الباحث القرآني
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ الواو حرف عطف، و(إذ) نقول فيها مثلما قلنا فيما سبق في قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران ٣٥] يعني أنها منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، وتضمين الجملة لهذا يدل على العناية بها، وأنه ينبغي إشهارها وإظهارها حتى تتبين وتتضح للناس.
وإنما ذكر الله قصة زكريا ومريم هنا، وعيسى فيما بعد، في أول هذه السورة لأنها نزلت في وفد نجران الذين قدموا على النبي ﷺ وهم من النصارى، فأراد الله أن يبين لنبيه ﷺ قصة المسيح ومن حوله كاملة حتى يتبين له الأمر تماما، فإذا احتاج إلى محاجة النصارى وإذا عندهم علم قريب منها مما عندهم.
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ الملائكة المراد بهم الجنس؛ إذ ليس المراد كل الملائكة، بل واحد منهم، وهو في الغالب جبريل، ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾، ونداؤها باسمها العلم نوع من التكريم؛ إذ لم يقل: يا هذه باسم الإشارة، بل أتى باسمها العلم تكريما لها، ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي: اختارك؛ وذلك لأن اصطفى أصلها: اصتفى بالتاء، لكن لعلة تصريفية قلبت التاء طاء، وهي مأخوذة من الصفوة، يعني جعلك من صفوة الخلق، واصطفاؤه إياها سبحانه وتعالى من عدة وجوه:
الوجه الأول: أنه تقبلها بقبول حسن حين قالت أمها: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران ٣٥]، مع أن المعروف عندهم أنه لا يخدم المساجد إلا الرجال، لكن هي قبلت.
ومنها -من اصطفائه لها- أنه أنبتها نباتا حسنا، وقد سبق الكلام على معنى الكلمتين وأنهما تتضمنان التربيتين الروحية والجسدية.
ومن اصطفائه لها أيضا: أن الله تعالى اختار أن تكون عند نبي من الأنبياء؛ حتى تتربى ببيت نبوة.
وقوله: ﴿طَهَّرَكِ﴾ طهرك من أي شيء؟ هل هو من الأرجاس الحسية؟ أو من الأرجاس المعنوية؟
الظاهر الثاني، وأنها بالنسبة للأرجاس الحسية كالبول والغائط والحيض كغيرها من النساء، لكنه طهرها من الأرجاس المعنوية، فبرأها الله تعالى مما رماها به اليهود، وكذلك طهرها من سفاسف الأخلاق حتى كانت دائما في عبادة الله سبحانه وتعالى، كما سيتبين إن شاء الله.
ثم قال: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ الواو حرف عطف، ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أي ميزك من بينهن، فالاصطفاء الأول اصطفاء عام، وهذا اصطفاء خاص بالنساء، اصطفاها الله تعالى من بين سائر النساء حيث جعلها من النساء الكمل، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مريم عليها الصلاة والسلام خير نساء البشر، هي وخديجة بنت خويلد وآسية امرأة فرعون، و«فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (3411)، ومسلم (2431 / 70) من حديث أبي موسى الأشعري.]]، فهي من النساء الكمل رضي الله عنها، ولهذا قال: ﴿اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾.
وهل المراد نساء العالمين في زمنها؛ لأن النساء اللاتي في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أنهن في أمة هي خير الأمم، أو المراد العموم؟
فيه قولان للعلماء، منهم من قال: إنه خاص بنساء زمانهم، كما ذكر الله عن بني إسرائيل أنه فضلهم على العالمين، ومع ذلك فهذه الأمة أفضل منهم ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة ٤٧] ومن المعلوم أنهم ليسوا أفضل من هذه الأمة؛ لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران ١١٠]. ثم قال..
* طالب: والراجح؟
* الشيخ: يأتي إن شاء الله الكلام عليه.
* طالب: قول الرسول ﷺ: «فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ» ما يأتي عامة (...)؟
* الشيخ: والله بعض العلماء أخذ من هذا أنها أفضل من الثلاث التي معها؛ لأنه قال: «فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ» بعد أن ذكر فضل هؤلاء الثلاث، وبعضهم قال: إن المراد: على النساء سواهن، والله أعلم بمراد رسوله.
* طالب: شيخ (...).
* الشيخ: هي ما ذكرت معهن.
* الطالب: (...)
* الشيخ: لا ثلاث.
* الطالب: (...) تعقيب على (...)
* الشيخ: يعني فيه احتمال أنه عليه الصلاة والسلام أفردها لتكون أكمل منهن، وفيه احتمال أنها أفضل من النساء اللاتي سواها (...) والله أعلم بمراد رسوله، ما عندي في هذا.
* طالب: إن القول الأفضل إنها أفضل على نساء أهل زمانها، القول الثاني يا شيخ.
* الشيخ: إن ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ مطلقة، حتى نساء هذه الأمة هي أفضل منهن، وإن شاركتهن في الفضيلة لكن هي أفضل منهن.
* طالب: اسم مريم عليها السلام لم يذكر في القرآن سوى هذا الاسم، نأخذ منه فوائد.
* الشيخ: نحن وصلنا الفوائد؟
* طالب: حكمة التطهير بعد الاصطفاء، الاصطفاء يعم (...)؟
* الشيخ: الاصطفاء الاختيار، ونص على التطهير لدفع ما قاله اليهود في أنها كانت بغيا.
* الطالب: شيخ، أحسن الله إليكم، هو قول الأخ حينما سأل: عليها السلام.
* الشيخ: من عنى؟
* الطالب: عنى مريم.
* الشيخ: عليها السلام؟
* طالب: إي.
* الشيخ: ما فيها مانع، «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٨٣١)، ومسلم (٤٠٢ / ٥٥) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، ما فيها مانع أبدا، لكن الأحسن أن يقال: رضي الله عنها أحسن؛ لئلا يتوهم واهم أنها نبية.
* طالب: الله سبحانه وتعالى يذكر في آيات أخر أن مؤمن آل فرعون مع الرجل الذي جاء يسعى من أقصى المدينة ولم يذكر اسم الرجل، وهنا ذكر مريم رضي الله عنها كان أيش يصير فيها؟
* الشيخ: يعني هذا خطاب خاص، وهذاك تحدث عن شخص غائب.
* الطالب: يا شيخ هذا فيه فضيلة لو ذكر اسمه له؟
* الشيخ: أيهم؟
* الطالب: مؤمن آل فرعون؟
* الشيخ: لا؛ لأن الله يذكر القصص أحيانا للعبرة فقط، حتى لا يكون الإنسان معتنيا بالاطلاع على الأشخاص، فالعبرة بالمعاني وما سيقت القصة من أجله، أما كونه فلان وفلان ما يهم، حتى لو علمت الآن أن الرجل هذا اسمه فلان تستفيد فائدة كثيرة؟
* طالب: يعني أعرف الثناء عليه مثل مريم.
* الشيخ: الثناء عليه يكفي أنه قال رجل مؤمن من آل فرعون، أنه من آل فرعون يكفي، أنه آمن وهو من آل فرعون، أما هذا الخطاب.. يعني أنا لو قلت لك: يا رجل أو قلت: يا عبد الرحمن، أيهن أبلغ في الإكرام؟ أو قلت: يا هذا؟
الخطاب غير مسألة التحدث عن شخص، الخطاب ليس كالتحدث عن شخص، الخطاب إذا ذكر الإنسان باسمه العلم صار هذا دليلا على التفخيم والتكريم.
* طالب: في بعض الآيات يقول: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾، وفي آيات ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾؟
الشيخ يقول: في بعض الأحيان يقول: ﴿اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾، وأحيانا يقول: ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ﴾ كيف يعني نقول؟
الجواب: أن المعنى واحد، وأن المراد بـ ﴿اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ يعني اذكر ربك باسمه، وأما من قال: إن (اسم) زائد فهذا قول ضعيف، وأن ﴿اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ يعني: اذكر ربك، هذا قول لا صحة له، ولكن المعنى: اذكر ربك باسمه؛ لأن هذا هو الذي يتم به الذكر.
* طالب: خيرية مريم وغيرها من النساء في الدنيا والآخرة أم في الدنيا فقط وفي الآخرة فقط؟
* الشيخ: في الدنيا والآخرة.
* الطالب: ورد في الحديث أن فاطمة رضي الله عنها سيدة (...).
* الشيخ: لا هذيك سيدة نساء أهل الجنة، لكنهن خير.
* طالب: شيخ، ما استدل به بعض المفسرين أن هذه القصة على أن الخال بمنزلة (...)، قصة زكريا.
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: قصة زكريا ومريم وعيسى، بعض المفسرين على أن الخال بمنزلة (...).
شيخ: وجه ذلك؟
* الطالب: أن أخت مريم خالة عيسى كانت تحت مريم.
* الشيخ: تحت زكريا، وبعدين؟
* الطالب: هل يصح هذا الاستدلال يا شيخ؟
* * *
* طالب:
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران ٤٣ - ٤٦].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، ذكرنا أن الاصطفاء معناه الاختيار، وهو مأخوذ من الصفوة، وصفوة كل شيء خلاصته.
﴿وَطَهَّرَكِ﴾ ظاهرا وباطنا، من العيوب الظاهرة ومن العيوب الباطنة، ومن الأخلاق السافلة، فهي مطهرة ظاهرا وباطنا. ونص الله تعالى على ذلك دفعا لقول اليهود -قاتلهم الله ولعنهم-: إنها كانت بغيا، وإن عيسى عليه الصلاة والسلام كان ولد زنا.
وقوله: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قلنا: إن المراد بذلك نساء عالمي زمانهم، على أنها هي وخديجة بنت خويلد وآسية امرأة فرعون هؤلاء الثلاث كملن من النساء، و«فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»[[سبق تخريجه.]].
وقوله: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ العالمين هم كل من سوى الله في الأصل، كما قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]، فالرب والمربوب لا يوجد سواهما، وعليه فالعالم كل من سوى الله، هذا في الأصل، وسمي عالما لأنه علم على خالقه عز وجل، فإن ما في هذه المخلوقات من الآيات الدالة على كمال الله سبحانه وتعالى وعلى كل ما تتضمنه هذه المخلوقات علم واضح على ما تتضمنه هذه المخلوقات من الصفات الكاملة.
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ هذا من خطاب الملائكة أيضا، تقول لها: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ والقنوت هو دوام الطاعة، واللام في قوله: ﴿لِرَبِّكِ﴾ للاختصاص، أي قنوتا خالصا لله، أي طاعة خالصة له؛ لأن من شرط الطاعة أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿لِرَبِّكِ﴾ الربوبية هنا ربوبية خاصة، وقد مر علينا أن الربوبية تنقسم إلى ربوبية عامة وربوبية خاصة، فالعامة هي الشاملة لكل أحد، والخاصة تختص بمن خصها الله به، لكنها تفيد تربية أكثر اعتناء واختصاصا من الربوبية العامة.
وقوله: ﴿وَاسْجُدِي﴾ الواو حرف عطف، ﴿وَاسْجُدِي﴾ يعني السجود المعروف، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة أمرت أن تسجد على سبعة أعظم[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٨١٠)، ومسلم (٤٩٠ / ٢٢٨) من حديث ابن عباس.]]، وعطف السجود على القنوت من باب عطف العام على الخاص أو الخاص على العام؟ الخاص على العام. وذكر الخاص بعد العام يدل على فضله ومزيته. ولا شك أن السجود من أفضل أنواع الطاعة، ولهذا كان «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»[[أخرجه مسلم (٤٨٢ / ٢١٥) من حديث أبي هريرة.]].
وقوله: ﴿ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ الركوع معروف، وهو انحناء الظهر، وقوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي في جملتهم، وليس المراد أنها تصلي مع الجماعة؛ لأن المرأة لا تخاطَب بالصلاة مع الجماعة، لكن كوني في جملة الراكعين الذين يركعون لله عز وجل.
وفي قوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ولم يقل: مع الراكعات، مع أنها امرأة؛ لأن الكُمّل من الرجال أكثر من الكمل من النساء، ولهذا لم يكمل من النساء إلا ثلاث[[سبق تخريجه.]].
وقوله: ﴿اسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ قدم السجود على الركوع؛ لأن هيئة السجود أفضل وأبلغ في الخضوع، فقدمها على الركوع، أما من حيث الترتيب الفعلي بالنسبة للصلاة فإن الركوع قبل السجود.
ثم قال الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾، ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه كل ما سبق من قصة زكريا وقصة مريم. وقوله: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أي من أخبار الغيب، أي من أخبار الشيء الغائب الذي لا يعلم، لكن من الذي لا يعلمه؟ ليس المراد من وقع في زمنه؛ لأن من وقع في زمنه فهم يعلمونه، لكن المراد: لا يعلمها النبي ﷺ ولا قومه؛ كما قال تعالى في سورة هود: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود ٤٩]
إذن هي غيب نسبي ولّا حقيقي؟ غيب نسبي بالنسبة لمن لم تكن في زمنه، أما من كانت في زمنه فهي مشاهدة، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقومه كانوا أميين، لا يعلمون شيئا عن الأمم السابقين، فأوحى الله إلى نبيه ﷺ ما أوحى من أخبار السابقين التي ما كان يعلمها لا هو ولا قومه، وهو دليل على أنه رسول الله حقا، وأن الوحي يأتيه من الله.
وقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ الوحي في اللغة الإعلام بسرعة وخفاء، فإذا أعلمك إنسان بسرعة على وجه خفي يسمى في اللغة وحيا، وحيا، ولكنه في الشرع: إخبار الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه بما يشاء من شرعه، هذا الوحي، إخبار الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه بما أيش؟ بما يشاء من شرعه. ثم إن كلفه بتبليغه كان رسولا، وإلا كان نبيا.
* الشيخ: الأخ عرفنا ما هو الوحي شرعا؟ أنت إي نعم.
* طالب: الوحي ما أمر (...) بالشرع ولم يؤمر بتبليغه.
* الشيخ: هذا الوحي شرعا.
* الطالب: خلاف الرسول، فإذا أمر بتبليغه..
* الشيخ: صار الوحي شرعا من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه! هذا الوحي شرعا! أعتقد أنك ما أنت معنا؟
* طالب: (...)
* الشيخ: لا لا، تأملها في غير وقت الدرس، وقت الدرس تأمل ما يقول المدرس، ما تابعتنا ولهذا أخطأت في تعريف الوحي. طيب إذن الوحي؟
* طالب: الوحي هو ما يوحي الله سبحانه وتعالى شرعا نبيا من أنبيائه، فإن أمره بالتبليغ فهو كان رسولا، وإن لم يؤمره فهو نبي.
* الشيخ: أيش الوحي؟
* الطالب: هو ما يوحيه الله سبحانه وتعالى إلى نبي من أنبيائه من شرعه.
* الشيخ: لا.
* طالب: إيحاء الله لنبي.. إيحاء الله عز وجل..
* الشيخ: لا.
* الطالب: تبليغ وتكليف الله عز وجل.
* الشيخ: لا.
* طالب: إخبار الله لنبي من الأنبياء بما يشاء من شرعه.
* الشيخ: نعم، هذا الوحي: إخبار الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه بما يشاء من شرعه، ثم إن أمر بتبليغه كان رسولا وإلا فهو نبي.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ أي نخبرك به على الوصف الذي ذكرنا، وهو إخبار الله تعالى لنبي من أنبيائه بما شاء من شرعه، هذا الوحي.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي ما كنت عندهم، يعني عند زكريا وقومه ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾، ﴿إِذْ﴾ أي حين، وهي متعلقة بقوله: ﴿كُنْتَ﴾، يعني ما كنت في ذلك الوقت عندهم ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾، ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾ اختلف العلماء في تفسيره، فقيل: إنها على ظاهرها؛ أنهم ألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل: إن المراد بها سهامهم التي تكون في النصل يرمون بها، وسميت قلما لأنها تشبهه في الاستطالة ودقة الرأس، السهم عندهم بمنزلة الرصاصة عندنا في الوقت الحاضر.
على كل حال أيها ظاهر القرآن؟ ظاهر القرآن أن المراد بالأقلام الأقلام الحقيقة التي يكتب بها، ولا نعدل عن ظاهر القرآن إلا بدليل، هذه هي القاعدة الشرعية في تفسير القرآن، بل وفي تفسير الحديث النبوي، بل وفي كلام الغير، حتى كلام الناس يجب أن نعمل بظاهره إلا بدليل، ولكن ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ كيف ألقوا هذه الأقلام؟
المعروف أنهم ألقوها في النهر؛ في الماء الذي يمشي، فما انحبس منها فصاحبه الذي يكفل مريم، وما جرى فهو الذي لا يكفلها، ولكن القرآن ليس فيه بيان ذلك، يعني ليس فيه أنهم وضعوا هذه الأقلام في النهر، إنما ألقوا أقلامهم على وجهٍ اللهُ أعلم بكيفيته، لكنهم ألقوها من باب الاقتراع، يعني قرعة أيهم يكفل مريم، فخرجت القرعة لمن؟ لزكريا؛ كما قال تعالى في أول القصة: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران ٣٧].
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ يعني وما كنت عندهم أيضا في حال اختصامهم أيهم يكفل مريم، هذا الاختصام هل هو قبل إلقاء الأقلام أو بعده؟ قبله، الظاهر أنه قبله، لكن أخر في الذكر لمناسبة الآيات؛ رؤوس الآيات ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ هذا هو الذي يظهر، على أنه قد يقال: إن الله سبحانه وتعالى ذكر النتيجة قبل المقدمة أو قبل السبب لأنها هي الغاية، فإن إلقاء الأقلام والاستهام هو غاية الاختصام، فاختصموا أيهم يكفلها فقالوا: لنسهم بإلقاء الأقلام.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ هذا كالدليل لقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ يعني فأنت ما قلتها لأنك شاهد، ولكن قلتها لأنها أوحيت إليك.
وأيضا فيه إشارة إلى أن هذا الذي أنبئ به كأنما يراه بعينه، كأنه حاضر، وهو كذلك، بل كما قلنا فيما سبق: إن إخبار الله عز وجل أشد ثبوتا وحقيقة مما يُرى في العين.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾، يعني: اذكر إذ قالت الملائكة: يا مريم، وهل المراد جنس الملائكة أو الملائكة كلهم؟ الظاهر الأول أن المراد الجنس؛ لأن القائل واحد، والمشهور أنه جبريل. قال لها: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ إلى آخره.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾ سبق أن معنى البشارة في الأصل: الإخبار بما يسر، وأنها قد تطلق على الإخبار بما يسوء؛ بجامع أن كلا مما يسر وما يسوء يغير البشرة ويؤثر فيها.
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ تحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن الكلمة هي المبشر به، كما تقول: بشرته بولد، بشرته بولد، فتكون الكلمة هي المبشر به.
والوجه الثاني: أن المراد بالكلمة هنا الصيغة التي حصلت بها البشارة، أي: يبشرك بشارة عن طريق النطق بها، عن طريق النطق، كما تقول: بشرته بالقول، لا بالكتابة.
فأنت مثلا تبشر الإنسان إما بواسطة النطق، وإما بواسطة الكتابة، وإما بواسطة الإشارة، فقوله: ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾ أي أن الوسيلة التي حصلت بها البشارة هي الكلمة، يعني أن الله قال سبحانه وتعالى كلمة فيها البشرى بالمسيح عيسى ابن مريم.
فالوجهان محتملان، الوجه الأول ما هو؟ أن المراد بالكلمة عيسى، يعني المبشر به، كما تقول: بشرته بولد، أو أن المراد بالكلمة الصيغة التي حصلت بها البشارة، أي أن البشارة حصلت من الله بالقول، كما تقول: بشرته بالنطق، بشرته بالكتابة، بشرته بالإشارة.
فأما على الاحتمال الثاني فلا إشكال، لا إشكال أن تقع البشارة بالنطق، لكن على الاحتمال الأول أن الكلمة هي المبشر به، فكيف يكون المبشر به كلمة مع أنه إنسان؟
أجاب العلماء عن ذلك بأنه أطلق عليه الكلمة لأنه كان بالكلمة، لا بالوسائل الحسية المعلومة؛ لأن الولد في العادة يأتي بواسطة النكاح، لكن هذا لم يأت بالنكاح، أتى بالكلمة ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران ٥٩]، فلهذا صح أن يطلق عليه الكلمة.
وفي هذه الآية إشكال آخر: إذا قلنا: إن قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ تعني المبشر به، وهو قوله: ﴿مِنْهُ﴾، ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ فإن (من) لها معانٍ، منها: التبعيض؛ كما قال ابن مالك رحمه الله في الخلاصة:
؎بَعِّــضْ وَبَيِّــنْ وَابْتَــدِئْ فِــــيالْأَمْكِنَــــــــــهْ ∗∗∗ بِمِــــــــنْ وَقَــــدْ تَأْتِــــي لِبَــــدْءِالْأَزْمِنَــــــــــــــــهْ
الشاهد قوله: (بعّض)، فإن (من) تفيد التبعيض، فهل معنى ذلك أن عيسى بعض من الله كما قال ذلك النصارى؟
الجواب: لا، الجواب ليس بعضا من الله، لأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولا يتبع أحد هذه الآية ويدعي التبعيضية أو يدعي البعضية، إلا من في قلبه زيغ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران ٧]، والنصراني كما اتبع المتشابه في هذه الآية اتبع المتشابه في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] قال: هذا كلام الله يقول: ﴿إِنَّا﴾ وإنا تفيد الجمع، فاتبع المتشابه انتصارا لرأيه الفاسد، ولا يخفى على كل ذي لب أن المراد بقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ وما أشبهها التعظيم، لا التعدد. كذلك هنا ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ لا يقتضي أن يكون عيسى بعضا من الله عز وجل؛ لأنك إن ادعيت أنه بعض من الله فلتدع أنه كلمة الله، ومعلوم أنه لا أحد يدعي أن عيسى كلمة، عيسى بشر، له جسم وروح، يأكل ويشرب، وهل الكلمة كذلك؟ لا.
فأنت إن ادعيت أنها من الله فادع أن عيسى كلمة، ومعلوم أن عيسى ليس بكلمة.
إذن فيتعين أن تكون (من) إما ابتدائية وإما بيانية، يعني: بكلمة صادرة من الله عز وجل بأن قال: كن فكان.
نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية ١٣]، هل يدعي أحد أن ما في السماوات وما في الأرض بعض من الله؟ لا، لا يدعي، حتى النصراني ما يدعي ذلك، ولكن هنا (من) إما للابتداء، يعني ابتداء التسخير من الله، أو للبيان، بيان مَن المسخر، أو من أين جاء هذا التسخير.
قال: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، اسم: مبتدأ، و﴿الْمَسِيحُ﴾ خبر، و﴿عِيسَى﴾ خبر ثانٍ، و﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ خبر ثالث، وإنما قلنا ذلك لأنك لو أفردت كل واحد عن الآخر لاستقام الكلام، لو قلت: اسمه ابن مريم صح؟ اسمه عيسى، اسمه المسيح صح، وعلى هذا فكل واحد منها خبر، وقيل: بل الثلاثة خبر واحد، كقولك: البرتقال حلو حامض، هنا لا يصح أن تقول: حلو خبر وحامض خبر؛ لأنك لو أفردت أحدهما عن الآخر فسد المعنى، لو قلت: البرتقال حلو ما صح، لو قلت: البرتقال حامض، ما صح، ما أدى المعنى الذي يؤديه قوله: حلو حامض؛ لأن حلو حامض يعني: جامع بينهما، يعني: مز، كذا؟ فلهذا نقول في قول القائل: البرتقال حلو حامض، حلو حامض جميعها خبر، لكن في الآية التي معنا: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لا يستقيم هذا المعنى فيها، وبناء على ذلك نقول: إن كل واحد منها خبر.
مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج ١٤ - ١٦] خمسة أخبار.
هذه الأخبار الثلاثة جمعت أنواع العَلَم التي أشار إليها ابن مالك في قوله:
؎وَاسْمًــــــــا أَتَــــــــى وَكُنْيَــــــــةًوَلَقَبَــــــــــــــــــــــــا ∗∗∗ وَأَخِّــــــــرَنْ ذَا إِنْ سِــــــــوَاهُصَحِبَــــــــــــــــــــا
معلوم؟ أين الاسم؟
طلبة: عيسى.
* الشيخ: اللقب؟
طلبة: المسيح.
* الشيخ: الكنية؟
طلبة: ابن مريم
* الشيخ: وإذا كان هذه الكلمات الثلاث قد جمعت أنواع العلم الثلاثة: الاسم، واللقب، والكنية، يبقى عندنا إشكال في قول ابن مالك: (وأخرن ذا) يعني اللقب (إن سواه صحبا)؛ فإنه في الآية الكريمة قدم اللقب، فيبقى إشكال، فهل نأخذ بقول ابن مالك ونقول: القرآن شاذ؟ حاشا حاشا، نقول: ابن مالك وألفيته الشاذة ولا يشذ القرآن.
إذن كيف نجمع بين هذا الكلام من هذا العالم في النحو وبين الآية؟
من المعروف أن علماء النحو رحمهم الله لا تضييق عليهم أبدا، ولهذا يقولون في ضرب الأمثال: حجة نحوي، أو يقولون: حجج النحاة كبيوت اليرابيع، واضح؟ حجج النحاة كبيوت اليرابيع، أيش معنى هذا؟
اليرابيع جمع يربوع، وعندنا باللغة العامية: جرابيع، طيب اليربوع من ذكائه يتخذ جحرا في الأرض له باب، وإذا بلغ منتهاه خرق الأرض متعليا إلى فوق، فإذا بقي قشرة رقيقة وقف؛ من أجل إذا دخل عليه أحد من باب الجحر خرج من هذه النطاقة؛ كما يقولون، نطق.
أقول: النحويون رحمهم الله لا تضييق عليهم، قالوا: الجواب عن الآية: هو أن اللقب إذا اشتهر به الإنسان حتى صار كالعلم، أو كالاسم، جاز أن يقدم، جاز أن يقدم، ولهذا نجد في كلام العلماء: الإمام أحمد بن حنبل، المسيح عيسى ابن مريم، على أوزان المسيح عيسى ابن مريم، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فيقدم الإمام مع أنه لقب، لماذا؟ للاشتهار، إذن لا إشكال الآن.
قال: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ واختار الله تعالى له اسم المسيح لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، أو لكثرة مسحه الأرض وسيره فيها، أو من المسحة وهي الجمال، والمعنى الأول أشهر، يعني أنه لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، فهو يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم، وهذه الأمور لا تتم لكل أحد، بل لا تتم لأحد أبدا إلا بإذن الله عز وجل.
﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ولم ينسبه إلى ذَكر؛ لأنه لا أب له، وأظن ذلك واضحا أنه لم ينسبه إلى أب لأنه لا أب له، لكن لماذا نسبه إلى أمه؟ إشارة إلى ألا يقول قائل: إنه ينسب إلى كافله زكريا، يعني لئلا يقول قائل: ما دام هذا الطفل ليس له أب فلينسب إلى كافله حتى يُعرف به، فبدأت الملائكة وبينت أن هذا الرجل ينسب إلى أمه ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قوله: ﴿وَجِيهًا﴾ هذه منصوبة على الحال، من أين؟ حال من أين؟
طلبة: من عيسى.
* الشيخ: أو المسيح، حال كونه وجيها في الدنيا، والوجيه هو ذو الجاه، وهو الشرف والمكانة والسيادة، وقد كان كذلك عليه الصلاة والسلام، أما وجاهته في الدنيا فلأنه كان أحد الرسل الكرام، بل هو من أولي العزم، وأعظم الناس جاها في الدنيا والآخرة هم أولو العزم، كما قال الله تبارك وتعالى عن موسى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب ٦٩]، وأما وجاهته في الآخرة فكما قلنا أيضا لأنه من أولي العزم من الرسل الذين هم في أعلى درجات الجنة ولهم في الآخرة مقامات لا تكون لغيرهم.
وقوله: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾..
وهو الشرف والمكانة والسيادة، وقد كان كذلك عليه الصلاة والسلام، أما وجاهته في الدنيا؛ فلأنه كان أحد الرسل الكرام، بل هو من أولي العزم، وأعظم الناس جاهًا في الدنيا والآخرة هم؟
* طالب: أولو العزم.
* الشيخ: أولو العزم كما قال الله تبارك وتعالى عن موسى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب ٦٩].
وأما وجاهته في الآخرة فكما قلنا أيضًا؛ لأنه من أولي العزم من الرسل الذين هم في أعلى درجات الجنة، ولهم في الآخرة مقامات لا تكون لغيرهم.
وقوله: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ هذا وصف ثالث أنه من المقربين إلى مَنْ؟
* الطلبة: إلى الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: إلى الله عز وجل، من المقربين إلى الله في الدنيا ولَّا في الآخرة؟
* الطلبة: في الدنيا والآخرة.
* طالب: كلاهما.
* الشيخ: في الدنيا والآخرة؛ لأن المقرب يكون مقربًا في الدنيا ويكون كذلك مقربًا في الآخرة، فعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كان وجيهًا في الدنيا والآخرة وكان من المقربين إلى الله، وهل هذا الوصف حاصل لغيره من الأنبياء؟
الجواب: نعم، أولو العزم من الرسل لا شك لهم وجاهة في الدنيا والآخرة وأنهم مقربون إلى الله.
* طالب: شيخ، في الآية السابقة ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ منه زائدة؟
* الشيخ: أيهم؟
* الطالب: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾.
* الشيخ: زائدة؟ أيهم اللي زائدة؟
* الطالب: ﴿مِنْهُ﴾.
* الشيخ: الحرف هذا الجر والضمير كلها؟
* الطالب: نعم، (...) منه.
* الشيخ: كيف يكون التقدير؟
* الطالب: يعني كلمة اسمه المسيح.
* الشيخ: معناه زادت الهاء ضمير.
* الطالب: هذه مضاف إليه.
* الشيخ: يعني بأيش؟
* الطالب: بكلمته (المسيح).
* الشيخ: ما يستقيم؛ أولًا: أن (مِن) لا تزاد إلا في النكرة، ولا تزاد إلا بعد نفي أو شبهه، وثانيًا: أنها لا تزاد مع الضمير أبدًا. وثالثًا: أنه لا محظور فيه.
* طالب: شيخ، جزاك الله خيرًا، بالنسبة لتقدير الفعل (اذكر) هل كان النبي ﷺ يعرف أن الله (...)؟
* الشيخ: إيه.
* الطالب: يُذكر الناس.
* الشيخ: إيه، أمره الله أن يذكرها للناس.
* الطالب: يعني كان من قبل عنده علم؟
* الشيخ: لا، ما يعلمها إلا بوحي الله.
* الطالب: في نفس الخطاب اذكر؟
* الشيخ: لا، نعم.
* الطالب: في نفس الخطاب اذكر، يعني كان عنده علم؟
* الشيخ: إيه، نعم.
* الطالب: أو ما كان عنده علم سابق؟
* الشيخ: لا، ما كان عنده علم سابق.
* طالب: طيب تصلح أن نقول اذكر؟
* الشيخ: إيه، يصلح، لو قلت لك أنا: اذكر للناس كذا وكذا، وأنت ما تدري عنها بالأول.
* الطالب: بمعنى بلِّغ؟
* الشيخ: بمعنى بلِّغ، إيه.
* الطالب: المنازل اللي يأخذونها الأنبياء أولي العزم.
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: المنازل اللي عند الله لأولي العزم من الرسل، يعني هل المؤمنين في الجنة يصلون إلى هذه المنازل يعني؟
* الشيخ: إيه يصلون، لكن ليس يصلونها على سبيل السكنى.
* الطالب: الزيارة يعني.
* الشيخ: إيه ما فيه شك، يعني المؤمنون -اللهم اجعلنا جميعًا منهم- يزورون حتى الله عز وجل، الله أكبر!
* الطالب: شيخ، أحسن الله إليك شيخنا، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ [آل عمران ٤٤] ألا نقول يا شيخ أقلامهم هي الأسهم، والدليل على ذلك أن العرب عادتهم إذا كانوا يلقون الأصنام يلقون الأسهم، فيكون قصُّه دليل على هذا؟
* الشيخ: إيه لا، نحن نقول: ما دام أن الله قال: أقلام، والأقلام في اللغة العربية معروفة ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم ١] معروفة لماذا نعدل عن الظاهر؟! يمكن العرب أنهم يجعلون السهام؛ لأنهم أميون لا يكتبون ولا يقرؤون، وهناك فيما سبق يقول: أقلام.
* طالب: شيخ، (المسيح) ذكره فعيل، وهذا فاعل؟
* الشيخ: وبعضهم أبدى المناسبة في مسألة الأقلام؛ لأنهم يكتبون بها الكتب المنزلة.
* طالب: نقول: المسيح هل هو بمعنى (فاعل) ولَّا بمعنى (مفعول)، المسيح؟
* الشيخ: لا، بمعنى (فاعل) إلا على قول من يقول المراد بذلك المسحة من الجمال، فهذا يكون بمعنى (مفعول).
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، بالنسبة للفرق بين الذكر والتسبيح؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: وردت الآية: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران ٤١] ما الفرق بين الذكر والتسبيح؟
* الشيخ: التسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به، والذكر: الثناء عليه بما يستحق.
* طالب: شيخ، قلنا: إن الله عز وجل نسب عيسى إلى مريم، وقلنا: لا ينسبه إلى غيرها حتى لا (...) بالنسبة (...) هو يقول: (...).
* الشيخ: لا، هو ذكرنا لماذا يعني هم بادروا بأن ينسب إلى أمه ابن مريم، بادروا بذلك لأن لا يُنسب إلى أحد غيرها.
* طالب: لماذا قلنا: رب (...).
* الشيخ: لا، كونه ابنًا لا شك أنه رد على النصارى سواء نسب إليها أو إلى غيرها، لكن كونهم يبادرون بهذا بأن يُنسب إلى أمه لأن لا يقول القائل: ننسبه للرجل؛ لأن هذا العادة بالنسبة وأقرب من ينسب إليه زكريا.
* طالب: أولو العزم يعني أيش المقصود بالعزم؟
* الشيخ: أولو العزم؛ معنى العزم يعني الحزم في الأمور والصبر عليها وملاحاة الناس مثل ما نقول: إن فلانًا صاحب عزيمة؛ يعني قوي مصمم على تنفيذ ما يريد.
* الطالب: مختصين بهذا عن بقية الرسل.
* الشيخ: إي نعم، هذا هو المشهور أن قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف ٣٥] أن (مِن) للتبعيض، وأن أولو العزم هم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن، وبعضهم جعل (مِن) بيانية، فعلى هذا يكون جميع الرسل من أولي العزم، لكن المشهور الأول. ذُكرت في آيتين من القرآن ما هما؟
* الطالب: إحداهما.
* الشيخ: ما هي؟
* الطالب: في الشوري: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى ١٣].
* الشيخ: نعم، هذه واحدة، وفي الأحزاب؟
* الطالب: في الأحزاب قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب ٧].
* الشيخ: نعم؟
* الطالب: قلنا يا شيخ: إن هذه للبداءة والمعاينة؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: البداءة والمعاينة؟
* الشيخ: المعاينة، بيانية.
* الطالب: بيانية، طيب يا شيخ فيه آية: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم ١٧] يعني كيف المخرج من مفهوم الآية؟
* الشيخ: أيهم الثانية ولَّا الأولى؟
* الطالب: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾.
* الشيخ: إيه يعنى جبريل.
* الطالب: يا عم الشيخ، يرد علينا أسئلة وإحنا لا نستطيع..، نريد حجة يا شيخ دامغة لهؤلاء.
* الشيخ: نسأل الله، الله يعينك، أيش عندك؟
* الطالب: إرسال ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم ١٧] يقولون هذا.
* الشيخ: طيب صحيح، نحن نقول هذا، إن جبريل عليه الصلاة والسلام تمثل لها بشرًا سويًّا ليمتحنها.
* الطالب: رجل؟
* الشيخ: رجل، رجل، فهمت؟ ولهذا قالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم ١٨] وأيش قال لها؟ ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مريم ١٩] الآيات متواصلة، ما هو بس جاء بشر وحملت، بيَّن أنه رسول الله.
* طالب: الإشكال يقولون: إن هذا بشر؛ يعني رجل (...) يعني قد يقولون: إنها حملت منه أو كذا.
* طالب آخر: هذا القول يا شيخ (...).
* الشيخ: هم قالوا هذا، ولهذا هم قالوا من أول ما جاءتهم ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم ٢٨] وأيش معنى هذا؟ هذا تعريض بأنها زانية، يقولون: كيف جئت بالزنا وأبوك ما كان امرأ سوء وما كانت أمك بغيًّا، لو كان هذه وراثة ما استغربنا، لو كان أبوك امرأ سوء أو كانت أمك بغيًّا زانية -والعياذ بالله- قلنا: هذه مثل آبائها، هذا تعريض، لكن وأيش اللي حصل؟ أشارت إليه، انظر الآية، فدافع عن نفسه.
* طالب: شيخ، فيه إرسال يا شيخ، فيه إشكال؟
* الشيخ: ما فيه إشكال يا أخي، ما فيه إشكال، هذا الرجل، هذا جبريل عليه الصلاة والسلام أرسله الله تعالى ليمتحنها، ولهذا لجأت إلى الله ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ ما فيه إشكال.
* طالب: شيخ، جزاك الله خيرًا، أنت قلت: قدمت ثلاثة أقوال في اسم المسيح فإنه إذا مسح المريض بالعمى يبرأ؟
* الشيخ: ذا عاهة.
* الطالب: ذا عاهة يبرأ، وأنه يمسح الأرض (...).
* * *
* طالب: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران ٤٥ - ٤٩].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ وهذا قرأناه.
قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ (الواو) حرف عطف، والجملة معطوفة على ما سبق.
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ أي: في حال الصغر، وأصل المهد أو الْمِهاد الفراش يوضع للإنسان فيطؤه ويستريح عليه.
وقوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ أي: في الفراش وهو صغير، وهذا من آيات الله عز وجل؛ لأن العادة التي أجرى الله سبحانه وتعالى البشر عليها أن لا يتكلم أحد إلا في سن معين، وفي المهد لم يتكلم إلا ثلاثة؛ منهم المسيح عيسى ابن مريم، وتكلم بكلام من أبلغ الكلام لما جاءت به قومها تحمله ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مريم ٢٧ - ٢٩] فقالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا؟ ﴿قَالَ﴾ يعني حين سمعهم: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم ٣٠ - ٣٣] كلام من أفصح الكلام وأعظمه وهو في المهد، وهذا من آيات الله عز وجل الدالة على قدرته، ولهذا كان آيات عيسى كلها تدور حول هذا الأمر، حول خوارق العادات في الأمور الكونية، فهو نفسه آية خُلق بلا أب، وكلم الناس في المهد، وهذا من الآيات، يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخه فيكون طيرًا، يبرئ الأكمه والأبرص، ولا أحد يبرئهما من الأطباء، يحيي الموتى ويخرجهم من القبور.
قال أهل العلم: لأنه بُعث في زمن ترقى فيه الطب ترقيًا عظيمًا فجاء بآيات من جنس الأعمال التي يعملونها ليكون ذلك أبلغ في الإعجاز كما جاء موسى عليه الصلاة والسلام بالعصا واليد التي تُبطل سحر السحرة، وكان السحر في وقته قد زاد وانتشر، وكما أتى محمد ﷺ بكلام أبلغ الكلام وأفصحه لانتشار الفصاحة في زمنه وعهده حتى يعجز هؤلاء البلغاء، ويتبين أنه ليس من كلام البشر.
قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ يعني ويكلمهم وهو كهل من الحادية والثلاثين إلى الأربعين، يكلمهم في هذه الحال، في هذه الحال ليس غريبًا أن يكلم الناس، ولكنه أتى بها لفائدة وهي أن كلامه في المهد ككلامه وهو كهل؛ يعني ليس ككلام الصبي الذي يتكلم في المهد (يا بابا، يا ماما) وما أشبه ذلك، بل كلام فصيح من أبلغ الكلام كما يتكلم به وهو أيش؟
* طالب: كهل.
* الشيخ: وهو كهل. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ من الصالحين أيضًا، يعني وهو من الصالحين، وسبق لنا أن الصالح من صلحت سريرته وعلانيته يعني ظاهره وباطنه، ظاهره بالإخلاص لله والطهارة من كل شرك ونفاق وشك وأحقاد وبغضاء للمؤمنين وما أشبه ذلك، ظاهره بأيش؟ بالمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام وعدم الابتداء، فهو عليه الصلاة والسلام من الصالحين الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم، وإن شئت فقل: سرائرهم وعلانيتهم.
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ﴾ هي الآن تخاطب الله، والذي كان يخاطبها الملائكة أو جبريل، لكنها لما قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾ [آل عمران ٤٥] وعلمت أن الأمر من الله وجهت الخطاب إليه سبحانه وتعالى، فقالت: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ وتأمل هذا الاستعطاف منها حيث قالت: ﴿رَبِّ﴾. ومعلوم أن كلمة ﴿رَبِّ﴾ هنا مضافة إلى ياء المتكلم التي حذفت للتخفيف، وأصلها: ربي أنى يكون لي ولد؟
وقولها: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ هذا استفهام يعني من أين يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ وهذا الاستفهام ليس على سبيل الشك، وليس على سبيل الاستبعاد، ولكنه على سبيل الاستثبات وزيادة الطمأنينة كقول إبراهيم: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة ٢٦٠] وإلا ما عندها شك.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ الجملة حالية؛ يعني: والحال أنه لم يمسسني بشر، أي: لم يجامعني؛ لأن المس يطلق على الجماع؛ يعني يكنى به عن الجماع، كما قال تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة ٢٣٦] أي: تجامعوهن. ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ يعني لا بنكاح ولا بغير نكاح، فمن أين يكون الولد؟
﴿قَالَ كَذَلِكِ﴾ قال من؟ الله عز وجل؛ لأنها نادت الله ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ ﴿قَالَ كَذَلِكِ﴾ يعني: الأمر كذلك، فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر، وعلى هذا فيحسن الوقوف هنا، أي يحسن أن تقف، فتقول: ﴿كَذَلِكِ﴾، ثم تبتدئ فتقول: ﴿اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾.
وهذا التركيب له نظائر في القرآن مثل قوله: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان ٥٤] وإنما تأتي هذه الصيغة للتقرير والتثبيت؛ يعني الأمر مثل ما وقع تمامًا.
وقوله: ﴿اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ، و﴿يَخْلُقُ﴾ الجملة خبر، يعني أن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء سواء كان على وفق العادة أو على خلاف العادة، فعيسى عليه الصلاة والسلام جاء على خلاف العادة، لكن مَثله عند الله ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران ٥٩] أي خلق آدم من تراب ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران ٥٩] والله على كل شيء قدير.
وقد ذكر أهل العلم أن البشر منهم من خُلق بلا أم ولا أب، ومنهم من خلق من أم بلا أب، ومنهم من خلق من أب بلا أم، وأكثر الخلق من أم وأب، فالذي خُلق من غير أم ولا أب: آدم، ومن أب بلا أم: حواء؛ امرأة آدم، ومن أم بلا أب: عيسى، وسائر الناس من أم وأب.
﴿اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: الذي يشاء كمًّا وكيفًا، وعلى سبب معلوم، وعلى سبب غير معلوم؛ فالله سبحانه وتعالى لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء، قلنا: بالكمية والكيفية، والسبب المعلوم والسبب غير المعلوم، والنوعية أيضًا، ما أكثر أنواع الخلق لا يحصيها الإنسان فضلًا عن أفرادها! وما أكثر الخلق لو أردت أن تحصى الخلائق ما استطعت، والله تعالى قد أحصاهم ورزقهم وأمدهم، وأعد كل مخلوق لما خُلق له، قال فرعون: ﴿مَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه ٤٩، ٥٠] كل شيء أعطاه خلقه المناسب له ثم هداه، هداه لما خُلق له، انظر أحيانًا تفتش الكتاب، تفتش الكتاب مراجعة تجد فيه حيوانًا لا يدركه البصر إلا بكلفة، حيوان داخل هذا الكتاب لا يدركه البصر إلا بكلفة، من خلقه؟ الله. ومن أعده للرزق؟ الله. ومن أمده برزقه المناسب له؟ هو الله عز وجل، فما بالك بالخلق الكثير الذي أكبر من هذا بكثير، فالمهم أن الله تعالى يخلق ما يشاء كمًّا وكيفًا ونوعًا، وبسبب معتاد، وبسبب غير معتاد، لا حرج على الله عز وجل يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء، قال: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران ٤٧]. ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿إِذَا قَضَى﴾ قضى أي: قضاء كونيًّا؛ لأن القضاء له معنيان: كوني وشرعي، فمن أمثلة الشرعي قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء ٢٣]. هذا قضاء شرعي، ومن أمثلة الكوني هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء ٤] قضينا شرعًا ولَّا كونًا؟
* الطلبة: كونًا.
* الشيخ: ما يصح شرعًا؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لأن الله لا يقضي شرعًا بالفساد أبدًا، فهو لا يحب الفساد، لكنه قضاء كوني، ما الفرق بين القضاءين الكوني والشرعي؟
الفرق بينهما أن القضاء الشرعي متعلق بما يحبه الله من فعل المأمور أو ترك المحظور.
ثانيا: القضاء الشرعي قد يقع وقد لا يقع، قد يقع من المقضي عليه وقد لا يقع، القضاء الكوني يتعلق فيما أحبه الله وما لا يحبه الله، القضاء الكوني لا بد أن يقع من المقضي عليه، فصار الفرق؟
* الطلبة: وجهين.
* الشيخ: أربعة أوجه أو وجهين؟
* الطلبة: وجهين.
* الشيخ: وجهين، وعند ما نذكر الشيء وضده تكون أربعة.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ [سبأ ١٤]؟
* الطلبة: كوني.
* الشيخ: هذا كوني ولَّا شرعي؟
* الطلبة: كوني.
* الشيخ: كوني، قوله تعالى: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [هود ٤٤]؟
* الطلبة: كوني.
* الشيخ: كوني. ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ [غافر ٢٠]؟
* الطلبة: شرعي..
* طالب: شامل.
* الشيخ: شرعي، أو شامل؟
* الطلبة: شامل.
* الشيخ: شامل، يعني حتى الكوني الذي يقضيه الله وإن كان شرًّا، لكن في المفعولات، أما في نفس القضاء فهو حق.
يقول الله عز وجل: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ (أمرًا) مفرد جمعه أمور ولَّا أوامر؟
* الطلبة: أمور.
* الشيخ: أمور، والمراد بالأمر هنا الشأن، يعني إذا قضى شأنًا أي شأن من الشؤون ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ما يحتاج إلى عمل، ولا إلى آلات، ولا إلى أي سبب، كل الخلائق مُسلِمة لله عز وجل ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران ٨٣] تنتظر الأوامر إذا صدر الأمر من الله عز وجل كان المأمور؛ الأمر الكوني يقول: ﴿كُنْ﴾ فقط ﴿فَيَكُونُ﴾.
قال الله تعالى عن البعث؛ بعث الخلائق كلها: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤]، وبين الله تعالى في سورة القمر كيف هذا الأمر هل يكرر؟ هل يتأخر المأمور؟ فقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر ٥٠] ما فيه التكرار واحدة، يتأخر المأمور؟ أيش؟
* الطلبة: ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾.
* الشيخ: ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ يعني لو شاء ربنا عز وجل لأمر هذه الأرض أن تزول ومن فيها بلحظة ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، هذه القدرة التامة العظمية التي لا تُنسب قُدر الخلق إليها.
﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (الفاء) هذه تفيد الترتيب، وإن شئت فقل: تفيد السببية، فإن قلت: إنها تفيد السببية فاقرأها بالنصب، وإن قلت: إنها تفيد الترتيب فاقرأها بالرفع، وكلتا القراءتين سبعية صحيحة، أن ﴿يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ﴾ أن ﴿يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فعلى قراءة الرفع تكون استئنافيه، والفاء عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب كن فهو يكون في الحال، وعلى قراءة النصب تكون الفاء للسببية، فكأن الكون مسبب عن القول، ومعلوم أن المسبب يأتي مقارنًا للسبب، على قراءة النصب ﴿كُنْ﴾ سبب ﴿فَيَكُونَ﴾ مسبب، ومن المعلوم أن المسبب يأتي عقب السبب فورًا؛ لأنه سببه، والسبب مقارن للمسبب، وعلى هذا فتكون كل من القراءتين مفيدة لمعنى غير المعنى الثاني لكنهما متلازمان، المعنيان متلازمان.
﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ طيب ﴿كُنْ﴾ ما ذكر الله سبحانه وتعالى أي شيء يكون عليه، بس يقول: ﴿كُنْ﴾ فيقع الشيء على مراد الله أو لا بد أن يقول: ﴿كُنْ﴾ ويبين ماذا يكون؟
* الطلبة: الأول.
* الشيخ: طيب الأول.
* طالب: الثاني.
* الشيخ: الأول، الثاني، الأول، الثاني، لما خلق الله القلم قال له: اكتب، كتب ولَّا ما كتب؟
* الطلبة: كتب.
* الشيخ: لا، ما كتب، «قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.[[أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (١٥٧٢) من حديث عبد الله بن عمر.]] » فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيمة. الله أكبر!
فالظاهر -والله أعلم- أن الشيء إذا قال الله له: كن، فلا بد أن يعين ماذا يكون بدليل حديث القلم، ولكنه إذا عين ما يكون فلا بد أن يكون الشيء على ما عين، فالقلم ما يعلم الغيب، لكن لما قال له الرب عز وجل: اكتب إلى ما هو كائن إلى يوم القيمة كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة؛ لأن الله أعلمه، أعلمه فكتب.
إذن كن كذا، وهذه لا بد منها بيان مجمل الأمر، لا بد منها، فهذا هو الظاهر، وإذا كان الله عز وجل إذا أمره فقال: كن كان على مراد الله فليس هذا بغريب على قدرة الله أيضًا، أن الله تعالى يجعل هذا الشيء يخضع لأمر الله الذي أراده عز وجل، وإن كان لم يُطلعه عليه، لكن الذي يترجح عندي بناء على حديث القلم أن الله عز وجل يأمره أن يكون، ويبين ماذا يكون عليه. ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ﴿يُعَلِّمُهُ﴾ الضمير يعود على عيسى، والفاعل الله عز وجل.
﴿يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ لأن عيسى كغيره من البشر؛ يعني لا يعلم إلا ما علمه الله، قال الله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن ٢٦، ٢٧].
﴿يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ الكتاب بمعنى المكتوب، وهل المراد أنه يُعلمه الكتابة؛ يعني يحسن الخط؟ أو المراد يعلمه الكتب السابقة؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني، كلاهما لا يتنافيان، فعلَّمه الكتابة فكتب، وعلَّمه الكتب السابقة، وعلمه التوراة والإنجيل. ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ من باب عطف الخاص على العام لشرفها، وأما ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ فهو لم ينزل على أحد قبل عيسى.
وقوله: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الشريعة؛ لأن الشريعة من الله، وكل ما كان من الله فهو متضمن للحكمة، قال الله تعالى لمحمد ﷺ: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء ١١٣].
فالحكمة هي الشرع، وهو موافق لمن فسر ذلك بالسنة؛ لأن سنة النبي ﷺ هي شرعه، هي شرعه الذي جاء به من الله، فعلمه الله عز وجل الحكمة، و(أل) في ﴿الْحِكْمَةَ﴾ هنا للعهد الذهني؛ يعني الشرع الذي شرعه الله لعيسى، ليس كل الحكمة، لكن للحكمة التي شرعت له.
﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ التوراة: الكتاب الذي أنزله الله على موسى، والإنجيل: الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، التوراة كتبها الله تعالى كتابة ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف ١٤٥] ولهذا قال أهل العلم من علماء السلف: إن الله تعالى غرس جنة عدن بيده، وخلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، فالتوراة مكتوبة من الله، كتبها بيده سبحانه وتعالى، ونزلت ألواحًا على موسى، وفيها ما تقتضيه المصلحة والحاجة والضرورة في ذلك الوقت، وأما الإنجيل فهو الكتاب الله الذي أنزله الله تعالى على عيسى، وهو بالنسبة للتوراة كالمكل لها كما قال تعالى فيما يأتي بالآيات: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران ٥٠] فهو كالمتمم للتوراة؛ لأنه بالحقيقة نزل على بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة، ومن المعلوم أن حال بني إسرائيل تغيرت من وقت موسى إلى عيسى، فكان في الإنجيل أشياء فيها تعديل أو زيادة، المهم أنه متمم للتوراة.
ثم قال: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿وَرَسُولًا﴾ (الواو) حرف عطف، ﴿وَرَسُولًا﴾ معطوف بجملتها على ما سبق أي: ويرسله رسولًا إلى بني إسرائيل.
والرسول: هو الذي أوحي إليه بالشرع وأُمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي، هذا هو المشهور عند عامة العلماء رحمهم الله.
وقيل: إن النبي لم يُوحَ إليه بشرع، وإنما كان مؤيدًا لشريعة قبله، يعني يُوحى إليه بتأييد الشريعة التي قبله، فكانت الأنبياء فيما سبق كالعلماء في هذه الأمة، وهذا وإن كان له وجه كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة ٤٤]. فقال: ﴿يَحْكُمُ بِهَا﴾ أي: بهذه التوراة ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾، لكن هذا القول يعكر عليه قضية آدم، فإن آدم نبي ومع ذلك لم يكن مجددًا لشريعة سابقة؛ إذ لم تنزل شريعة على البشر قبل آدم عليه الصلاة السلام، فلهذا يترجح تعريف الجمهور في النبي والرسول، وإذا قلنا: النبي من أوحي إليه بالشرع، فلا يمنع أن يكون هذا الشرع الذي أوحي إلى النبي هو شرع من قبله يوحى إليه تأكيدًا وتثبيتًا.
قال: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بني إسرائيل هذه بني اسم قبيلة، ولَّا اسم أشخاص معينين؟
* الطلبة: اسم قبيلة.
* الشيخ: اسم قبيلة كما يُقال: بنو تميم، والعلماء رحمهم الله تعالى يفرقون بين ابن وبني إذا كان اسمًا لقبيلة واسمًا لشخص معين، فإذا قالوا، وذكروا ذلك في باب الوقف وفرعوا عليه مسائل، إذا قلت: هذا وقف على بني فلان -وهم قبيلة- كبني تميم مثلًا، فهل يعم الجميع؟ وهل يشمل الذكور والإناث؟
قالوا: نعم، يعم الجميع، ويشمل الذكور والإناث، ولكن لا يجب التعميم، التعميم لا يجب، فلي أن أوزع هذا الوقف على ثلاثة من بني تميم فقط، ولي أن أعطي ثلاث نساء فقط؛ لأنه لا يختص بالرجال، بل يشمل الذكور والإناث؛ ولأنه لا يستلزم التعميم، أما لو قلت: هذا وقف على بني فلان، واحد من الناس، فإنه يجب تعميمهم دون الإناث، تعميم من؟ الذكور دون الإناث؛ لأن الابن غير البنت؛ ولأن بني فلان المعيّن محصورون يمكن حصرهم، فيجب تعميمهم والتساوي بينهم وإخراج النساء منهم، فبنو إسرائيل من أي الصنفين؟ من الأول من القبيلة، وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهم بني عم لبني إسماعيل، ولهذا لما بُعث النبي ﷺ في بني عمهم بني إسماعيل غارت اليهود من ذلك وأنكروه، وكانوا بالأول يستفتحون على الذين كفروا، يقولون: سيبعث نبي ونتبعه ونكتسحكم ونغلبكم ظنًّا منهم أنه سيكون من بني إسرائيل، وليس ظنًّا حقيقيًّا بل هو وهم؛ لأنهم يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم، ويعلمون أنه سيُبعث في مكة، لكن توهموا ذلك، أوهمتهم أنفسهم الكاذبة، فلما بُعث ببني إسماعيل أنكروه وكذبوه.
إسرائيل وأيش معناها؟ في السريانية قالوا: إن معناها، أو في العبرية: عبد الله، معناها عبد الله، الآن تُسمى الدولة اليهودية إسرائيل (...).
* * *
* طالب: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران 49 - ٥١].
* الشيخ: (...) ﴿اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ عبر هنا بالخلق، وفي قصة زكريا بالفعل ﴿يَفْعَلُ﴾ [آل عمران ٤٠] وهنا قال: ﴿يَخْلُقُ﴾ فهل هناك يعني نكتة، أو أنه اختلاف تعبير وهو من باب التفنن في التعبير كما يقولون؟
* طالب: اختلاف تعبير.
* الشيخ: اختلاف تعبير طيب.
* طالب: هنا فيه نكتة لطيفة.
* الشيخ: وهي؟
* الطالب: وهو عندما أخبر الملك كليم الله كلامًا كان هذا من الغريب الذي ليس (...) بينما في مريم فهو غريب تمامًا خارج عن العادة، ولم يكن لها زوج.
* طالب: يا شيخ، الحال هو وجود الإثبات (...) إنما هنا (...).
* الشيخ: إيه، هذا قريب منه، الظاهر اختلاف لفظ.
* طالب: شيخ، قد يكون يا شيخ في قصة زكريا أن الله عز وجل عندما أخبره بالفعل، أخبر بالفعل، لأن الخلق فاعل في الأصل.
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: أن الخلق سيكون من أصله، أما هنا قد لا يتوقع الخلق؛ لأن.
* الشيخ: اختلاف تعبير.
* الطالب: يعني يا شيخ ولدت هذه المرأة وهي لم يمسسها بشر، شابة، ولم يمسسها بشر أعجب من أن تلد عجوز عاقر.
* الشيخ: اختلاف تعبير.
* طالب: كما يقال: حتى (...).
* الشيخ: لا، هو على كل حال يقولون: إن ما ذكرتم هو قريب مما قاله العلماء، وهو صحيح؛ أن عيسى عليه الصلاة والسلام خُلق من غير ما جرت العادة به، خُلق على وجه لم تجرِ العادة بمثله إطلاقًا، فناسب التعبير بالخلق الدال على الإبداع، ولهذا يُقال: خلَق الله السماوات، ولا يقال: فعل الله السماوات، مع أن الخلق فِعله، لكن الخلق فيه نوع من الإبداع، ولذلك قال: خلق.
الوجه الثاني: الرد على شُبه النصارى الذين يقولون: إن عيسى هو الله، والله ثالث ثلاثة، فيكون فيه التصريح بأنه مخلوق، ويكون هذا قطعًا لدابر قولهم، ففيه إذن: نكتة كونية، ونكتة شرعية، يعني حكمة: شرعية وكونية، وأظن أنني لم أذكرها (...).
قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ رسولًا: ما الذي نصبها؟
* الطالب: حال.
* الشيخ: حال، رسول حال، من غير مشتق؟!
* الطالب: إي نعم، معطوف.
* الشيخ: إي، معطوف على أيش؟
* الطالب: مصدقًا ورسولًا.
* الشيخ: ما يصلح، ولا فيها، هو فيها مصدقا؟ ﴿يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا﴾.
* طالب: نعم على ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ على ما قبل الإنجيل.
* الشيخ: يعني ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ويعلمه رسولًا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا اصبر خليني أناقشة، ما أود الواحد يقول تخرصًا هكذا، أجب، يستقيم المعنى؟
* الطالب: لا يستقيم.
* الشيخ: إذن.
* الطالب: معطوفة على والإنجيل.
* الشيخ: والله المستعان! ما يصلح.
* طالب: شيخ، منصوب بفعل محذوف تقديره يرسله رسولًا.
* الشيخ: صح، ويرسله رسولًا. بنو إسرائيل من هم؟
* الطالب: بنو إسرائيل هم أبناء يعقوب الاثنا عشر.
* الشيخ: أبناء يعقوب الاثنا عشر، إذن إسرائيل هو؟
* الطالب: يعقوب عليه السلام.
* الشيخ: هو يعقوب ابن؟
* الطالب: ابن إسحاق.
* الشيخ: بن إبراهيم كذا؟ ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ فيها قراءتان، أخبرناكم بهما ولَّا لا؟
* الطلبة: لا (...).
* الشيخ: فيها قراءة بكسر الهمزة وفتحها، وبفتح الياء مع فتح الهمزة؛ ثلاث قراءات، ﴿أَنِّيَ﴾ ، ﴿أَنِّي﴾، ﴿إِنِّي﴾ .
قوله: ﴿أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فيكون طيرًا بإذن الله، يكون هذا الشيء طيرًا.
وقوله: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ أي: كمثله وصورته، فينفخ فيه فيكون طيرًا، وفي قراءة السبعية: ﴿فَيَكُونُ طَائرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، والقراءتان لكل واحدة منهما معنى يكمل الأخرى، فقوله: ﴿يَكُونُ طَيْرًا﴾ أي: طيرا حيًّا بعد أن كان على صورة الطير وليس فيه روح، ﴿يَكُونُ طَائرًا﴾ أي يطير؛ تشاهدونه يطير بالفعل، فعندنا ثلاث مراتب؛ تصوير على هيئة الطير، الثاني: طير فيه روح، على قراءة: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾، الثالث: طير يطير بالفعل على قراءة: ﴿طَائرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وعلى هذا فيكون يخلق شيئًا على هيئة الطير، فينفخ فيه فيكون فيه الروح، ثم يطير.
وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بإذنه الكوني والشرعي؛ لأن كونه يصور مضاهيًا لخلق الله يحتاج إلى إذن شرعي؛ لأن الأصل أنه لا يجوز لأحد أن يُصور على تصوير الله عز وجل، قال الله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٩٥٣)، ومسلم (٢١١١ / ١٠١) من حديث أبي هريرة.]] لكن الله تعالى أذن لعيسى عليه الصلاة والسلام لحكمة، هذا على تفسير بإذن الله، الإذن أيش؟
* الطلبة: الشرعي.
* الشيخ: الشرعي، كذلك الإذن الكوني، يعني بإذن الله الإذن الكوني؛ لأن خلق هذا الطير حتى يطير يكون بإذن الله الكوني ولَّا الشرعي؟
* الطلبة: الكوني.
* الشيخ: الكوني، أي: فيطير بإذن الله إذنًا كونيًّا، فعيسى عليه الصلاة والسلام يخلق كهيئة الطير بإذن الله الشرعي، فيكون طيرًا إذا نفخ فيه ويطير بإذن الله الكوني.
وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا من أجل تحقيق التوحيد، حتى لا يظن ظانّ أنه يخلق استقلالًا؛ لأنه لولا هذا التقييد بإذن الله لتوهم النصراني وغير النصراني أن عيسى عليه الصلاة والسلام يخلق، كما خلق الله آدم من طين على صورته، ثم نفخ فيه الروح، فصار بشرًا، فيظن الظان أن عيسى يخلق كخلق الله، فلهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾ أبرئ: بمعنى أشفي، والبُرء في الأصل من البراءة، والبراءة من الشيء السلامة منه، ومنه بَرِئَ من دَيْنِهِ: أي سلم من غائلته؛ غائلة الدين وضيق الدين، فالبُرء من المرض يعني السلامة والشفا منه.
وقوله: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الأكمه: قيل: إنه الذي لا يبصر ليلًا ويبصر نهارًا، وقيل: هو الذي يبصر ليلًا ولا يبصر نهارًا، وقيل: هو الذي لا يبصر إلا بمشقة، وقيل: الذي وُلد بلا عين، فإن كان الأكمه في اللغة العربية يحتمل هذه المعاني كلها، فهو للمعاني كلها، وإن كان لا يحتمل إلا معنى واحدًا، فأقرب الأقوال في ذلك أن الأكمه من وُلد بلا عين؛ لأن هذا أبلغ في القدرة؛ لأنه كلما كان أبلغ في القدرة كان أعظم في الآية، فنحن نقول: إن كانت اللغة العربية تُطلِق الأكمه على كل ما قيل فلتكن الآية شاملة، وإن لم تحتمل إلا معنى واحدًا فأقربها أن الأكمه من ولد بلا عين؛ لأن هذا أبلغ في القدرة، والأبرص من به برص، والبرص عيب يخرج في الإنسان من العيوب الجلدية، وهو قد يؤثر على الصحة العامة في البدن، وقد لا يؤثر، لكن البرص ليس له دواء، ليس له دواء فلهذا قال: أُبرئ الأبرص بإذن الله.
وقوله: ﴿أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أحيي الموتى الذين ماتوا أحييهم بإذن الله، وليس المراد بالموتى هنا موتى معينين، بل هو للجنس، فأي واحد من الأموات يمكن أن يقع عليه هذا الأمر، أما قول من قال: إنه أحيا سام بن نوح، أو أحيا فلانًا أو أحيا فلانًا، فهذا من الإسرائيليات، لكن الآية أنه يحيي الموتى أي ميت يقف عليه وهو ميت يأمره فيحيا بإذن الله.
﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أنبئكم: أخبركم بما تأكلونه اليوم وما تدخرونه للغد في بيوتكم، من غير أن يأتي أحد يخبره بذلك، وهذا فيه شيء من علم الغيب، فيه شيء من علم الغيب، فأخبرهم أن من جملة آياته أنه يخبر الإنسان، يقول: أكلت اليوم كذا وكذا وكذا، وادخرت لغد أو بعد غد كذا وكذا، مع أنه لم يبعث أحدًا يطلع على ما في البيت، وهذا لا يكون إلا بوحي من الله، إذا لم يكن هناك بشر يُطلعه على ما في البيوت، فإنه يكون من وحي الله، وقد يكون بواسطة الجن، فإن الجن ربما تخدم الإنس، فتذهب إلى الأمكنة البعيدة، أو تتسوَّر الجدران وتخبر بما في البيوت، لكن الجن على هذا الوصف لا يجوز الاستمتاع به، أو الاتصال به، لماذا؟
لأن اطلاعه على أحوال الناس ظلم وعدوان، ولا يجوز للإنسان أن يستعين بظالم على ظلمه، ولهذا يمتنع هذا التقدير في حق مَنْ؟ في حق عيسى عليه الصلاة والسلام.
يعني لو قال قائل: إن الذين يستعينون بالجن ربما يطلعون على ما يؤكل ويُدخر في البيوت. قلنا: لكن هذا لا يرد بالنسبة إلى عيسى؛ لأن الاستمتاع بالجن -على هذا الوجه- محرم، لما فيه من العدوان والظلم، لكن هو عيسى لا يمكن أن يفعل هذا، فتبين أنه يأتيه عن طريق الوحي.
والحكمة من إخبارهم بهذا هو إطلاعهم على أنه هو عليه الصلاة والسلام يأتيه الوحي من الله في أمور خاصة، في الأمور الخاصة، في البيوت، والثاني -والله أعلم- تحذيرهم من أن يأكلوا شيئًا محرمًا عليهم، ولهذا سيأتي أنه قال لهم: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران ٥٠]؛ لأنهم إذا كانوا يعلمون أنه يعلم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم فسوف يتوقفون عن الشيء المحرم، وهم إذا توقفوا عن الشيء المحرم ربما يسر الله لهم فيحله لهم.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران ٤٩ - ٥١].
* الشيخ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وهذه قرأناها كلها. قال الله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إن في ذلك: المشار إليه ما سبق من عدة أمور؛ قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ هذه ثلاث آيات، كل آية تدل على صدق عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول الله حقًّا؛ لأن مثل هذا لا يستط
يعه البشر، وآيات الأنبياء التي جاءت هي علامات على صدقهم لا يستطيع أن يأتي بمثلها البشر؛ لأن الآية لو أمكن للبشر أن يأتي بمثلها لم تكن آية، إذ إن كل إنسان يستطيع أن يفعل مثل هذا. وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني أنها آية بهذا القيد؛ أي: إن كنتم مؤمنين، وأما غير المؤمن فإنه لا ينتفع بالآيات، ولا تكون الآية آية له، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ١٠١]؛ لأن قلوبهم قاسية مطبوع عليها والعياذ بالله، لا يصل إليها الخير ولا تلين من أجل العقوبات والنذر؛ لأنها قاسية؛ فالمؤمن هو الذي ينتفع بالآيات، بل إن غير المؤمن يرى أن هذه الآيات العظيمة أساطير الأولين ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المطففين ١٣]. وذلك بسبب ما كان على قلبه من ظلمات المعاصي والعياذ بالله لقوله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين ١٤]. والإيمان سبق لنا معناه كثيرًا بأنه التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وليس مجرد التصديق، ودليل ذلك أنه لا يتعدى بما يتعدى به التصديق، فإنه لا يقال: آمنته، ويقال: صدقته، بل إنه يتضمن الإقرار والاعتراف والانقياد والتسليم، ومَن صدّق ولم يقبل ولم يذعن فليس بمؤم
ن، فأبو طالب عم النبي ﷺ كان مصدقًا برسالته، لكنه لم يقبل ولم يُذعن فلم يكن مؤمنًا، وإلا فإنه يصدق بما يقول بأشعاره وفي أحواله لكنه -والعياذ بالله- ليس بمؤمن، إذن الإيمان معنى زائد على التصديق، وليس هو مجرد التصديق. قال: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ هذه معطوفة على ما سبق؛ يعني أنها تكون منصوبة على الحال؛ يعني: وجئتكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة، وما بين يدي هو ما سبقه، ويطلق ما بين اليدين على ما سيأتي، فما بين اليدين يُطلق على ما مضى ويطلق على ما يستقبل، فإن قُرن بالخلف فهو للمستقبل، وإلا فإنه صالح للمستقبل والماضي، ففي قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة ٢٥٥] المراد؟
* الطلبة: المستقبل.
* الشيخ: المستقبل لقوله: ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾. وفي هذه الآية: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ أي: لما سبقني من التوراة، وتصديقه للتوراة له وجهان:
الوجه الأول: أنه يقرر صدقها ويقول: إنها كتاب حق.
والوجه الثاني: أنه يصدق ما أخبرت به، فإذا كانت أخبرت به، ثم بعث كان مصدقًا لما فيها.
وقوله: ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى ﷺ وهي أصل الكتب المنزلة على بني إسرائيل وأعظمها، بل هي أعظم الكتب -فيما نعلم- بعد القرآن.
﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ يعني: وجئتكم أيضًا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم قوله: ﴿لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي﴾ ولم يقل: كل، والمحرم عليهم ذَكره الله في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ [الأنعام ١٤٦]. وقال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء ١٦٠]، فلما حُرِّمت عليهم هذه الطيبات بظلمهم وعدوانهم، وبعث الله عيسى ﷺ أحل لهم بعض ما حرم عليهم، ولم يُذكر في القرآن بيان هذا البعض، فيكون باقيًا على إطلاقه، ولو كان لنا مصلحة في تعيين ذلك لبينه الله.
وقوله: ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ الفعل هنا مبني للمجهول، ولكن فاعله معلوم، من هو؟
* الطلبة: الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام ١٤٦].
﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كرر هذا مرة بعد قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾، فإما أن يقال: إن الآية التي ذُكرت هنا ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ تقتصر على تصديقه لما بين يديه من التوراة وعلى إحلاله بعض الذي حُرّم عليهم، وحينئذٍ لا يكون في الآية تكرار، وإما أن يقال: إن قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ يشمل كل ما جاء من الآيات، ويكون من باب التأكيد وإقامة الحجة عليهم، فكرر مجيئه بالآيات احتجاجًا عليهم بما كذبوه.
قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ اتقوا الله: يعني اتخذوا وقاية من عذابه؛ لأن التقوى مأخوذة من أي شيء؟
* الطلبة: من الوقاية.
* الشيخ: من الوقاية، فبماذا تكون الوقاية من عذابه؟ تكون بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا هو المعنى الشامل للتقوى عند الإطلاق، وإذا قُرنت التقوى بالبر صار المراد بها اجتناب المحارم مثل قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]. وقد عرَّف أهل العلم التقوى بعدة تعريفات لكن يجمعها ما ذكرناه من أنها اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
قال: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ أطيعون فيما أمرتكم به، وفيما نهيتكم عنه، وطاعته من التقوى بلا شك لكن نص عليها؛ لأنها تقوى خاصة فيما جاء به عيسى؛ لأن التقوى يُؤمر بها كل إنسان فإذا قال: أطيعون صارت تقوى خاصة في طاعة هذا الرسول الذي بُعث إلى قومه.
والطاعة قال العلماء في تفسيرها: إنها موافَقة الأمر تجنبًا للنهي وفعلًا للمأمور، فمن تجنب النهي ناويًا بذلك امتثال الأمر فهو مطيع، ومن فعل الأمر ناويًا بذلك امتثال الأمر أيضًا فهو مطيع، أما من ترك النهي -أو بعبارة أصح المنهي عنه- عجزًا عنه، فإن هذا ليس بمطيع، بل إذا سعى في أسبابه حتى عجز كان كمن فعله لقول النبي ﷺ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣١)، ومسلم (٢٨٨٨ / ١٦) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث.]].
ثم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ لما أمرهم بتقوى الله ذكر ما هو كالسبب في ذلك، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ والرب: هو الخالق المالك المتصرف، وتوحيد الله بالربوبية أن نؤمن بأنه لا خالق ولا مالك ولا مدبر إلا الله سبحانه وتعالى، وما يضاف من الخلق أو الملك أو التدبير لغير الله فإنه على وجه النقص ناقص، من حيث الشمول ومن حيث التصرف، فمثلًا الخلق يُضاف إلى غير الله، وقد مر علينا قريبًا أن عيسى قال: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ [آل عمران ٤٩]، وقال الله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون ١٤] وقال الله في الحديث القدسي: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٩٥٣)، ومسلم (٢١١١ / ١٠١) من حديث أبي هريرة.]] وقال النبي ﷺ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٩٥٠)، ومسلم (٢١٠٩ / ٩٨) من حديث عبد الله بن مسعود.]]. وقال عليه الصلاة والسلام: «يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢١٠٥)، ومسلم (٢١٠٧ / ٩٦)من حديث عائشة.]]، ولكن الخلق المضاف إلى غير الله عز وجل خلق ناقص ليس إيجادًا حقيقة، ولكنه تغيير لصورة، فمثلًا الإنسان يخلق من الخشب بابًا، هل هو خلق الخشب؟ ومن الحديد سيارة، هل خلق الحديد؟ أبدًا، ولكن غيَّر، حوّله من حال إلى حال فصار هذا خلقًا، لكنه ليس هو الذي أوجد الحديد أو الخشب حتى يقال: إن خلقه كخلق الله، أيضًا خلق الإنسان أو البشر عمومًا ليس عامًّا شاملًا؛ لأن كل إنسان يخلق ما صنع فقط، وما لم يصنعه فليس من خلقه، كذلك الملك ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران ١٨٩]. ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [المؤمنون ٨٨]، والآيات في إثبات الملك لله وحده كثيرة، ومع ذلك أضاف الله إلى غيره الملك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون ٦]، وفي قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور ٦١]، فهل نقول: إن هذا الملك كملك الله؟ لا، لا من حيث الشمول ولا من حيث التصرف، أما من حيث الشمول فلأن كل إنسان لا يملك أكثر مما تحت يده، ولذلك لا تملك كتابي، ولا أملك كتابك، أما ملك الله فهو عام شامل، وأما من حيث التصرف، فملك غير الله قاصر، لأن الإنسان لا يملك التصرف المطلق كما يريد، وإنما يتصرف حسب ما تقتضيه شريعة الله وحسب ما
يأذن به الله، لو أراد الإنسان أن يمزق كتابه، هل يملك ذلك؟ * طالب: ليس له ذلك.
* الشيخ: لا يملك ذلك، حرام عليه، يأثم، ولو أراد أن يمزق كتاب غيره كان حرامًا من وجهين: من وجه إفساد المال، ومن وجه العدوان على الغير؛ فالحاصل أن ملك الإنسان قاصر من ناحيتين: هما.
* طالب: ملك (...).
* الشيخ: لا ملك الإنسان قاصر
* الطالب: ملك الإنسان إي نعم، (...).
* الشيخ: نعم، فهو قاصر في التصرف.
* الطالب: من حيث الشمول.
* الشيخ: فهو قاصر من حيث الشمول طيب، أما التدبير فكذلك، الذي هو المعنى الثالث للربوبية التدبير، فالتدبير أيضًا يكون لغير الله، لكنه تدبير ناقص من حيث الشمول ومن حيث التصرف أيضًا، فالإنسان لا يُدبر كل شيء، لا يدبر إلا ما يملك تدبيره، ومع ذلك فتدبيره له تدبير ناقص على حسب ما يقتضيه به الشرع، لو أراد أن يدبر بعيره على وجه يشق عليه، يمشيها مع الوحل، يمشيها على النار وما أشبه ذلك هل يجوز؟
* الطلبة: لا يجوز.
* الشيخ: لا يجوز، فهو ناقص، لو أراد أن يرسل عليها شواظًا من نار يملك؟
* الطلبة: ما يملك.
* الشيخ: ما يملك، لكن الله عز وجل يملك، يملك هذا كله، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: ولا معارض له، المهم أن الربوبية هي انفراد الله بالملك بالخلق أيش؟ والملك والتدبير، ولا يعني ذلك أن لا أحد يشاركه في خلق أو ملك أو تدبير، لكن على وجه لا يماثل ما يثبت للخالق من ذلك، فالإنسان قد يخلق، يقال: إنه خلق، ويقال: إنه ملك، ويقال: دبر، لكنه -كما سمعتم- ناقص.
قوله: ﴿رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ بدأ بنفسه ليكون أول مذعن لهذا الرب عز وجل؛ لأن الرب خالق مالك مدبر فبدأ بنفسه ليكون هو أول من يذعن وينقاد لهذا الرب.
قال: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ (الفاء) هنا عاطفة وتفيد السببية؛ أي: فبسبب كونه ربًّا فاعبدوه، ولهذا نقول: إن الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية، وأن من أقر بتوحيد الربوبية وأنكر توحيد الألوهية فقد تناقض، ولذلك سفَّه الله المشركين الذين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ثم ينكرون توحيد الإلهية فيقول: ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ [غافر ٦٩]، ﴿أَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس ٣٢]، ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة ٧٥] وما أشبه ذلك مما يدل على أنه من السفه أن يقر الإنسان بأن الله وحده هو الخالق المالك المدبر، ثم يعبد غيره! فنقول مثلًا للمشرك: ألست تؤمن بالله؟ سيقول: بلى، أنه الخالق؟ بلى، أنه المالك؟ بلى، أنه المدبر؟ بلى، أنه لا خالق معه ولا مالك ولا مدبر؟ بلى، أؤمن بهذا كله، إذن كيف تجعل معه إلهًا تعبده؟ ومن كان غير الله فهو معبود أو عابد؟
* الطلبة: عابد.
* الشيخ: عابد مربوب، هو عبد مربوب لله عز وجل فكيف تجعله معبودًا مع الله؟! ولهذا قال: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ فالفاء إذن عاطفة تفيد السببية؛ أي: فبسبب كونه ربي وربكم اعبدوه وحده.
ما هي العبادة؟ العبادة مأخوذة من الذل (عَبَد) بمعنى (ذَلّ)، ومنه قولهم: طريق معبد؛ أي: مذلل لسالكيه، فأصلها الذل، لكنها بالنسبة لله عز وجل ذُل مقرون بمحبة وتعظيم، فكل من تعبد لله فإن تعبده هذا مقرون بهذين الأمرين؛ المحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون الطلب وبالتعظيم يكون الهرب؛ فالإنسان إذا أحب شيئًا طلبه، وإذا عظم شيئًا هابه وهرب منه وخاف منه، ولهذا كانت العبادة مبنية على الرجاء والخوف.
والعبادة تطلق أحيانًا على هذا المعنى الذي ذكرنا باعتبارها مصدرًا، ما هو الذي ذكرناه؟ التذلل لله مع المحبة والتعظيم، وتطلق أحيانًا على اسم المفعول أو على الشيء المتعبد به، وحينئذٍ نقول: إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فالصلاة مثلًا؟
* الطلبة: عبادة.
* الشيخ: عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وبر الوالدين عبادة، وصلة الأرحام عبادة، وهكذا، فأحيانًا تطلق على الفعل، وأحيانًا تطلق على المفعول، على الفعل فنفسرها بماذا؟ بأنها التذلل لله عز وجل حبًّا وتعظيمًا، وباعتبار المعمول أو المفعول اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه مما أمر به ورسوله.
قال: ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ هذا المشار إليه إما أقرب مذكور أو كل ما سبق، من قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا﴾ أي: تقوى الله، وطاعة رسوله، وتحقيق العبادة له صراط مستقيم أي: طريق، ولا يسمى الطريق صراطًا إلا إذا اجتمع فيه السعة والاعتدال؛ لأنه مأخوذ من (السَّرْط) وهو الابتلاع بسرعة، وإن شئت فقل: من (الزَّرْط) وهو الابتلاع بسرعة، والطريق الواسع المستقيم يبتلع سالكيه بسرعة؛ لأن الضيق لا يمشي الناس فيه إلا أيش؟
* الطلبة: ببطء.
* الشيخ: رويدًا رويدًا ببطء، وغير المستقيم لا يُوصل إلى الغاية إلا ببطء سواء كان انحرافه عن يمين وشمال، أو من حيث الصعود والنزول؛ فإنه إذا كان صاعدًا نازلًا أتعب السالك ولَّا لا؟
* الطلبة: إي نعم.
* الشيخ: فإذا قدرنا مثلًا أن جبلًا طوله خمسون مترًا وعرضه خمسون مترًا، كم يكون ما بين عرضه وعرضه الآخر؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: لا، صاعده الإنسان صاعده.
* الطلبة: مئة.
* الشيخ: لا، مئة وخمسين، مئة وخمسين، عرضه خمسون، وطوله خمسون في السماء ارتفاعه، بيصير مئة وخمسين، الصعود خمسون، والنزول خمسون، والمسطح خمسون، فإذا كان الصراط مستقيمًا في انحرافاته يمينًا وشمالًا وكذلك في الصعود والنزول اختصر الطريق، وهكذا أيضًا الصراط إذا قدَّرنا أن الغاية تصل إليها بالطريق المستقيم في ثلاثين مترًا، وهذا فيه تعاريج، كل تعريجه عشرة أمتار، وفيه عشر تعاريج، كم تصل إلى الغاية في المتر؟
بمئة، فالحاصل أن الصراط قال العلماء: لا يكون صراطًا إلا إذا كان واسعًا مستقيمًا وهو مأخوذ من (السَّرْط) أو (الزَّرْط)، والزرط تعرفون معناه عندكم في الأكل، أعطيته لقمة وحطها في فمه على طول بلعها وأيش يقول؟
* طالب: ازرطها.
* الشيخ: يقول: ازرطها. ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾ مستقيم؛ يعني لا اعوجاج فيه، ووصفه بالاستقامة بعد أن قلنا: إن الطريق هو الواسع المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج من باب التوكيد كما تقول: هو رجل رجل، كيف رجل رجل؟ وأيش معنى رجل رجل؟ يعني جامع لمعاني الرجولة، كذلك طريق مستقيم جامع لكل معنى الطريق، هذا صراط مستقيم.
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ في هذه الآية من الفوائد: تعظيم شأن مريم عليها الصلاة والسلام؛ حيث أمر الله نبيه أن يذكر قصتها لهذه الأمة، لأنّا قلنا: ﴿إِذْ قَالَتِ﴾ مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر إذ قالت.
* ومن فوائدها: فضيلة مريم، حيث خاطبتها الملائكة لقولها: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ إلى آخره.
ومن فوائدها على ما ذهب إليه بعض أهل العلم: أن مريم نبية؛ لأن الملائكة أوحت إليها، وقالت: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ إلى آخره، ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأنه ليس بصريح في أنها نُبِّئت، ومجرد خطاب الملائكة لها لا يثبت نبوتها؛ لأن النبوة إنما هي لمن أوحي إليه بشرع لا لمن أوحي إليه بثناء أو بتهيئته لما سيكون، بل لمن أوحي إليه بشرع، وهي لم يُوحَ إليها بشرع، فالأمر ليس بصريح، ولدينا آية تدل على أنه لا يُبعث من النساء نبي، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف ١٠٩]. إلا رجالًا: و(إلا) تفيد الحصر فتدل على أنه لا يمكن أن تكون امرأة من النساء نبية، وكذلك أيضًا قال النبي عليه الصلاة والسلام حين بلغه أن الفرس أمَّرُوا عليهم بنت كسرى قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»[[أخرجه البخاري (٤٤٢٥) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث.]]. وإذا كان القوم لا يفلحون مع الانتخاب فإنهم هم الذين انتخبوها وولَّوها، فكيف يمكن أن يُرسل الله تعالى امرأة ليفلح الناس على يدها؟!
صحيح أن المرأة تكون عالمة، تكون داعية، كما هو الواقع، أما أن تكون نبية يوحى إليها لتتولى السلطة -كما يقولون التشريعية والتنفيذية- فهذا بعيد، فالصواب: أن مريم من الصالحات القانتات، وليست من الأنبياء والرسل.
* ومن فوائد الآيات الكريمة: أن الله تعالى يصطفي من الناس من يشاء لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي: اختارك اختيارًا لم يشاركها فيه أحد؛ لأنها صارت خادمة لبيت المقدس مع أنه لا يخدمه عندهم إلا الرجال، فهذا نوع من الاصطفاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: براءة مريم مما ادعاه اليهود من كونها بغِيًّا لقوله: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾.
ومن فوائد الآية الكريمة: براءة مريم مما ادعاه اليهود من كونها بغيًّا؛ لقوله: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾، واليهود -قبحهم الله- اعتدوا على مريم وابنها، فقالوا في مريم: إنها بغي، وقالوا في ابنها عيسى: إنه ولد زنا وكذبوه، وقتلوه إثمًا لا حقيقة، كيف قتلوه إثمًا لا حقيقة؟ لأنهم أمضوا هذا الأمر الذي يظنون أنهم قتلوا به عيسى وصلبوه، وقالوا: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾، قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء ١٥٧]، فكانوا قتلة إثمًا لا حقيقة؛ لأن عيسى باقٍ إلى الآن.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مريم مفضلة ومصطفاة على نساء العالمين، ولكن هل هذا يتناول نساء العالمين إلى يوم القيامة؟ أو نساء العالمين في زمنها؟ يحتمل المعنيين، إما أن المراد: نساء العالمين في زمنها، ويكون قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسْيَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ»[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٣٤١١)، ومسلم (٢٤٣١ / ٧٠) من حديث أبي موسى الأشعري دون لفظ «وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» أما حديثها فهو حديث متفق عليه؛ البخاري (٣٤٣٢)، ومسلم (٢٤٣٠/ ٦٩) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: «خَيْر نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْر نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ».]]، يكون هذا مما أطلع الله عليه نبيه ولم تطلع الملائكة على هذا، والملائكة بلغت مريم ما بلغت به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تكرار أو جواز تكرار المناقب؛ لأن أوصاف الكمال كلما كررت ظهر من كمال الموصوف ما لم يكن معلومًا من قبل، واضح؟
ننطلق من هذه الفائدة إلى فائدة تتعلق بصفات الله عز وجل وهي: أن أكثر ما وصف الله به نفسه الصفاتُ الثبوتية التي يثبتها لنفسه، أما الصفات التي ينفيها عن نفسه فوصفه بها قليل بالنسبة لوصفه بصفات الإثبات؛ لأن صفات الإثبات كمال، كمالات، وصفات النفي نقائص، تُنفى لا لذاتها ولكن لإثبات كمال ضدها، مع أنها هي منفية أيضًا حقيقة.
ثم قال عز وجل: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
* من فوائد الآية الكريمة: بيان أنه كلما من الله على إنسان بشيء كانت مطالبته بالعبادة أكثر؛ لأن الملائكة لما قالت: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أمرتها بأيش؟ بالقنوت والسجود والركوع، فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان كلما ازدادت عليه نعم الله أن يزداد على ذلك شكرًا بالقنوت لله والركوع والسجود وسائر العبادات.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة القنوت لله، ولكن ما هو القنوت؟ دوام الطاعة والخشوع والاشتغال بالطاعة عما سواه؛ ولهذا لما نزلت هذه الآية: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة ٢٣٨] أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام ليشتغلوا بالطاعة عما سواها، فالقنوت: دوام الطاعة مع الاشتغال بها عن غيرها.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: فضيلة السجود والركوع؛ لقوله: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، مع أنه من القنوت، لكن لفضيلتهما نص عليهما.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز ترك الترتيب للمصلحة أو لمراعاة شيء آخر، وهو قوله: ﴿اسْجُدِي وَارْكَعِي﴾.
ولا يقول قائل: لعل الصلاة في عهدهم يقدم فيها السجود وفي هذه الشريعة يقدم فيها الركوع؟ تقول: الأصل خلاف ذلك، لكن نص على السجود بدأ به؛ لأنه أبلغ في القنوت من الركوع، كما ذكرناه في أثناء التفسير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن العبَّاد من الرجال أكثر من العبّاد من النساء، وأكثر لقوله: ﴿ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ولم يقل: مع الراكعات، إشارة إلى أن الكمال في الرجال، وكثرة العمل في الرجال أظهر منها في النساء؛ ولهذا كانت النساء أكثر أهل النار، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٣٠٤)، ومسلم (٨٠) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ».]].
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إلّا بلى، هذا في الصراط اللي يوم القيامة.
* طالب: كيف يسمى صراط؟
* الشيخ: نعم، يسمى صراطًا؛ لأن السالكين فيه ينفذون بسرعة بعضهم مثل لمح البصر، وبعضهم مثل البرق، ما في عائق يعوق، مع أنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دَحْض ومَزِلَّة[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٧٤٣٩)، ومسلم (١٨٣ / ٣٠٢) واللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري.]]، وهذا يدل على أنه طريق واسع كالعادة، والعلماء -مر علينا في التوحيد- أنهم مختلفون هل هو طريق عادي أو أنه كما جاء في صحيح مسلم -أنا أظنه عن أبي سعيد بلاغًا-: «أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ»[[أخرجه مسلم (١٨٣ / ٣٠٢) من حديث أبي سعيد الخدري بلاغًا.]].
* طالب: (...).
* الشيخ: ويش الأصل؟ ما الأصل؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: إيه، لكن ما هو الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله؟ أن يكون فعله هو أو فعله غيره؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: خلها قاعدة عامة: الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أنه قائم به، هذا هو الأصل، وذكرنا لكم أن العلماء قالوا: إن الله خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: هذا عام أريد به الخاص، (...) وأيضًا الرسول قال: «عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[[أخرجه البخاري (٦٦٠٤) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.]]، فهذا مما جهله الناس، يعني: ربما يكون عند الله له دواء ما ندري عنه.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: اختلاف الضميرين؛ لأنه قال: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء ٩١].
* الطالب: (...).
* الشيخ: يعني قصدك الطيور؟
* الطالب: نعم.
* الشيخ: أنا ظننت قصة مريم، الطيور، اقرأ آية المائدة.
* الطالب: قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾ [المائدة ١١٠].
* الشيخ: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾ وهنا قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ إذا حاول الإنسان وجود فرق معنوي واتضح له فهو الفرق، وإن لم يوجد فإنه يكون من باب اختلاف التعبير، يعني: لأن (هيئة) صالحة للتذكير والتأنيث، ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ يعني: مثل هيئة الطير، ﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا﴾ أي: في الهيئة، أو تنفخ في المِثْل، فعلى تقدير أنه ينفخ في المثل يكون؟
* طالب: ﴿فِيهِ﴾.
* الشيخ: ﴿فِيهِ﴾، أو ينفخ في الهيئة؟
* طلبة: ﴿فِيهَا﴾.
* الشيخ: يكون ﴿فِيهَا﴾.
* طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، عندما قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ ثم قال: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾ قال: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. وقال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ولم يقل: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؟
* الشيخ: لأن هذا علم، صفة فيه، وهذاك شيء متعدٍ إلى غيره، هذا خلق وإبراء، وإحياء.
* الطالب: وكذلك.
* الشيخ: لا هذا العلم، كلٌّ يعرف، اللي في البيت يعلم، اللي في بيت الإنسان يعلم ما أكله وما ادخره.
* طالب: على كده يا شيخ يترجح القول بأنه كان يستعين كما استعان سليمان عليه السلام بالجن؟
* الشيخ: لا، ما يتوجه؛ لأن هذا من باب الوحي.
* طالب: هل يوجد تفاضل بين أركان الصلاة في الركوع والسجود؟
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: يعني التفاضل بينها هي نفسها؟
* الشيخ: إي نعم، هي نفسها.
* الطالب: كيف ذلك؟
* الشيخ: الركوع أفضل من وجه، والسجود أفضل من وجه، من جهة أن الساجد أقرب ما يكون لله، وقد وضع أعز ما فيه على الأرض يكون السجود أفضل.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":42,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ","ذَ ٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلۡغَیۡبِ نُوحِیهِ إِلَیۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یُلۡقُونَ أَقۡلَـٰمَهُمۡ أَیُّهُمۡ یَكۡفُلُ مَرۡیَمَ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ","إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ","وَیُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ","قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی وَلَدࣱ وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱۖ قَالَ كَذَ ٰلِكِ ٱللَّهُ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ إِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ","وَیُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ","وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ","وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ","إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَـٰذَا صِرَ ٰطࣱ مُّسۡتَقِیمࣱ"],"ayah":"وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق