الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ الكِتابَ المُنَزَّلَ عَلَيْهِ حَسُنَ ذِكْرُ الرِّسالَةِ فَقالَ بَعْدَ ما أفادَ عَظَمَتَها بِجَعْلِهِ ما مَضى مُقَدِّماتٍ لَها: ﴿ورَسُولا﴾ عَطْفًا عَلى ”تالِيًا“ المُقَدَّرِ، أوْ يُنْصَبُ بِتَقْدِيرِ: يَجْعَلُهُ ﴿إلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيْ بِالإنْجِيلِ. ولَمّا كانَ ذِكْرُ الرِّسالَةِ مُوجِبًا لِتَوَقُّعِ الآيَةِ دَلالَةً عَلى صِحَّتِها، وكانَ مِن شَأْنِ الرَّسُولِ مُخاطَبَةُ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ وإقْبالُهُ بِجَمِيعِ رِسالَتِهِ عَلَيْهِمْ أتْبَعَهُ بِبَيانِ الرِّسالَةِ مَقْرُونًا بِحَرْفِ التَّوَقُّعِ فَقالَ: ﴿أنِّي﴾ أيْ ذاكِرًا أنِّي ﴿قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيِ الَّذِي طالَ إحْسانُهُ إلَيْكُمْ، ثُمَّ أبْدَلَ مِن ”آيَةٍ“ ﴿أنِّي أخْلُقُ لَكُمْ﴾ أيْ لِأجْلِ تَرْبِيَتِكم بِصَنائِعِ اللَّهِ (p-٤٠٣)﴿مِنَ الطِّينِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: هو مُتَخَمِّرُ الماءِ والتُّرابِ حَيْثُ يَصِيرُ مُتَهَيِّئًا لِقَبُولِ وقْعِ الصُّورَةِ فِيهِ ﴿كَهَيْئَةِ﴾ وهي كَيْفِيَّةُ وضْعِ أعْضاءِ الصُّورَةِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ الَّتِي يُدْرِكُها ظاهِرُ الحِسِّ - انْتَهى وهي الصُّورَةُ المُتَهَيِّئَةُ لِما يُرادُ مِنها ﴿الطَّيْرِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِياجَهُ في إحْيائِهِ إلى مُعالَجَةٍ بِقَوْلِهِ مُعْقِبًا لِلتَّصْوِيرِ: ﴿فَأنْفُخُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ النَّفْخِ، وهو إرْسالُ الهَواءِ مِن مُنْبَعَثِهِ بِقُوَّةٍ انْتَهى. ﴿فِيهِ﴾ أيْ في ذَلِكَ الَّذِي هو مِثْلُ الهَيْئَةِ ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ أيْ طائِرًا بِالفِعْلِ - كَما في قِراءَةِ نافِعٍ، وذَكَرَ المُعالَجَةَ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّهُ خالِقٌ حَقِيقَةً، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ إزالَةً لِجَمِيعِ الشُّبَهِ بِقَوْلِهِ: ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ بِتَمْكِينِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ، لَهُ رُوحٌ كامِلٌ لِحَمْلِهِ في الهَواءِ تَذْكِيرًا بِخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن تُرابٍ، وإشارَةً إلى أنَّ هَذا أعْجَبُ مِن خَلْقِ آدَمِيٍّ مِن أُنْثى فَقَطْ فَلا تَهْلِكُوا في ذَلِكَ. ولَمّا ذَكَرَ ما يُشْبِهُ أمْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتْبَعَهُ عِلاجَ أجْسادِ أوْلادِهِ بِما يَرُدُّها إلى مُعْتادِها بِما يُعْجِزُ أهْلَ زَمانِهِ، وكانَ الغالِبُ عَلَيْهِمُ الطِّبَّ وبَدَأ بِأجْزائِها فَقالَ: ﴿وأُبْرِئُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الإبْراءِ (p-٤٠٤)وهُوَ تَمامُ التَّخَلُّصِ مِنَ الدّاءِ، والدّاءُ ما يُوهِنُ القُوى ويُغَيِّرُ الأفْعالَ العامَّةَ لِلطَّبْعِ والِاخْتِيارِ. انْتَهى. ﴿الأكْمَهَ والأبْرَصَ﴾ بِإيجادِ ما فُقِدَ مِنها مِنَ الرُّوحِ المَعْنَوِيِّ؛ والكَمَهُ - قالَ الحَرالِّيُّ - ذَهابُ البَصَرِ في أصْلِ الخِلْقَةِ كالَّذِي يُولَدُ أعْمى أوْ يَعْمى قَبْلَ أنْ يُمَيِّزَ الأشْياءَ أوْ يُدْرِكَها. والبَرَصُ أصْلُ مَعْناهُ: تَلَمُّعُ الشَّيْءِ بِلَمْعٍ خِلافَ ما هو عَلَيْهِ، ومِنهُ بِراصُ الأرْضِ - لِبُقَعٍ لا نَبْتَ فِيها، ومِنهُ البَرِيصُ في مَعْنى البَصِيصِ، فَما تَلَمَّعَ مِنَ الجِلْدِ عَلى غَيْرِ حالِهِ فَهو لِذَلِكَ بَرَصٌ وقالَ الحَرالِّيُّ: البَرَصُ عِبارَةٌ عَنْ سُوءِ مِزاجٍ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ تَكَرُّجٌ، أيْ فَسادُ بَلْغَمٍ يُضْعِفُ القُوَّةَ المُغَيِّرَةَ عَنْ إحالَتِهِ إلى لَوْنِ الجَسَدِ. انْتَهى. ولَمّا فَرَغَ مِن رَدِّ الأرْواحِ إلى أجْزاءِ الجِسْمِ أتْبَعَهُ رَدَّ الرُّوحِ الكامِلَ في جَمِيعِهِ المُحَقِّقَ لِأمْرِ البَعْثِ المُصَوِّرَ لَهُ بِإخْراجِهِ مِن عالَمِ الغَيْبِ إلى عالَمِ الشَّهادَةِ في بَعْضِ الآدَمِيِّينَ فَقالَ: ﴿وأُحْيِي المَوْتى﴾ أيْ بِرَدِّ أرْواحِهِمْ إلى أشْباحِهِمْ، بَعْضُهم بِالفِعْلِ وبَعْضُهم بِالقُوَّةِ، لِأنَّ الَّذِي أقْدَرَنِي عَلى البَعْضِ قادِرٌ عَلى ذَلِكَ في الكُلِّ، وقَدْ أعْطانِي قُوَّةَ ذَلِكَ، (p-٤٠٥)وهَذا كَما نَقَلَ القُضاعِيُّ أنَّ الحَسَنَ قالَ: «أتى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ أنَّهُ طَرَحَ بُنَيَّةً لَهُ في وادِي كَذا، فَمَضى مَعَهُ إلى الوادِي وناداها بِاسْمِها: يا فُلانَةُ! أجِيبِي بِإذْنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى! فَخَرَجَتْ وهي تَقُولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ! فَقالَ لَها: إنَّ أبَوَيْكِ قَدْ أسْلَما فَإنْ أحْبَبْتِ أرُدُّكِ إلَيْهِما، فَقالَتْ: لا حاجَةَ لِي بِهِما، وجَدْتُ اللَّهَ خَيْرًا لِي مِنهُما» وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ عِنْدَ ﴿أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] ما يَنْفَعُ هُنا، وقِصَّةُ قَتادَةَ بْنِ دِعامَةٍ في رَدِّهِ ﷺ عَيْنَهُ بَعْدَ أنْ أصابَها سَهْمٌ فَسالَتْ عَلى خَدِّهِ، فَصارَتْ أحْسَنَ مِن أُخْتِها شَهِيرَةٌ، وقِصَّةُ أُوَيْسٍ القَرْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في إبْراءِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لَهُ مِنَ البَرَصِ بِبِرِّهِ لِأُمِّهِ كَذَلِكَ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ مِن أمْرِ الإحْياءِ الَّذِي هو مِن خَواصِّ الإلَهِيَّةِ وأبْطَنِ آياتِ المَلَكُوتِيَّةِ رُبَّما أوْرَثَ لَبْسًا في أمْرِ الإلَهِ تَبَرَّأ مِنهُ ورَدَّهُ إلى مَن هو لَهُ، مُزِيلًا لِلَّبْسِ ومُوَضِّحًا لِلْأمْرِ فَقالَ مُكَرِّرًا لِما قَدَّمَهُ في مِثْلِهِ مُعَبِّرًا بِما يَدُلُّ عَلى عِظَمِهِ: ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ بِعِلْمِهِ وتَمْكِينِهِ، (p-٤٠٦)ثُمَّ أتْبَعَهُ ما هو مِن جِنْسِهِ في الإخْراجِ مِن عالَمِ الغَيْبِ إلى عالَمِ الشَّهادَةِ فَقالَ: ﴿وأُنَبِّئُكُمْ﴾ أيْ مِنَ الأخْبارِ الجَلِيلَةِ مِن عالَمِ الغَيْبِ ﴿بِما تَأْكُلُونَ﴾ أيْ مِمّا لَمْ أُشاهِدْهُ، بَلْ تَقْطَعُونَ بِأنِّي كُنْتُ غائِبًا عَنْهُ ﴿وما تَدَّخِرُونَ﴾ ولَمّا كانَ مَسْكَنُ الإنْسانِ أعَزَّ البُيُوتِ عِنْدَهُ وأخْفى لِما يُرِيدُ أنْ يُخْفِيَهُ قالَ: ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الادِّخارِ: افْتِعالٌ مِنَ الدُّخْرَةِ، قُلِبَ حَرْفاهُ الدّالُ لِتَوَسُّطِ الدّالِ بَيْنَ تَطَرُّفِهِما في مُتَقابِلَيْ حالِهِما؛ والدُّخْرَةُ ما اعْتُنِيَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ عُدَّةً لِما شَأْنُهُ أنْ يُحْتاجَ إلَيْهِ فِيهِ، فَما كانَ لِصَلاحٍ خاصَّةِ الماسِكِ فَهو ادِّخارٌ، وما كانَتْ لِتُكْسَبَ فِيما يَكُونُ مِنَ القِوامِ فَهو احْتِكارٌ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الخَوارِقَ نَبَّهَ عَلى أمْرِها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرِ العَظِيمِ ﴿لآيَةً لَكُمْ﴾ أيْ أيُّها المُشاهِدُونَ عَلى أنِّي عَبْدُ اللَّهِ ومُصْطَفاهُ، فَلا تَهْلِكُوا في تَكْوِينِي مِن أُنْثى فَقَطْ فَتُطْرُونِي، فَإنِّي لَمْ أعْمَلْ شَيْئًا مِنها إلّا ناسِبًا لَهُ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وصانِعًا فِيهِ ما يُؤْذِنُ بِالحاجَةِ المُنافِيَةِ لِلْإلَهِيَّةِ ولَوْ بِالدُّعاءِ، وأفْرَدَ كافَ الخِطابِ أوَّلًا لِكَوْنِ ما عَدَّهُ ظاهِرًا لِكُلِّ أحَدٍ عَلى انْفِرادِهِ أنَّهُ آيَةٌ لِجَمِيعِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، وكَذا (p-٤٠٧)جَمَعَ ثانِيًا قَطْعًا لِتَعَنُّتِ مَن قَدْ يَقُولُ: إنَّها لا تَدُلُّ إلّا بِاجْتِماعِ أنْظارِ جَمِيعِهِمْ - لَوْ جَمَعَ الأوَّلَ، وإنَّها لَيْسَتْ آيَةً لِكُلِّهِمْ بَلْ لِواحِدٍ مِنهم - لَوْ وحَّدَ في الثّانِي، ولَمّا كانَتِ الآياتُ لا تَنْفَعُ مَعَ المُعانَداتِ قالَ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ مُذْعِنِينَ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ، وأهْلًا لِتَصْدِيقِ ما يَنْبَغِي التَّصْدِيقُ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب