الباحث القرآني

(p-٢٢٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ ﴿وَرَسُولا إلى بَنِي إسْرائِيلَ أنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكم أنِّي أخْلُقُ لَكم مِن الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللهِ﴾ قَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ "وَيُعَلِّمُهُ" بِالياءِ، وذَلِكَ عَطْفٌ عَلى: "يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ"، كَذا قالَ أبُو عَلِيٍّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ عَطْفًا عَلى: "وَيُكَلِّمُ". وقَرَأ الباقُونَ: و"نُعَلِّمُهُ" بِالنُونِ وهي مِثْلُ قِراءَةِ الياءِ في المَعْنى لَكِنْ جاءَتْ بِنُونِ العَظَمَةِ، قالَ الطَبَرِيُّ: قِراءَةُ الياءِ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "يَخْلُقُ ما يَشاءُ"، وقِراءَةُ النُونِ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "نُوحِيهِ إلَيْكَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا الَّذِي قالَهُ خَطَأٌ في الوَجْهَيْنِ مُفْسِدٌ لِلْمَعْنى. و"الكِتابَ" هو الخَطُّ بِاليَدِ، فَهو مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ، هَذا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وجَماعَةِ المُفَسِّرِينَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هي إشارَةٌ إلى كِتابٍ مُنَزَّلٍ لَمْ يُعَيَّنْ، وهَذِهِ دَعْوى لا حُجَّةَ عَلَيْها. وأمّا "الحِكْمَةَ" فَهي السُنَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِها الأنْبِياءُ في الشَرْعِيّاتِ والمَواعِظِ ونَحْوِ ذَلِكَ، مِمّا لَمْ يُوحَ إلَيْهِمْ في كِتابٍ ولا بِمَلَكٍ، لَكِنَّهم يُلْهَمُونَ إلَيْهِ وتَقْوى غَرائِزُهم عَلَيْهِ. وقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ العُلَماءِ عَنِ الحِكْمَةِ بِأنَّها الإصابَةُ في القَوْلِ والعَمَلِ، فَذَكَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ يُعَلِّمُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ الحِكْمَةَ، والتَعْلِيمُ مُتَمَكِّنٌ فِيما كانَ مِنَ الحِكْمَةِ بِوَحْيٍ أو مَأْثُورًا عَمَّنْ تَقَدَّمَ عِيسى مِن نَبِيٍّ وعالِمٍ. وأمّا ما كانَ مِن حِكْمَةِ عِيسى الخاصَّةِ بِهِ فَإنَّما يُقالُ فِيها نُعَلِّمُهُ عَلى مَعْنى نُهَيِّئُ غَرِيزَتَهُ لَها ونُقَدِّرُهُ ونَجْعَلُهُ يَتَمَرَّنُ في اسْتِخْراجِها ويَجْرِي ذِهْنُهُ إلى ذَلِكَ. و"التَوْراةَ" هي المُنَزَّلَةُ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، ويُرْوى أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ كانَ يَسْتَظْهِرُ التَوْراةَ، وكانَ أعْلَمَ الناسِ وأعْمَلَ بِما فِيها، ويُرْوى أنَّهُ لَمْ يَحْفَظْها عن ظَهْرِ (p-٢٢٦)قَلْبٍ إلّا أرْبَعَةٌ: مُوسى ويُوشَعُ بْنُ نُونَ وعُزَيْزٌ وعِيسى عَلَيْهِمُ السَلامُ. وذَكَرَ: "الإنْجِيلَ" لِمَرْيَمَ وهو لَمْ يُنْزَلْ- بَعْدُ- لِأنَّهُ كانَ كِتابًا مَذْكُورًا عِنْدَ الأنْبِياءِ والعُلَماءِ وأنَّهُ سَيَنْزِلُ. وقَوْلُهُ: "وَرَسُولًا" حالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى "وَيُعَلِّمُهُ" إذِ التَقْدِيرُ: ومُعَلَّمًا الكِتابَ، فَهَذا كُلُّهُ عَطْفٌ بِالمَعْنى عَلى قَوْلِهِ: "وَجِيهًا" ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: ويَجْعَلُهُ رَسُولًا. وكانَتْ رِسالَةُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ، مُبَيِّنًا حُكْمَ التَوْراةِ، ونادِبًا إلى العَمَلِ بِها، ومُحَلِّلًا أشْياءَ مِمّا حُرِّمَ فِيها، كالشُحُومِ ولُحُومِ الإبِلِ وأشْياءَ مِنَ الحِيتانِ والطَيْرِ. ومِن أوَّلِ القَوْلِ لِمَرْيَمَ إلى قَوْلِهِ "إسْرائِيلَ" خِطابٌ لِمَرْيَمَ، ومِن قَوْلِهِ: ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: "مُسْتَقِيمٌ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِمَرْيَمَ عَلى مَعْنى: يَكُونُ مِن قَوْلِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ: كَيْتَ وكَيْتَ، ويَكُونُ في آخِرِ الكَلامِ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: فَجاءَ عِيسى بَنِي إسْرائِيلَ رَسُولًا فَقالَ لَهم ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: "فَلَمّا أحَسَّ". ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَتْرُوكُ مُقَدَّرًا في صَدْرِ الكَلامِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: فَجاءَ عِيسى كَما بَشَّرَ اللهُ رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ بِأنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ لَيْسَ بِخِطابٍ لِمَرْيَمَ، والأوَّلُ أظْهَرُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ" بِفَتْحِ الألِفِ، تَقْدِيرُهُ: بِأنِّي، وقُرِئَ في الشاذِّ: "إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ"، وجُمْهُورُ الناسِ قَرَؤُوا "بِآيَةٍ" عَلى الإفْرادِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "بِآياتٍ"، وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ بَعْدَ هَذا: "وَجِئْتُكم بِآياتٍ مِن رَبِّكُمْ". واخْتَلَفَ القُرّاءُ في فَتْحِ الألِفِ وكَسْرِها مِن قَوْلِهِ: "أنِّي أخْلُقُ"، فَقَرَأ نافِعٌ وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: (p-٢٢٧)"إنِّي" بِكَسْرِ الألِفِ، وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: "أنِّي" بِفَتْحِ الألِفِ. فَوَجْهُ قِراءَةِ نافِعٍ: إمّا القَطْعُ والِاسْتِئْنافُ، وإمّا أنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: "إنِّي" كَما فَسَّرَ المَثَلَ في قَوْلِهِ: "كَمَثَلِ آدَمَ" بِقَوْلِهِ: "خَلَقَهُ مِن تُرابٍ" إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمْثِلَةِ، ووَجْهُ قِراءَةِ الباقِينَ البَدَلُ مِن "آيَةٍ"، كَأنَّهُ قالَ: وجِئْتُكم بِأنِّي أخْلُقُ، وقِيلَ: هي بَدَلٌ مِن "أنِّي" الأُولى، وهَذا كُلُّهُ يَتَقارَبُ في المَعْنى. و"أخْلُقُ" مَعْناهُ: أقْدِرُ وأُهَيِّئُ بِيَدِي، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي وقَوْلُهُ "لَكُمْ" تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ: "أخْلُقُ" لِأنَّهُ يَدُلُّ دَلالَةً ما عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدِ الإيجادَ مِنَ العَدَمِ. ويُصَرِّحُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: "بِإذْنِ اللهِ"، وحَقِيقَةُ الخَلْقِ في الأجْرامِ، ويُسْتَعْمَلُ في المَعانِي، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ مَن كانَ يَخْلُقُ ما يَقُو ∗∗∗ ∗∗∗ لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَةْ وجُمْهُورُ الناسِ قَرَأ "كَهَيْئَةِ" عَلى وزْنِ فَعْلَةٍ - بِفَتْحِ الفاءِ- وهو مَصْدَرٌ مِن قَوْلِكَ: هاءَ الشَيْءُ يَهاءُ هَيْئًا وهَيْئَةً، إذا تَرَتَّبَ واسْتَقَرَّ عَلى حالٍ ما، وهو الَّذِي تُعَدِّيهِ فَتَقُولُ: هَيَّأْتُ، وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "كَهِيَّئَةِ الطَيْرِ"، بِكَسْرِ الهاءِ وياءٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "كَهَيْئَةِ الطائِرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائِرًا" عَلى الإفْرادِ في المَوْضِعَيْنِ، فالأوَّلُ اسْمُ الجِنْسِ والثانِي مُفْرَدٌ، أيْ يَكُونُ طائِرًا مِنَ الطُيُورِ، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائِرًا" بِالإفْرادِ في الأخِيرِ، وهَكَذا قَرَأ في المائِدَةِ. وقَرَأ الباقُونَ: "كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا" بِالجَمْعِ فِيهِما، وكَذَلِكَ في (p-٢٢٨)سُورَةِ المائِدَةِ، ومَعانِي هَذِهِ القِراءاتِ بَيِّنَةٌ. والطَيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ ولَيْسَ مِن أبْنِيَةِ الجُمُوعِ، وإنَّما البِناءُ في جَمْعِ طائِرٍ أطْيارٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ طُيُورٌ، وحَكاهُ أبُو عَلِيٍّ عن أبِي الحَسَنِ. وقَوْلُهُ "فَأنْفُخُ فِيهِ" ذَكَّرَ الضَمِيرَ هُنا لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الطِينِ المُهَيَّإ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ فَأنْفُخُ في المَذْكُورِ. وأنَّثَ الضَمِيرَ في سُورَةِ المائِدَةِ في قَوْلِهِ: "فَتَنْفُخُ فِيها" لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الهَيْئَةِ أو عَلى تَأْنِيثِ لَفْظِ الجَماعَةِ في قَوْلِهِ: "الطَيْرِ". وكَوْنُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ خالِقًا بِيَدِهِ ونافِخًا بِفِيهِ إنَّما هو لِيَبِينَ تَلَبُّسُهُ بِالمُعْجِزَةِ، وأنَّها جاءَتْ مِن قِبَلِهِ، وأمّا الإيجادُ مِنَ العَدَمِ وخَلْقُ الحَياةِ في ذَلِكَ الطِينِ فَمِنَ اللهِ تَعالى وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. وقَوْلُهُ: "بِإذْنِ اللهِ" مَعْناهُ: بِعِلْمٍ مِنهُ تَعالى أنِّي أفْعَلُ ذَلِكَ وتَمْكِينٍ مِنهُ لِي. وحَقِيقَةُ الإذْنِ في الشَيْءِ، هي العِلْمُ بِأنَّهُ يُفْعَلُ والتَمْكِينُ مِن ذَلِكَ، فَإنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ قَوْلٌ فَذَلِكَ أمْكَنُ في الإذْنِ وأبْلَغُ، ويَخْرُجُ مِن حَدِّ الإذْنِ إلى حَدِّ الأمْرِ، ولَكِنْ تَجِدُهُ أبَدًا في قِسْمِ الإباحَةِ. وتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَهَزَمُوهم بِإذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: ٢٥١] وقَوْلَ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ: « "وَإذْنُها صُماتُها".» ورُوِيَ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ كانَ يَقُولُ لِبَنِي إسْرائِيلَ: أيُّ الطَيْرِ أشَدُّ خِلْقَةً وأصْعَبُ أنْ يُحْكى؟ فَيَقُولُونَ: الخُفّاشُ، لِأنَّهُ طائِرٌ لا رِيشَ لَهُ، فَكانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِينِ خَفافِيشَ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيها فَتَطِيرُ، وكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الناسِ ومُعايَنَتِهِمْ، فَكانُوا يَقُولُونَ: هَذا ساحِرٌ. *** قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيِي المَوْتى بِإذْنِ اللهِ وأُنَبِّئُكم بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكم إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لَكم إنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. و"أُبْرِئُ" مَعْناهُ: أُزِيلُ المَرَضَ، يُقالُ: بَرَأ المَرِيضُ وأبْرَأهُ غَيْرُهُ، ويُقالُ: بَرِئَ (p-٢٢٩)المَرِيضُ أيْضًا كَما يُقالُ في الذَنْبِ والدَيْنِ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي: "الأكْمَهَ" فَقالَ مُجاهِدٌ: الأكْمَهُ: هو الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَهارِ ولا يُبْصِرُ بِاللَيْلِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ والسُدِّيُّ: الأكْمَهُ: الأعْمى عَلى الإطْلاقِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: الأكْمَهُ الأعْمَشُ، وحَكى النَقّاشُ قَوْلًا: أنَّ الأكْمَهَ هو الأبْكَمُ الَّذِي لا يَفْهَمُ ولا يُفْهَمُ، المَيِّتُ الفُؤادِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وقَتادَةُ: الأكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أعْمى مَضْمُومَ العَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ كانَ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ يُبْرِئُ بِدُعائِهِ ومَسْحِ يَدِهِ كُلَّ عِلَّةٍ فَتُشْفى، ولَكِنَّ الِاحْتِجاجَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في مَعْنى النُبُوَّةِ لا يَقُومُ إلّا بِالإبْراءِ مِنَ العِلَلِ الَّتِي لا يُبْرِئُ مِنها طَبِيبٌ بِوَجْهٍ، فَلَيْسَ يَتَخَلَّصُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ في الأكْمَهِ إلّا القَوْلُ الأخِيرُ، إذِ الأكْمَهُ في اللُغَةِ هو الأعْمى، وكَمِهَتِ العَيْنُ عَمِيَتْ، ولَوْلا ضَبْطُ اللُغَةِ لَكانَ القَوْلُ الَّذِي حَكى النَقّاشُ حَسَنًا في مَعْنى قِيامِ الحُجَّةِ بِهِ، "والأبْرَصَ" مَعْرُوفٌ، وهو داءٌ لا يُبْرَأُ مِنهُ إذا تَمَكَّنَ. ورُوِيَ في إحْيائِهِ المَوْتى، أنَّهُ كانَ يَضْرِبُ بِعَصاهُ المَيِّتَ أوِ القَبْرَ أوِ الجُمْجُمَةَ، فَيُحْيِي الإنْسانَ ويُكَلِّمُهُ، ورُوِيَ أنَّهُ أحْيا سامَ بْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ، ورُوِيَ أنَّ الَّذِي كانَ يُحْيِيهِ كانَتْ تَدُومُ حَياتُهُ، ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَعُودُ لِمَوْتِهِ سَرِيعًا، وفي قِصَصِ الإحْياءِ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ لا يُوقَفُ عَلى صِحَّتِها. وإحْياءُ المَوْتى هي آيَتُهُ المُعْجِزَةُ المُعَرَّضَةُ لِلتَّحَدِّي، وهي بِالمَعْنى مُتَحَدّىً بِها وإنْ كانَ لَمْ يُنَصَّ عَلى التَحَدِّي بِها. وآياتُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما تَجْرِي فِيما يُعارِضُ الطِبَّ لِأنَّ عِلْمَ الطِبِّ كانَ شَرَفَ الناسِ في ذَلِكَ الزَمانِ وشُغْلَهُمْ، وحِينَئِذٍ أُثِيرَتْ فِيهِ العَجائِبُ، فَلَمّا جاءَ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ بِغَرائِبَ لا تَقْتَضِيها الأمْزِجَةُ وأُصُولُ الطِبِّ، وذَلِكَ إحْياءُ المَوْتى وإبْراءُ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، عَلِمَتِ الأطِبّاءُ أنَّ هَذِهِ (p-٢٣٠)القُوَّةَ مِن عِنْدِ اللهِ، وهَذا كَأمْرِ السَحَرَةِ مَعَ مُوسى والفُصَحاءِ مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِما السَلامُ، ووَقَعَ في التَوارِيخِ المُتَرْجَمَةِ عَنِ الأطِبّاءِ أنَّ جالِينُوسَ كانَ في زَمَنِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، وأنَّهُ رَحَلَ إلَيْهِ مِن رُومِيَّةَ إلى الشامِ لِيَلْقاهُ فَماتَ في طَرِيقِهِ ذَلِكَ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: "وَأُنَبِّئُكُمْ"... الآيَةِ فَقالَ السُدِّيُّ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وابْنُ إسْحاقَ ومُجاهِدٌ وعَطاءٌ: كانَ عِيسى مِن لَدُنِ طُفُولَتِهِ وهو في الكُتّابِ يُخْبِرُ الصِبْيانَ بِما يَفْعَلُ آباؤُهم في مَنازِلِهِمْ، وبِما يُؤْكَلُ مِنَ الطَعامِ ويُدَّخَرُ حَتّى قالَ بَنُو إسْرائِيلَ لِأبْنائِهِمْ: لا تُخالِطُوا هَذا الساحِرَ، وكَذَلِكَ إلى أنْ نُبِّئَ، فَكانَ يَقُولُ لِكُلِّ مَن سَألَهُ عن هَذا المَعْنى: أكَلْتَ البارِحَةَ كَذا وادَّخَرْتَ كَذا. قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ مُعَلِّمُهُ يُرِيدُ أنْ يُعَلِّمَهُ الشَيْءَ فَيَسْبِقُهُ إلَيْهِ عِيسى، فَيَتَعَجَّبُ مُعَلِّمُهُ مِن ذَلِكَ ويَذْكُرُهُ لِلنّاسِ. وقالَ قَتادَةُ: مَعْنى الآيَةِ إنَّما هو في نُزُولِ المائِدَةِ عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ أنَّها لَمّا أُنْزِلَتْ أخَذَ عَلَيْهِمْ عَهْدًا أنْ يَأْكُلُوا ولا يُخَبِّئَ أحَدٌ شَيْئًا ولا يَدَّخِرَهُ ويَحْمِلَهُ إلى بَيْتِهِ، فَخانُوا وجَعَلُوا يُخَبِّئُونَ مِن ثِمارِ الجَنَّةِ وطَعامِها الَّذِي كانَ يَنْزِلُ عَلى المائِدَةِ، فَكانَ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ يُخْبِرُ كُلَّ أحَدٍ عَمّا أكَلَ وعَمّا ادَّخَرَ في بَيْتِهِ مِن ذَلِكَ، وعُوقِبُوا عَلى ذَلِكَ. و"ما" في قَوْلِهِ: ﴿بِما تَأْكُلُونَ﴾ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى "الَّذِي" وتَحْتَمِلُ المَصْدَرِيَّةَ، وكَذَلِكَ "وَما تَدَّخِرُونَ". وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تَدَّخِرُونَ" بِدالٍ مُشَدَّدَةٍ وخاءٍ مَكْسُورَةٍ، وهو تَفْتَعِلُونَ مِن ذَخَرْتَ، أصْلُهُ، "تَذْتَخِرُونَ" اسْتُثْقِلَ النُطْقُ بِالذالِ والتاءِ لِتَقارُبِهِما في المَخْرَجِ فَأُبْدِلَتِ التاءُ دالًا وأُدْغِمَتِ الذالُ في الدالِ، كَما صُنِعَ في مُدَّكِرٍ ومُطَّلِعٍ، بِمَعْنى مُضْطَلِعٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، نَحْوِ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ إنَّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ ∗∗∗ عَفْوًا ويُظْلَمُ أحْيانًا فَيَطَّلِمُ بِالطاءِ غَيْرَ مَنقُوطَةٍ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ ومُجاهِدٌ وأيُّوبُ السِخْتِيانِيُّ وأبُو السَمّالِ: "تَدْخَرُونَ" بِدالٍ ساكِنَةٍ وخاءٍ مَفْتُوحَةٍ. (p-٢٣١)وَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَ مِنَ الإحْياءِ والإبْراءِ والإنْباءِ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لَآياتٍ" عَلى الجَمْعِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ تَوْقِيفٌ، والمَعْنى: لَآياتٍ نافِعَةً هادِيَةً إنْ آمَنتُمْ وأبْصَرْتُمْ، وإلّا فَلَيْسَتْ بِنافِعَةٍ ولا هادِيَةٍ، فَأمّا كَوْنُها آياتٍ فَعَلى كُلِّ حالٍ آمَنُوا أو كَفَرُوا، هَذا كُلُّهُ عَلى أنَّ المُخاطَبَةَ لِمَن لَمْ يُؤْمِن- بَعْدُ- وهو ظاهِرُ حالِهِ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ، وإنْ كانَ خِطابُهُ لِمُؤْمِنِينَ، أو لِمَن كانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُوسى، فَمَعْنى الآيَةِ: التَثْبِيتُ وهَزُّ النَفْسِ، كَما تَقُولُ لِإنْسانٍ تُقِيمُ نَفْسَهُ إلى شَيْءٍ: أمّا أنْتَ يا فُلانُ يَلْزَمُكَ أنْ تَفْعَلَ كَذا وكَذا إنْ كُنْتَ مِنَ الرِجالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب