الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ورَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ أنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: ونُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ ونَبْعَثُهُ رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ، قائِلًا: أنّى قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكم، والحَذْفُ حَسَنٌ إذا لَمْ يُفْضِ إلى الِاشْتِباهِ. الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: الِاخْتِيارُ عِنْدِي أنَّ تَقْدِيرَهُ: ويُكَلِّمُ النّاسَ رَسُولًا، وإنَّما أضْمَرْنا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ والمَعْنى: ويُكَلِّمُهم رَسُولًا بِأنِّي قَدْ جِئْتُكم، الثّالِثُ: قالَ الأخْفَشُ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الواوَ زائِدَةً، والتَّقْدِيرُ: ويُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ، قائِلًا: أنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ رَسُولًا إلى كُلِّ بَنِي إسْرائِيلَ بِخِلافِ قَوْلِ بَعْضِ اليَهُودِ إنَّهُ كانَ مَبْعُوثًا إلى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنهم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المُرادُ بِالآيَةِ الجِنْسُ لا الفَرْدُ؛ لِأنَّهُ تَعالى عَدَّدَ هاهُنا أنْواعًا مِنَ الآياتِ، وهي إحْياءُ المَوْتى، وإبْراءُ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، والإخْبارُ عَنِ المُغَيَّباتِ فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ الجِنْسَ لا الفَرْدَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿أنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى هاهُنا خَمْسَةَ أنْواعٍ مِن مُعْجِزاتِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: النَّوْعُ الأوَّلُ ما ذَكَرَهُ هاهُنا في هَذِهِ الآيَةِ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ”أنِّي“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ نافِعٌ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، فَمَن فَتَحَ ”أنِّي“ فَقَدْ جَعَلَها بَدَلًا (p-٤٩)مِن ”آيَةٍ“ كَأنَّهُ قالَ: وجِئْتُكم بِأنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ، ومَن كَسَرَ فَلَهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: الِاسْتِئْنافُ وقَطْعُ الكَلامِ مِمّا قَبْلَهُ. والثّانِي: أنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿أنِّي أخْلُقُ لَكُمْ﴾ ويَجُوزُ أنْ يُفَسِّرَ الجُمْلَةَ المُتَقَدِّمَةَ بِما يَكُونُ عَلى وجْهِ الِابْتِداءِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [ المائِدَة: ٩ ] ثُمَّ فَسَّرَ المَوْعُودَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهم مَغْفِرَةٌ﴾ [ المائِدَة: ٩ ] وقالَ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩] ثُمَّ فَسَّرَ المَثَلَ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] وهَذا الوَجْهُ أحْسَنُ؛ لِأنَّهُ في المَعْنى كَقِراءَةِ مَن فَتَحَ ”أنِّي“ عَلى جَعْلِهِ بَدَلًا مِن ”آيَةٍ“ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ﴾ أيْ أُقَدِّرُ وأُصَوِّرُ وقَدْ بَيَّنّا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] أنَّ الخَلْقَ هو التَّقْدِيرُ ولا بَأْسَ بِأنْ نَذْكُرَهُ هاهُنا أيْضًا فَنَقُولُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ والشِّعْرُ والِاسْتِشْهادُ: أمّا القُرْآنُ فَآياتٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٤] أيِ المُقَدِّرِينَ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ العَبْدَ لا يَكُونُ خالِقًا بِمَعْنى التَّكْوِينِ والإبْداعِ فَوَجَبَ تَفْسِيرُ كَوْنِهِ خالِقًا بِالتَّقْدِيرِ والتَّسْوِيَةِ. وثانِيها: أنَّ لَفْظَ الخَلْقِ يُطْلَقُ عَلى الكَذِبِ قالَ تَعالى في سُورَةِ الشُّعَراءِ: ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٧] وفي العَنْكَبُوتِ ﴿وتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] وفي سُورَةِ ص ﴿إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾ [ص: ٧] والكاذِبُ إنَّما سُمِّيَ خالِقًا لِأنَّهُ يُقَدِّرُ الكَذِبَ في خاطِرِهِ ويُصَوِّرُهُ. وثالِثُها: هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها وهي قَوْلُهُ: ﴿أنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ﴾ أيْ أُصَوِّرُ وأُقَدِّرُ وقالَ تَعالى في المائِدَةِ: ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [المائدة: ١١٠] وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الخَلْقَ هو التَّصْوِيرُ والتَّقْدِيرُ. ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] وقَوْلُهُ: (خَلَقَ) إشارَةٌ إلى الماضِي، فَلَوْ حَمَلْنا قَوْلَهُ: (خَلَقَ) عَلى الإيجادِ والإبْداعِ، لَكانَ المَعْنى: أنَّ كُلَّ ما في الأرْضِ فَهو تَعالى قَدْ أوْجَدَهُ في الزَّمانِ الماضِي، وذَلِكَ باطِلٌ بِالِاتِّفاقِ، فَإذَنْ وجَبَ حَمْلُ الخَلْقِ عَلى التَّقْدِيرِ حَتّى يَصِحَّ الكَلامُ وهو أنَّهُ تَعالى قَدَّرَ في الماضِي كُلَّ ما وُجِدَ الآنَ في الأرْضِ، وأمّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ: ؎ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي وقَوْلُهُ: ؎ولا يُعْطِي بِأيْدِي الخالِقِ ولا ∗∗∗ أيْدِي الخَوالِقِ إلّا جَيِّدُ الأُدُمِ وأمّا الِاسْتِشْهادُ: فَهو أنَّهُ يُقالُ: خَلَقَ النَّعْلَ إذا قَدَّرَها وسَوّاها بِالقِياسِ، والخَلاقُ المِقْدارُ مِنَ الخَيْرِ، وفُلانٌ خَلِيقٌ بِكَذا، أيْ لَهُ هَذا المِقْدارُ مِنَ الِاسْتِحْقاقِ، والصَّخْرَةُ الخَلْقاءُ المَلْساءُ، لِأنَّ المَلاسَةَ اسْتِواءٌ، وفي الخُشُونَةِ اخْتِلافٌ، فَثَبَتَ أنَّ الخَلْقَ عِبارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ والتَّسْوِيَةِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في لَفْظِ ”الخالِقِ“ قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ البَصْرِيُّ: إنَّهُ لا يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ والتَّسْوِيَةَ عِبارَةٌ عَنِ الظَّنِّ والحُسْبانِ وذَلِكَ عَلى اللَّهِ مُحالٌ، وقالَ أصْحابُنا: الخالِقُ، لَيْسَ إلّا اللَّهُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦] ومِنهم مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ﴾ [فاطر: ٣] وهَذا ضَعِيفٌ، لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ﴾ [فاطر: ٣] فالمَعْنى هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ مَوْصُوفٌ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رازِقًا مِنَ السَّماءِ، ولا يَلْزَمُ مِن صِدْقِ قَوْلِنا: الخالِقُ الَّذِي يَكُونُ هَذا شَأْنَهُ، لَيْسَ إلّا اللَّهُ، صِدْقُ قَوْلِنا إنَّهُ لا خالِقَ إلّا اللَّهُ. (p-٥٠)وأجابُوا عَنْ كَلامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ بِأنَّ التَّقْدِيرَ والتَّسْوِيَةَ عِبارَةٌ عَنِ العِلْمِ والظَّنِّ لَكِنَّ الظَّنَّ وإنْ كانَ مُحالًا في حَقِّ اللَّهِ تَعالى فالعِلْمُ ثابِتٌ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ﴿أنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ﴾ مَعْناهُ: أُصَوِّرُ وأُقَدِّرُ وقَوْلُهُ: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ فالهَيْئَةُ: الصُّورَةُ المُهَيَّئَةُ مِن قَوْلِهِمْ: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إذْ قَدَّرْتَهُ، وقَوْلُهُ: (فَأنْفُخُ فِيهِ) أيْ في ذَلِكَ الطِّينِ المُصَوَّرِ. * * * وقَوْلُهُ: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ ”فَيَكُونُ طائِرًا“ بِالألِفِ عَلى الواحِدِ، والباقُونَ ”طَيْرًا“ عَلى الجَمْعِ، وكَذَلِكَ في المائِدَةِ، والطَّيْرُ: اسْمُ الجِنْسِ يَقَعُ عَلى الواحِدِ وعَلى الجَمْعِ. يُرْوى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا ادَّعى النُّبُوَّةَ، وأظْهَرَ المُعْجِزاتِ، أخَذُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَيْهِ وطالَبُوهُ بِخَلْقِ خُفّاشٍ، فَأخَذَ طِينًا وصَوَّرَهُ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ، فَإذا هو يَطِيرُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، قالَ وهْبٌ: كانَ يَطِيرُ ما دامَ النّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَإذا غابَ عَنْ أعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ النّاسُ فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الخُفّاشِ، وكانَتْ قِراءَةُ نافِعٍ عَلَيْهِ. وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ خَلَقَ أنْواعًا مِنَ الطَّيْرِ وكانَتْ قِراءَةُ الباقِينَ عَلَيْهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ رَقِيقٌ كالرِّيحِ، ولِذَلِكَ وصَفَها بِالفَتْحِ، ثُمَّ هاهُنا بَحْثٌ، وهو أنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في نَفْسِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - خاصِّيَّةً، بِحَيْثُ مَتى نَفَخَ في شَيْءٍ كانَ نَفْخُهُ فِيهِ مُوجِبًا لِصَيْرُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ حَيًّا، أوْ يُقالُ: لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلِ اللَّهُ تَعالى كانَ يَخْلُقُ الحَياةَ في ذَلِكَ الجِسْمِ بِقُدْرَتِهِ عِنْدَ نَفْخَةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فِيهِ عَلى سَبِيلِ إظْهارِ المُعْجِزاتِ، وهَذا الثّانِي هو الحَقُّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ٢] وحُكِيَ عَنْ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ في مُناظَرَتِهِ مَعَ المَلِكِ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فَلَوْ حَصَلَ لِغَيْرِهِ هَذِهِ الصِّفَةُ لَبَطَلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلالُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: القُرْآنُ دَلَّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما تَوَلَّدَ مِن نَفْخِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في مَرْيَمَ، وجِبْرِيلُ ﷺ رُوحٌ مَحْضٌ ورُوحانِيٌّ مَحْضٌ فَلا جَرَمَ كانَتْ نَفْخَةُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِلْحَياةِ والرُّوحِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (بِإذْنِ اللَّهِ) مَعْناهُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعالى وتَخْلِيقِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥] أيْ إلّا بِأنْ يُوجِدَ اللَّهُ المَوْتَ، وإنَّما ذَكَرَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هَذا القَيْدَ إزالَةً لِلشُّبْهَةِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنِّي أعْمَلُ هَذا التَّصْوِيرَ، فَأمّا خَلْقُ الحَياةِ فَهو مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ إظْهارِ المُعْجِزاتِ عَلى يَدِ الرُّسُلِ. * * * وأمّا النَّوْعُ الثّانِي والثّالِثُ والرّابِعُ مِنَ المُعْجِزاتِ ﴿وأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيِي المَوْتى بِإذْنِ اللَّهِ﴾ فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيِي المَوْتى بِإذْنِ اللَّهِ﴾ . (p-٥١)ذَهَبَ أكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ إلى أنَّ الأكْمَهَ هو الَّذِي وُلِدَ أعْمى، وقالَ الخَلِيلُ وغَيْرُهُ هو الَّذِي عَمِيَ بَعْدَ أنْ كانَ بَصِيرًا، وعَنْ مُجاهِدٍ هو الَّذِي لا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، ويُقالُ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أكْمَهُ غَيْرَ قَتادَةَ بْنِ دِعامَةَ السَّدُوسَيِّ صاحِبِ التَّفْسِيرِ، ورُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - رُبَّما اجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ ألْفًا مِنَ المَرْضى مَن أطاقَ مِنهم أتاهُ، ومَن لَمْ يُطِقْ أتاهُ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، وما كانَتْ مُداواتُهُ إلّا بِالدُّعاءِ وحْدَهُ، قالَ الكَلْبِيُّ: كانَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُحْيِي الأمْواتَ بِيا حَيُّ يا قَيُّومُ. وأحْيا عازِرَ وكانَ صَدِيقًا لَهُ، ودَعا سامَ بْنَ نُوحٍ مِن قَبْرِهِ، فَخَرَجَ حَيًّا، ومَرَّ عَلى ابْنٍ مَيِّتٍ لِعَجُوزٍ فَدَعا اللَّهَ، فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ حَيًّا، ورَجَعَ إلى أهْلِهِ ووُلِدَ لَهُ، وقَوْلُهُ: (بِإذْنِ اللَّهِ) رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ مَنِ اعْتَقَدَ فِيهِ الإلَهِيَّةَ. * * * وأمّا النَّوْعُ الخامِسُ ﴿وأُنَبِّئُكم بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ﴾ مِنَ المُعْجِزاتِ إخْبارُهُ عَنِ الغُيُوبِ فَهو قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهُ: ﴿وأُنَبِّئُكم بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ مِن أوَّلِ مَرَّةٍ يُخْبِرُ عَنِ الغُيُوبِ، رَوى السُّدِّيُّ: أنَّهُ كانَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيانِ، ثُمَّ يُخْبِرُهم بِأفْعالِ آبائِهِمْ وأُمَّهاتِهِمْ، وكانَ يُخْبِرُ الصَّبِيَّ بِأنَّ أُمَّكَ قَدْ خَبَأتْ لَكَ كَذا فَيَرْجِعُ الصَّبِيُّ إلى أهْلِهِ ويَبْكِي إلى أنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ثُمَّ قالُوا لِصِبْيانِهِمْ: لا تَلْعَبُوا مَعَ هَذا السّاحِرِ، وجَمَعُوهم في بَيْتٍ، فَجاءَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَطْلُبُهم، فَقالُوا لَهُ: لَيْسُوا في البَيْتِ، فَقالَ: فَمَن في هَذا البَيْتِ، قالُوا: خَنازِيرُ قالَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَذَلِكَ يَكُونُونَ فَإذا هم خَنازِيرُ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ الإخْبارَ عَنِ الغُيُوبِ إنَّما ظَهَرَ وقْتَ نُزُولِ المائِدَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ نُهُوا عَنِ الِادِّخارِ، فَكانُوا يُخَزِّنُونَ ويَدَّخِرُونَ، فَكانَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُخْبِرُهم بِذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ عَلى هَذا الوَجْهِ مُعْجِزَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ المُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْراجَ الخَبَرِ لا يُمْكِنُهم ذَلِكَ إلّا عَنْ سُؤالٍ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يَسْتَعِينُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِآلَةٍ ويَتَوَصَّلُونَ بِها إلى مَعْرِفَةِ أحْوالِ الكَواكِبِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأنَّهم يَغْلَطُونَ كَثِيرًا، فَأمّا الإخْبارُ عَنِ الغَيْبِ مِن غَيْرِ اسْتِعانَةٍ بِآلَةٍ، ولا تَقَدُّمِ مَسْألَةٍ لا يَكُونُ إلّا بِالوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعالى. * * ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - خَتَمَ كَلامَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ . والمَعْنى إنَّ في هَذِهِ الخَمْسَةِ لَمُعْجِزَةً قاهِرَةً قَوِيَّةً دالَّةً عَلى صِدْقِ المُدَّعِي لِكُلِّ مَن آمَنَ بِدَلائِلَ (p-٥٢)المُعْجِزَةِ في الحَمْلِ عَلى الصِّدْقِ، بَلْ مَن أنْكَرَ دَلالَةَ أصْلِ المُعْجِزِ عَلى صِدْقِ المُدَّعِي، وهُمُ البَراهِمَةُ، فَإنَّهُ لا يَكْفِيهِ ظُهُورُ هَذِهِ الآياتِ، أمّا مَن آمَنَ بِدَلالَةِ المُعْجِزِ عَلى الصِّدْقِ لا يَبْقى لَهُ في هَذِهِ المُعْجِزاتِ كَلامٌ البَتَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب