الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ خَبَرُ "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا" وَالْمُرَادُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ. السُّدِّيُّ: يَعْنِي مَنْ هَرَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِ الْهَزِيمَةِ دُونَ مَنْ صَعِدَ الْجَبَلَ. وَقِيلَ: هِيَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي وَقْتِ هَزِيمَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا. وَمَعْنَى "اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ" اسْتَدْعَى زَلَلَهُمْ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ خَطَايَا سَلَفَتْ مِنْهُمْ، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا. وَهُوَ مَعْنَى "بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا" وَقِيلَ: "اسْتَزَلَّهُمُ" حَمَلَهُمْ عَلَى الزَّلَلِ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ. وَقِيلَ: زَلَّ وَأَزَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ قِيلَ: كَرِهُوا الْقِتَالَ قَبْلَ إِخْلَاصِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّوْا لِهَذَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي بِمَعْصِيَتِهِمُ النَّبِيَّ ﷺ فِي تَرْكِهِمُ الْمَرْكَزَ وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَا كَسَبُوا" قَبُولُهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الِانْهِزَامُ مَعْصِيَةً، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّحَصُّنَ بِالْمَدِينَةِ، فَيَقْطَعُ الْعَدُوُّ طَمَعَهُ فِيهِمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَتَلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَ النَّبِيِّ ﷺ لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: زَادَ عَدَدُ الْعَدُوِّ عَلَى الضِّعْفِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةً وَالْعَدُوُّ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. وَعِنْدَ هَذَا يَجُوزُ الِانْهِزَامُ وَلَكِنَّ الِانْهِزَامَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ، وَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ أَيْضًا. وَأَحْسَنُهَا الْأَوَّلُ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَنْبٍ مُحَقَّقٍ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى انْهِزَامٍ مُسَوَّغٍ فَالْآيَةُ فِيمَنْ أَبْعَدَ فِي الْهَزِيمَةِ وَزَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَوَّغِ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا السَّرَّاجُ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ غَيْلَانَ عَنْ جَرِيرٍ: أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَتَسُبُّنِي وَقَدْ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، وَقَدْ بَايَعْتُ تَحْتَ شجرة وَلَمْ تُبَايِعْ، وَقَدْ كُنْتَ تُوَلَّى مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ الْجَمْعِ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُكَ: أَنَا شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، فَإِنِّي لَمْ أَغِبْ عَنْ شي شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، إِلَّا أَنَّ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ مَرِيضَةً وَكُنْتُ مَعَهَا أُمَرِّضُهَا، فَضَرَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْمًا فِي سِهَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا بَيْعَةُ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَنِي رَبِيئَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ- الرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ- فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) فَيَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَشِمَالُهُ خَيْرٌ لِي مِنْ يَمِينِي وَشِمَالِي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: "وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ" فَكُنْتُ فِيمَنْ عَفَا الله عنهم. فحج [[في ب وهـ ود: فخاصم، وفى ج: فحاج.]] عثمان عبد الرحمن. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُودُ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ. قَالَ: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالُوا: ابْنُ عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شي أَتُحَدِّثُنِي؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ، أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَكَبَّرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ. وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ من شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ). وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانُهُ، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ [[قال: أشار، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وكل ذلك على الاتساع والمجاز (عن نهاية ابن الأثير).]] النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: (هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ [[أي اليسرى.]] فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ). اذْهَبْ بِهَذَا [[في رواية (بها) أي بالأجوبة التي أجبتك التي أجبتك بها حتى يزول عنك ما كنت تعتقده من عيب عثمان. (عن القسطلاني) في ب وهـ ود: بهذه.]] الْآنَ مَعَكَ. قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ تَوْبِيخَ آدَمَ وَلَوْمَهُ فِي إِخْرَاجِ نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: (أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً تَابَ عَلَيَّ مِنْهُ وَمَنْ تَابَ عَلَيْهِ فَلَا ذَنْبَ لَهُ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لَوْمٌ (. وَكَذَلِكَ مَنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَخَبَرُهُ صِدْقٌ. وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ أَلَّا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، وَإِنْ قُبِلَتْ فَالْخَوْفُ أَغْلَبُ عَلَيْهِمْ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بذلك. فأعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب