الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا﴾ خَطَبَ عُمَرُ يَوْمَ الجُمْعَةِ فَقَرَأ آلَ عِمْرانَ، وكانَ يُعْجِبُهُ إذا خَطَبَ أنْ يَقْرَأها، فَلَمّا انْتَهى إلى هَذِهِ الآيَةِ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُأُحُدٍ فَهُزِمْنا، مَرَرْتُ حَتّى صَعِدْتُ الجَبَلَ، فَلَقَدْ رَأيْتُنِي أنْزُو كَأنَّنِي أرَوى، والنّاسُ يَقُولُونَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لا أجِدُ أحَدًا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ إلّا قَتَلْتُهُ، حَتّى اجْتَمَعْنا عَلى الجَبَلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كُلُّها. وقالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِيمَن فَرَّ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِرارًا كَثِيرًا مِنهم: رافِعُ بْنُ المُعَلّى، وأبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، ورَجُلٌ آخَرُ. والَّذِينَ تَوَلَّوْا: كُلُّ مَن ولّى الدُّبُرَ عَنِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. قالَهُ عُمَرُ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ. أوْ كُلُّ مَن قَرُبَ مِنَ المَدِينَةِ وقْتَ الهَزِيمَةِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. أوْ رِجالٌ بِأعْيانِهِمْ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ مِنهم: عَتَبَةُ بْنُ عُثْمانَ الزُّرَقِيُّ، وأخُوهُ سَعْدٌ وغَيْرُهُما، بَلَغُوا الجَلْعِبَ جَبَلًا بِناحِيَةِ المَدِينَةِ مِمّا يَلِي الأعْوَصَ، فَأقامُوا بِهِ ثَلاثًا، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَهم: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيها عَرِيضَةً. ولَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ إلّا ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا: أبُو بَكْرٍ، وعَلِيٌّ، وطَلْحَةُ، وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وباقِيهِمْ مِنَ الأنْصارِ مِنهم: أبُو طَلْحَةَ، وظاهِرُ ”تَوَلَّوْا“ يَدُلُّ عَلى مُطْلَقِ التَّوَلِّي يَوْمَ اللِّقاءِ، سَواءٌ فَرَّ إلى المَدِينَةِ، أمْ صَعِدَ الجَبَلَ. والجَمْعُ: اسْمُ جَمْعٍ. ونَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ اسْمَ الجَمْعِ لا يُثَنّى، لَكِنَّهُ هُنا أُطْلِقَ يُرادُ بِهِ مَعْقُولِيَّةَ اسْمِ الجَمْعِ، بَلْ بَعْضَ الخُصُوصِيّاتِ، أيْ جَمْعَ المُؤْمِنِينَ، وجَمْعَ المُشْرِكِينَ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ تَثْنِيَتُهُ. ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎وكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وإنْ هُما تَعاطى القَنا قَوْماهُما أخَوانِ فَثَنّى قَوْمًا؛ لِأنَّهُ أرادَ مَعْنى القَبِيلَةِ. واسْتَزَلَّ هُنا اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، أيْ طَلَبَ مِنهُمُ الزَّلَلَ ودَعاهم إلَيْهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو مُقْتَضى وسْوَسَتِهِ وتَخْوِيفِهِ. هَكَذا قالُوهُ، ولا يَلْزَمُ مِن طَلَبِ الشَّيْءِ واسْتِدْعائِهِ حُصُولُهُ، فالأوْلى أنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلْ هُنا بِمَعْنى أفْعَلَ، فَيَكُونُ المَعْنى: أزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ، فَيَدُلُّ عَلى حُصُولِ الزَّلَلِ، ويَكُونُ اسْتَزَلَّ وأزَلَ بِمَعْنًى واحِدٍ، كاسْتَبانَ وأبانَ، واسْتَبَلَّ وأبَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها﴾ [البقرة: ٣٦] عَلى أحَدِ (p-٩١)تَأْوِيلاتِهِ. واسْتِزْلالُ الشَّيْطانِ إيّاهم سابِقٌ عَلى وقْتِ التَّوَلِّي، أيْ كانُوا أطاعُوا الشَّيْطانَ واجْتَرَحُوا ذُنُوبًا قَبْلُ مَنَعَتْهُمُ النَّصْرَ، فَفَرُّوا. وقِيلَ: الِاسْتِزْلالُ هو تَوَلِّيهِمْ ذَلِكَ اليَوْمَ. أيْ: إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ في التَّوَلِّي بِبَعْضِ ما سَبَقَتْ لَهم مِنَ الذُّنُوبِ؛ لِأنَّ الذَّنْبَ يَجُرُّ إلى الذَّنْبِ، فَيَكُونُ نَظِيرُ ذَلِكَ بِما عَصَوْا. وفي هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ بَعْضُ ما كَسَبُوا هو تَرْكُهُمُ المَرْكَزَ الَّذِي أمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالثَّباتِ فِيهِ، فَجَرَّهم ذَلِكَ إلى الهَزِيمَةِ. ولا يَظْهَرُ هَذا؛ لِأنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا المَرْكَزَ مِنَ الرُّماةِ كانُوا دُونَ الأرْبَعِينَ، فَيَكُونُ مِن بابِ إطْلاقِ اسْمِ الكُلِّ عَلى البَعْضِ. وقالَ الَمَهَدَوِيُّ: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا هو حُبُّهُمُ الغَنِيمَةَ، والحِرْصُ عَلى الحَياةِ. وذَهَبُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ إلى أنَّ المَعْنى أنَّ الشَّيْطانَ ذَكَّرَهم بِذُنُوبٍ لَهم مُتَقَدِّمَةٍ، فَكَرِهُوا المَوْتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنها والإقْلاعِ عَنْها، فَأخَّرُوا الجِهادَ حَتّى يُصْلِحُوا أمْرَهم ويُجاهِدُوا عَلى حالَةٍ مَرْضِيَّةٍ. ولا يَظْهَرُ هَذا القَوْلُ؛ لِأنَّهم كانُوا قادِرِينَ عَلى التَّوْبَةِ قَبْلَ القِتالِ وفي حالِ القَتّالِ، ”والتّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ“ وظاهِرُ التَّوَلِّي: هو تَوَلِّي الإدْبارِ والفِرارِ عَنِ القِتالِ، فَلا يَدْخُلُ فِيهِ مَن صَعِدَ إلى الجَبَلِ؛ لِأنَّهُ مِن مُتَحَيِّزٍ إلى جِهَةٍ اجْتَمَعَ في التَّحَيُّزِ إلَيْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَن ثَبَتَ مَعَهُ فِيها. وظاهِرُ هَذا التَّوَلِّي أنَّهُ مَعْصِيَةٌ؛ لِذِكْرِ اسْتِزْلالِ الشَّيْطانِ وعَفْوِ اللَّهِ عَنْهم. ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ هَذا التَّوَلِّيَ لَيْسَ مَعْصِيَةً؛ لِأنَّهم قَصَدُوا التَّحَصُّنَ بِالمَدِينَةِ، وقَطْعَ طَمَعِ العَدُوِّ مِنهم لَمّا سَمِعُوا أنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، أوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوا دُعاءَ النَّبِيِّ ﷺ: «إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» لِلْهَوْلِ الَّذِي كانُوا فِيهِ، أوْ لِكَوْنِهِمْ كانُوا سَبْعَمِائَةٍ والعَدُوُّ ثَلاثَةَ آلافٍ، وعِنْدَ هَذا يَجُوزُ الِانْهِزامُ، أوْ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أنَّ الرَّسُولَ ما انْحازَ إلى الجَبَلِ، وأنَّهُ يَجْعَلُ ظَهْرَهُ المَدِينَةَ - فَمَذْهَبُهُ خِلافَ الظّاهِرِ، وهَذِهِ الأشْياءُ يَجُوزُ الفِرارُ مَعَها. وقَدْ ذَكَرَ تَعالى اسْتِزْلالَ الشَّيْطانِ إيّاهم وعَفْوَهُ تَعالى عَنْهم، ولا يَكُونُ ذَلِكَ فِيما يَجُوزُ فِعْلُهُ. وجاءَ قَوْلُهُ: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا، ولَمْ يَجِئْ بِما كَسَبُوا؛ لِأنَّهُ تَعالى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة: ١٥] فالِاسْتِزْلالُ كانَ بِسَبَبِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَعْفُ عَنْها، فَجُعِلَتْ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلالِ. ولَوْ كانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لَما كانَ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلالِ. ﴿ولَقَدْ عَفا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾: الجُمْهُورُ عَلى أنَّ مَعْنى العَفْوِ هُنا هو حَطُّ التَّبِعاتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وكَذَلِكَ تَأوَّلَهُ عُثْمانُ في مُحاوَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ كُنْتَ تَوَلَّيْتَ مَعَ مَن تَوَلّى يَوْمَ الجَمْعِ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ - فَقالَ لَهُ عُثْمانُ: قالَ اللَّهُ: ”﴿ولَقَدْ عَفا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾“، فَكُنْتُ فِيمَن عَفا اللَّهُ عَنْهُ. وكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ الرَّجُلِ العِراقِيِّ حِينَ نَشَدَهُ بِحُرْمَةِ هَذا البَيْتِ: أتَعْلَمُ أنَّ عُثْمانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ ؟ أجابَهُ بِأنَّهُ يَشْهَدُ أنَّ اللَّهَ قَدْ عَفا عَنْهُ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنى عَفا اللَّهُ عَنْهم أنَّهُ لَمْ يُعاقِبْهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبائِرِ بِإجْماعٍ فِيما عَلِمْتُ، وعَدَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في المُوبِقاتِ مَعَ الشِّرْكِ وقَتْلِ النَّفْسِ وغَيْرِهِما. انْتَهى. ولَمّا كانَ مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّ العَفْوَ والغُفْرانَ عَنِ الذَّنْبِ لا يَكُونُ إلّا لِمَن تابَ، وأنَّ الذَّنْبَ إذا لَمْ يُتَبْ مِنهُ لا يَكُونُ مَعَهُ العَفْوُ - دَسَّ مَذْهَبَهُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ، فَقالَ: ولَقَدْ عَفا اللَّهُ عَنْهم لِتَوْبَتِهِمْ واعْتِذارِهِمْ. انْتَهى. ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أيْ غَفُوُرُ الذُّنُوبِ حَلِيمٌ لا يُعاجِلُ بِالعُقُوبَةِ. وجاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّعْلِيلِ لِعَفْوِهِ تَعالى عَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى واسِعُ المَغْفِرَةِ، واسِعُ الحِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب