الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾.
أولًا: في الإعراب ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ هذه جملة مؤكدة بـ(إن) و﴿الَّذِينَ﴾ اسمها، اسم (إن). وقوله: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ هذه الجملة خبر (إن) ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ﴾.
وقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي: القَسَم، واللام، وقد.
يقول الله عز وجل مخبرًا عن هؤلاء الذين تولّوا يوم أُحُد وانهزموا يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الجمعان مُثنّى (جَمْع)، والمراد بهم جمع الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمْع المسلمين بقيادة النبي ﷺ والكفار بقيادة أبي سفيان.
يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ ﴿تَوَلَّوْا﴾ يعني أدبروا وهربوا وهم أكثر الجيش، حتى إنه لم يبقَ مع النبي ﷺ إلا نحو ثلاثة عشر رجلًا منهم: أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، هؤلاء الذين تولوا يوم التقى الجمعان؛ أي: تلاقوا وجهًا لوجه: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ استزلّ: في الأصل طلب الزّلَّة؛ يعني إنما صدّهم الشيطان من أجل أن يطلب زلتهم، وقيل: إن استزل بمعنى (أزَلّ) يعني إنما أزلهم، والمراد بأزل أي: أوقعهم في الزلل، والزلل هو الخطأ والانحراف عن الصواب.
وقوله: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾. ﴿الشَّيْطَانُ﴾ اسم جنس، ولكل إنسان شيطان قرين له يأمره بالشر وينهاه عن الخير، والشيطان هنا يقولون: إنه مشتق من (شَطَن) إذا بعُد، لبعده عن رحمة الله، ومن أجل ذلك كان منصرفًا كما قال تعالى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر ١٧]، وقال بعضهم: إنه من (شاط)، ولو كان كذلك لكان غير منصرف إذا قُصد به العلم؛ لأنه إذا كان من (شاط) صارت النون والألف زائدتين، وإذا كانت النون والألف زائدتين في علَم أو في وصف امتنع من الصرف.
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ الباء هنا للسببية؛ أي: ببعض الذي كسبوه، وما هو الذي يكون سببًا لإغواء الشيطان من المكاسب؟ هو المعاصي؛ أي: أن لديهم ذنوبًا كانت سابقة، ثم إن الشيطان استزلهم بها، أي: أوقعهم في الزلل بسبب هذه الذنوب؛ لأن الذنوب تكون سببًا للذنوب الأخرى، ولهذا قال بعض السلف: إن من علامة قبول الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومن علامة ردها السيئة بعدها. فالإنسان إذا أذنب ذنبًا فإنه إن لم يتُب فإن الشيطان يوقعه في ذنب آخر، وهكذا حتى يصبح قد أحاطت به خطيئته والعياذ بالله، ولهذا قال العلماء: إن المعاصي بريد الكفر؛ يعني تنتقل بالإنسان مرحلة بعد أخرى حتى يصل إلى قمة المعاصي؛ وهو الكفر.
ثم قال الله عز وجل لما بيّن خطأهم وأنهم هم السبب في هذا الخطأ قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ وهذه كالتي سبَقت في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ فكرّر الله العفو مرتين. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ أي: عن الذين تولوا، والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب، ويكون في الغالب في ترك الواجبات؛ يعني أن الله يعفو عمن ترك الواجب، والمغفرة تكون في من فعل المحرّم.
﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ الغفور من أسماء الله، والحليم من أسمائه، والغفور معناه ذو المغفرة؛ وهي ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأن أصلها من (المِغفر)، وهو ما يُلبس على الرأس يُتّقى به السهام، وهو جامع بين الستر والوقاية، أما الحِلم فهو التأني وعدم السرعة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
؎وَهوَ الْحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ∗∗∗ بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
فمعنى الحليم معناه: الممهل للعباد، المتأنّي في عقوبتهم.
* في هذه الآية من الفوائد: بيان سبب انهزام ما انهزم من الصحابة، وهو استِزلال الشيطان لهم، ثم بيان هذا السبب الذي بُنِي عليه هذا السبب؛ وهو بعض ما كسبوا من المعاصي.
* فيتفرع على هذه الفائدة فائدتان:
* الفائدة الأولى: أن كل ترْك للواجب أو فِعْل للمحرم فإنما هو من استِزلال الشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف؛ فكل ما حصل من تفريط في واجب أو وقوع في محرم فإنه من الشيطان.
* والفائدة الثانية: أن الإنسان قد يُعاقَب بالمعصية لمعصية أخرى؛ أي: أنه تكون عقوبته أن يعصي الله مرة ثانية.
* ويتفرع على هذا أيضا فائدة ثالثة: وهي أن العقوبة لا تختص بالألم البدني أو فوات الشهوات، قد تكون العقوبة بخذلان المرء عن الطاعات، ويُذكر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: «إن الرجل ليُحْرم قيام الليل بما فَعل من المعصية. أو: بالذنب يُصيبه»[[المجالسة وجواهر العلم (٢/ ٢٦٢).]] ولا شك أن المعاصي سبب للخذلان، ويؤيد ما قلنا هذه الآية: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ وهي التي بنينا عليها هذه الفائدة، لكن يؤيّدها أيضًا قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾ [المائدة ١٣] هذه عقوبة بدنية. ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة ١٣] عقوبة دينية ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة ٤١] أيضًا عقوبة دينية، ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة ١٣] كذلك، فالمعاصي لها أسباب سيئة وعواقب وخيمة نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحريم الفِرار إذا التقى الجمعان، وجهه: أن الله بيّن أن هذا من استزلال الشيطان، وأنه عفا عنهم، ولولا أنهم مستحقّون للعقوبة لم يكن لقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْهُمْ﴾ فائدة.
يستثنى من ذلك -أي من تحريم الفرار عند التقاء الجمعان- يستثنى من ذلك مسائل:
أولًا: إذا كانوا أكثر من مِثليهم فلهم الفرار، ولكن الثبات أفضل.
الثاني: إذا كان متحرّفًا لقتال؛ يعني فرّ من أجل أن يأتي بأسلحة، أو يستحث قومًا على الجهاد، أو ذهب من أجل أن يفر عليهم أو يكرّ عليهم من جهة أخرى، المهم أنه متحرّف لقتال.
المسألة الثالثة: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ [الأنفال ١٦] يعني أن الجبهة التي هو فيها ضعفت ففرّ من أجل أن يتحيّز إلى فئة أقوى، أو تكون الجبهتان ضعيفتين فتتحيز إحداهما إلى الأخرى، فهذا لا بأس به، وما عدا ذلك فإن الفرار يوم الزحف من كبائر الذنوب والعياذ بالله، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)﴾ [الأنفال ١٥، ١٦].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن للشيطان تأثيرًا على العبد حتى في أعماله الصالحة حتى في الجهاد؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾. ولكن بماذا تحصل العصمة من هذا الشيطان؟
تحصل العصمة بما ذكره الله عز وجل في قوله: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف ٢٠٠] هذه العصمة، كلما أحسست بشيء داخلي ينهاك عن معروف أو يأمرك بمنكر فقُل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
* ومن فوائد هذه الآية: الرد على الجبرية، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾، ومن قوله: ﴿تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾.
* ومن فوائدها: بيان أن الله عز وجل قد عفا عن هؤلاء؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾.
* ومن فوائدها: أنه ينبغي التأكيد من أجل زيادة طمأنينة المخاطَب؛ لأنه أكّد هذه الجملة الخبرية التي تفيد العفو عنهم، أكّدها بقسم ولام وقد من أجل أن تزداد طمأنينتهم في هذا العفو، وقد سبق أن قصصنا عليكم قصة الخارجي الذي جاء إلى مَن؟
* طلبة: ابن عمر.
* الشيخ: «إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأراد أن يلمز عثمان بأنه تخلّف عن بدر، وفرّ يوم أُحُد، ولم يبايع بيعة رضوان، وأن ابن عمر أجابه بجواب مقنع، وقال: اذهب بها إلى قومك»[[أخرجه ابن حبان في صحيحه (٦٩٠٩)، والحاكم في المستدرك (٤٥٨٨) من حديث ابن عمر.]] لأن الرجل جاء من أجل التشويش والتشويه لعثمان رضي الله عنه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان فضل الله على عباده، وإلا فإن الفرار الذي حصل من الصحابة عظيم، ولكن رحمة الله أوسع، فمن أجل سعة رحمة الله عفا الله عنهم.
* ومن فوائدها: إثبات اسمين من أسماء الله وهما الغفور والحليم، وما تضمناه من صفة، الغفور تضمّن المغفرة، والحليم تضمّن الحِلم.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَلَّوۡا۟ مِنكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟ۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق