الباحث القرآني

[من حكم غزوة أحد] * فَصْلٌ ثُمّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ حِكْمَةٍ أُخْرى في هَذا التَّقْدِيرِ هي ابْتِلاءُ ما في صُدُورِهِمْ، وهو اخْتِبارُ ما فِيها مِنَ الإيمانِ والنِّفاقِ، فالمُؤْمِنُ لا يَزْدادُ بِذَلِكَ إلّا إيمانًا وتَسْلِيمًا، والمُنافِقُ ومَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ لا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ ما في قَلْبِهِ عَلى جَوارِحِهِ ولِسانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى: وهو تَمْحِيصُ ما في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ وهو تَخْلِيصُهُ وتَنْقِيَتُهُ وتَهْذِيبُهُ، فَإنَّ القُلُوبَ يُخالِطُها بِغَلَباتِ الطَّبائِعِ، ومَيْلِ النُّفُوسِ، وحُكْمِ العادَةِ، وتَزْيِينِ الشَّيْطانِ، واسْتِيلاءِ الغَفْلَةِ ما يُضادُّ ما أُودِعَ فِيها مِنَ الإيمانِ والإسْلامِ والبِرِّ والتّقْوى، فَلَوْ تُرِكَتْ في عافِيَةٍ دائِمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَمْ تَتَخَلَّصْ مِن هَذِهِ المُخالَطَةِ ولَمْ تَتَمَحَّصْ مِنهُ، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ العَزِيزِ أنْ قَيَّضَ لَها مِنَ المِحَنِ والبَلايا ما يَكُونُ كالدَّواءِ الكَرِيهِ لِمَن عَرَضَ لَهُ داءٌ إنْ لَمْ يَتَدارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإزالَتِهِ وتَنْقِيَتِهِ مِن جَسَدِهِ، وإلّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنهُ الفَسادُ والهَلاكُ، فَكانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الكَسْرَةِ والهَزِيمَةِ وقَتْلِ مَن قُتِلَ مِنهم تُعادِلُ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وتَأْيِيدِهِمْ وظَفَرِهِمْ بِعَدُوِّهِمْ، فَلَهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةُ التّامَّةُ في هَذا وهَذا. ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ تَوَلِّي مَن تَوَلّى مِنَ المُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ في ذَلِكَ اليَوْمِ وأنَّهُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وذُنُوبِهِمْ، فاسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِتِلْكَ الأعْمالِ حَتّى تَوَلَّوْا، فَكانَتْ أعْمالُهم جُنْدًا عَلَيْهِمُ ازْدادَ بِها عَدُوُّهم قُوَّةً، فَإنَّ الأعْمالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ وجُنْدٌ عَلَيْهِ ولا بُدَّ، فَلِلْعَبْدِ كُلُّ وقْتٍ سَرِيَّةٌ مِن نَفْسِهِ تَهْزِمُهُ أوْ تَنْصُرُهُ، فَهو يَمُدُّ عَدُوَّهُ بِأعْمالِهِ مِن حَيْثُ يَظُنُّ أنَّهُ يُقاتِلُهُ بِها، ويَبْعَثُ إلَيْهِ سَرِيَّةً تَغْزُوهُ مَعَ عَدُوِّهِ مِن حَيْثُ يَظُنُّ أنَّهُ يَغْزُو عَدُوَّهُ، فَأعْمالُ العَبْدِ تَسُوقُهُ قَسْرًا إلى مُقْتَضاها مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، والعَبْدُ لا يَشْعُرُ أوْ يَشْعُرُ ويَتَعامى، فَفِرارُ الإنْسانِ مِن عَدُوِّهِ وهو يُطِيقُهُ إنّما هو بِجُنْدٍ مِن عَمَلِهِ بَعَثَهُ لَهُ الشَّيْطانُ واسْتَزَلَّهُ بِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ عَفا عَنْهُمْ، لِأنَّ هَذا الفِرارَ لَمْ يَكُنْ عَنْ نِفاقٍ ولا شَكٍّ، وإنَّما كانَ عارِضًا عَفا اللَّهُ عَنْهُ فَعادَتْ شَجاعَةُ الإيمانِ وثَباتُهُ إلى مَرْكَزِها ونِصابِها. ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمْ سُبْحانَهُ أنَّ هَذا الَّذِي أصابَهم إنّما أُتُوا فِيهِ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ، وبِسَبَبِ أعْمالِهِمْ، فَقالَ: ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا قُلْ هو مِن عِنْدِ أنْفُسِكم إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٦٥]، وذَكَرَ هَذا بِعَيْنِهِ فِيما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ في السُّوَرِ المَكِّيَّةِ، فَقالَ: ﴿وَما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠]، وقالَ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩]، فالحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ هاهُنا: النِّعْمَةُ والمُصِيبَةُ، فالنِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِها عَلَيْكَ، والمُصِيبَةُ إنّما نَشَأتْ مِن قِبَلِ نَفْسِكَ وعَمَلِكَ، فالأوَّلُ فَضْلُهُ، والثّانِي عَدْلُهُ، والعَبْدُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ فَضْلِهِ وعَدْلِهِ، جارٍ عَلَيْهِ فَضْلُهُ ماضٍ فِيهِ حُكْمُهُ، عَدْلٌ فِيهِ قَضاؤُهُ. وَخَتَمَ الآيَةَ الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هو مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ﴾ إعْلامًا لَهم بِعُمُومِ قُدْرَتِهِ مَعَ عَدْلِهِ، وأنَّهُ عادِلٌ قادِرٌ، وفي ذَلِكَ إثْباتُ القَدَرِ والسَّبَبِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ وأضافَهُ إلى نُفُوسِهِمْ، وذَكَرَ عُمُومَ القُدْرَةِ وأضافَها إلى نَفْسِهِ، فالأوَّلُ يَنْفِي الجَبْرَ، والثّانِي يَنْفِي القَوْلَ بِإبْطالِ القَدَرِ، فَهو يُشاكِلُ قَوْلَهُ: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [التكوير: ٣٠]. وَفِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ هاهُنا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وهي أنَّ هَذا الأمْرَ بِيَدِهِ وتَحْتَ قُدْرَتِهِ، وأنَّهُ هو الَّذِي لَوْ شاءَ لَصَرَفَهُ عَنْكُمْ، فَلا تَطْلُبُوا كَشْفَ أمْثالِهِ مِن غَيْرِهِ، ولا تَتَّكِلُوا عَلى سِواهُ، وكَشَفَ هَذا المَعْنى وأوْضَحَهُ كُلَّ الإيضاحِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾، وهو الإذْنُ الكَوْنِيُّ القَدَرِيُّ، لا الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ، كَقَوْلِهِ في السِّحْرِ: ﴿وَما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٢]. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ حِكْمَةِ هَذا التَّقْدِيرِ، وهي أنْ يَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ مِنَ المُنافِقِينَ عِلْمَ عِيانٍ ورُؤْيَةٍ يَتَمَيَّزُ فِيهِ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ مِنَ الآخَرِ تَمْيِيزًا ظاهِرًا، وكانَ مِن حِكْمَةِ هَذا التَّقْدِيرِ تَكَلُّمُ المُنافِقِينَ بِما في نُفُوسِهِمْ فَسَمِعَهُ المُؤْمِنُونَ، وسَمِعُوا رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وجَوابَهُ لَهُمْ، وعَرَفُوا مُؤَدّى النِّفاقِ وما يَئُولُ إلَيْهِ، وكَيْفَ يُحْرَمُ صاحِبُهُ سَعادَةَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَيَعُودُ عَلَيْهِ بِفَسادِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَلَلَّهِ كَمْ مِن حِكْمَةٍ في ضِمْنِ هَذِهِ القِصَّةِ بالِغَةٍ ونِعْمَةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ سابِغَةٍ، وكَمْ فِيها مِن تَحْذِيرٍ وتَخْوِيفٍ وإرْشادٍ وتَنْبِيهٍ وتَعْرِيفٍ بِأسْبابِ الخَيْرِ والشَّرِّ، وما لَهُما وعاقِبَتُهُما! ثُمَّ عَزّى نَبِيَّهُ وأوْلِياءَهُ عَمَّنْ قُتِلَ مِنهم في سَبِيلِهِ أحْسَنَ تَعْزِيَةٍ وألْطَفَها، وأدْعاها إلى الرِّضى بِما قَضاهُ لَها، فَقالَ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩-١٧٠] فَجَمَعَ لَهم إلى الحَياةِ الدّائِمَةِ مَنزِلَةَ القُرْبِ مِنهُ وأنَّهم عِنْدَهُ، وجَرَيانَ الرِّزْقِ المُسْتَمِرِّ عَلَيْهِمْ، وفَرَحَهم بِما آتاهم مِن فَضْلِهِ، وهو فَوْقَ الرِّضى بَلْ هو كَمالُ الرِّضى، واسْتِبْشارُهم بِإخْوانِهِمُ الَّذِينَ بِاجْتِماعِهِمْ بِهِمْ يَتِمُّ سُرُورُهم ونَعِيمُهم واسْتِبْشارُهم بِما يُجَدِّدُ لَهم كُلَّ وقْتٍ مِن نِعْمَتِهِ وكَرامَتِهِ. وَذَكَّرَهم سُبْحانَهُ في أثْناءِ هَذِهِ المِحْنَةِ بِما هو مِن أعْظَمِ مِنَنِهِ ونِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي إنْ قابَلُوا بِها كُلَّ مِحْنَةٍ تَنالُهم وبَلِيَّةٍ تَلاشَتْ في جَنْبِ هَذِهِ المِنَّةِ والنِّعْمَةِ، ولَمْ يَبْقَ لَها أثَرٌ ألْبَتَّةَ. وَهِي مِنَّتُهُ عَلَيْهِمْ بِإرْسالِ رَسُولٍ مِن أنْفُسِهِمْ إلَيْهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ، ويُزَكِّيهِمْ، ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ، ويُنْقِذُهم مِنَ الضَّلالِ الَّذِي كانُوا فِيهِ قَبْلَ إرْسالِهِ إلى الهُدى، ومِنَ الشَّقاءِ إلى الفَلاحِ، ومِنَ الظُّلْمَةِ إلى النُّورِ، ومِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ، فَكُلُّ بَلِيَّةٍ ومِحْنَةٍ تَنالُ العَبْدَ بَعْدَ حُصُولِ هَذا الخَيْرِ العَظِيمِ لَهُ أمْرٌ يَسِيرٌ جِدًّا في جَنْبِ الخَيْرِ الكَثِيرِ كَما يَنالُ النّاسَ بِأذى المَطَرِ في جَنْبِ ما يَحْصُلُ لَهم بِهِ مِنَ الخَيْرِ، فَأعْلَمَهم أنَّ سَبَبَ المُصِيبَةِ مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ لِيَحْذَرُوا، وأنّها بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ، لِيُوَحِّدُوا ويَتَّكِلُوا، ولا يَخافُوا غَيْرَهُ، وأخْبَرَهم بِما لَهم فِيها مِنَ الحِكَمِ لِئَلّا يَتَّهِمُوهُ في قَضائِهِ وقَدَرِهِ، ولِيَتَعَرَّفَ إلَيْهِمْ بِأنْواعِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وسَلّاهم بِما أعْطاهم مِمّا هو أجَلُّ قَدْرًا وأعْظَمُ خَطَرًا مِمّا فاتَهم مِنَ النَّصْرِ والغَنِيمَةِ، وعَزّاهم عَنْ قَتْلاهم بِما نالُوهُ مِن ثَوابِهِ وكَرامَتِهِ، لِيُنافِسُوهم فِيهِ، ولا يَحْزَنُوا عَلَيْهِمْ، فَلَهُ الحَمْدُ كَما هو أهْلُهُ، وكَما يَنْبَغِي لِكَرَمِ وجْهِهِ وعِزِّ جَلالِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب