الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - جَلَّ وعَزَّ -: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾، إنْ شِئْتَ قُلْتَ: ”يَحْزُنْكَ“، و”يَحْزَنْكَ“، بِالفَتْحِ، والضَّمِّ، أيْ: ”لا يَحْزُنْكَ مُسارَعَتُهم في الكُفْرِ إذْ كُنْتَ مَوْعُودًا بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ“، واللَّهُ أعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾، أيْ: ”لا تَحْزُنْكَ المُسارَعَةُ في الكُفْرِ مِنَ المُنافِقِينَ، ومِنَ الَّذِينَ هادُوا“، ثُمَّ قالَ: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾، هَذا تَمامُ الكَلامِ، ورَفْعُ سَمّاعُونَ مِن جِهَتَيْنِ، إحْداهُما: ”هم سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ“، أيْ: مُنافِقُونَ، واليَهُودُ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ، و”سَمّاعُونَ“، فِيهِ وجْهانِ - واللَّهُ أعْلَمُ -، أحَدُهُما أنَّهم مُسْمِعُونَ لِلْكَذِبِ، أيْ: قابِلُونَ لِلْكَذِبِ، لِأنَّ الإنْسانَ يَسْمَعُ الحَقَّ والباطِلَ، ولَكِنْ يُقالُ: ”لا تَسْمَعْ مِن فُلانٍ قَوْلَهُ“، أيْ: لا تَقْبَلْ قَوْلَهُ، ومِنهُ ”سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ“، أيْ: تَقَبَّلَ اللَّهُ حَمْدَهُ، فَتَأْوِيلُهُ أنَّهم يَقْبَلُونَ الكَذِبَ، والوَجْهُ الآخَرُ في سَمّاعُونَ أنَّ مَعْناهُ أنَّهم يَسْمَعُونَ مِنكَ لِيَكْذِبُوا عَلَيْكَ، وذَلِكَ أنَّهم إذا جالَسُوهُ تَهَيَّأ أنْ يَقُولُوا: ”سَمِعْنا مِنهُ كَذا وكَذا“ . (p-١٧٥)﴿سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾، أيْ: هم مُسْتَمِعُونَ مِنكَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾، أيْ: هم عُيُونٌ لِأُولَئِكَ الغُيَّبِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ رَفْعُ ”سَمّاعُونَ“، عَلى مَعْنى ”وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ“، فَيَكُونَ الإخْبارُ أنَّ السَّمّاعِينَ مِنهُمْ، ويَرْتَفِعُ ”مِنهم“، كَما تَقُولُ: ”في قَوْمِكَ عُقَلاءُ“، هَذا مَذْهَبُ الأخْفَشِ، وزَعَمَ سِيبَوَيْهِ أنَّ هَذا يَرْتَفِعُ بِالِابْتِداءِ. وَقَوْلُهُ: ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ﴾، أيْ: مِن بَعْدِ أنْ وضَعَهُ اللَّهُ مَوْضِعَهُ، أيْ: فَرَضَ فُرُوضَهُ، وأحَلَّ حَلالَهُ، وحَرَّمَ حَرامَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿إنْ أُوتِيتُمْ هَذا فَخُذُوهُ وإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا﴾، إنْ أُوتِيتُمْ هَذا الحُكْمَ المُحَرَّفَ فَخُذُوهُ، وإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا، أيْ: اِحْذَرُوا إنْ أفْتاكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِغَيْرِ ما حَدَّدْنا لَكُمْ، فاحْذَرُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهِ، وكانَ السَّبَبُ في هَذا فِيما رُوِيَ «أنَّ الزِّنا كَثُرَ في أشْرافِ اليَهُودِ وخَيْبَرَ، وكانَ في التَّوْراةِ أنَّ عَلى المُحْصَنَيْنِ الرَّجْمَ، فَزَنى رَجُلٌ وامْرَأةٌ، فَطَمِعَتِ اليَهُودُ أنْ يَكُونَ نُزِّلَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ الجَلْدُ في المُحْصَنَيْنِ، وكانُوا قَدْ حَرَّفُوا، وصارُوا يَجْلِدُونَ المُحْصَنَيْنِ، ويَسَوِّدُونَ وُجُوهَهُما، فَأوْحى اللَّهُ - جَلَّ ثَناؤُهُ - أنَّهم يَسْتَفْتُونَهُ في أمْرِ هاتَيْنِ المَرْأتَيْنِ، وأعْلَمَهُ أنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهم عَنْ أعْلَمِهِمْ بِالتَّوْراةِ، فَأعْلَمُوهُ أنَّهُ لَيْسَ بِحاضِرٍ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ ”قَدْ عَلِمْتُ“، وكانَ جِبْرِيلُ قَدْ أعْلَمَهُ مَكانَهُ فَأمَرَهم أنْ يُحْضِرُوهُ، فَأحْضَرُوهُ، وأوْحى اللَّهُ إلى نَبِيِّهِ أنْ يَسْتَحْلِفَهم (p-١٧٦)لَيَصْدُقُنَّهُ، فَلَما حَضَرَ عالِمُهم قالَ لَهُ النَّبِيُّ: ”أسَألُكَ بِالَّذِي أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى، ورَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ، وفَلَقَ لَكُمُ البَحْرَ، هَلْ في التَّوْراةِ أنْ يُرْجَمَ المُحْصَنانِ إذا زَنَيا؟“، قالَ: نَعَمْ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ سَفَلَةُ اليَهُودِ، فَقالَ: خِفْتُ إنْ كَذَّبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ بِنا عَذابٌ،» ويُقالُ: إنَّ الَّذِي سَألَهُ النَّبِيُّ ﷺ ابْنُ صُورِيّا اليَهُودِيُّ، وكانَ حَدِيثَ السِّنِّ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ”أنْتَ أعْلَمُ قَوْمِكَ بِالتَّوْراةِ؟“، قالَ: كَذا يَقُولُونَ، وكانَ هو المُخْبِرَ لَهُ بِأنَّ الرَّجْمَ فِيها، وأنَّهُ ساءَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أشْياءَ كانَ يَعْرِفُها مِن أعْلامِهِ، فَلَمّا أنْبَأهُ النَّبِيُّ ﷺ بِها قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ الأُمِّيُّ العَرَبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ المُرْسَلُونَ، وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن أمْرِ الزّانِيَيْنِ مَشْهُورٌ في رِوايَةِ المُفَسِّرِينَ، وهو يُبَيِّنَ قَوْلَهُ: ﴿إنْ أُوتِيتُمْ هَذا فَخُذُوهُ وإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا﴾، والقائِلُ يَقُولُ: ما تَفْسِيرُ هَذا؟ فَلِذَلِكَ شَرَحْناهُ، وبِاللَّهِ الحَوْلُ والقُوَّةُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾، قِيلَ: فَضِيحَتَهُ، وقِيلَ أيْضًا: كُفْرَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: اِخْتِبارَهُ بِما يَظْهَرُ بِهِ أمْرُهُ، يُقالُ: ”فَتَنْتُ الحَدِيدَ“، إذا أحْمَيْتُهُ، و”فَتَنْتُ الرَّجُلَ“، إذا أزَلْتُهُ عَمّا كانَ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٧٣]، أيْ: وإنْ كادُوا لَيُزِيلُونَكَ. وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾، أيْ: أنْ يُهِينَهُمُ، ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ (p-١٧٧)قِيلَ: لَهم في الدُّنْيا فَضِيحَةٌ بِما أظْهَرَ اللَّهُ مِن كَذِبِهِمْ، وقِيلَ: لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ بِأخْذِ الجِزْيَةِ مِنهُمْ، وضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب