا مَحالَةَ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ﴾؛ أيْ: البُعَداءُ مِنَ الهُدى؛ ﴿الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ﴾؛ أيْ: وهو الَّذِي لا رادَّ لِما يُرِيدُهُ؛ ولا فاعِلَ لِما يَرُدُّهُ؛ فَهَذِهِ أشَدُّ الآياتِ عَلى المُعْتَزِلَةِ؛ ﴿أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾؛ أيْ: بِالإيمانِ؛ والجُمْلَةُ كالعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾؛ ولَمّا ثَبَتَ (p-١٤١)أنَّ قُلُوبَهم نَجِسَةٌ؛ أنْتَجَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾؛ أيْ: بِالذُّلِّ والهَوانِ؛ أمّا المُنافِقُونَ فَبِإظْهارِ الأسْرارِ؛ والفَضائِحِ الكِبارِ؛ وخَوْفِهِمْ مِنَ الدَّمارِ؛ وأمّا اليَهُودُ فَبِبَيانِ أنَّهم حَرَّفُوا؛ وبَدَّلُوا؛ وضَرْبِ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّغارِ؛ ﴿ولَهم في الآخِرَةِ﴾؛ الَّتِي مَن خَسِرَها فَلا رِبْحَ لَهُ بِوَجْهٍ ما؛ ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أيْ: لِعَظِيمِ ما ارْتَكَبُوهُ مِن هَذِهِ المَعاصِي المُتَضاعِفَةِ.
{"ayah":"۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا یَحۡزُنكَ ٱلَّذِینَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِینَ لَمۡ یَأۡتُوكَۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ یَقُولُونَ إِنۡ أُوتِیتُمۡ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُوا۟ۚ وَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا خِزۡیࣱۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











