الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿كَيْفَ وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم لا يَرْقُبُوا فِيكم إلا ولا ذِمَّةً يُرْضُونَكم بِأفْواهِهِمْ وتَأْبى قُلُوبُهم وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عن سَبِيلِهِ إنَّهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إلا ولا ذِمَّةً وأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾
بَعْدَ "كَيْفَ" في هَذِهِ الآيَةِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ ولا بُدَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ما تَقَدَّمَ، فَيَحْسُنُ أنْ يُقَدَّرَ: "كَيْفَ يَكُونُ لَهم عَهْدٌ"؟ ونَحْوُهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وخَبَّرْ تُمانِي أنَّما المَوْتُ في القُرى ∗∗∗ فَكَيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
(p-٢٦٥)وَفِي "كَيْفَ" هُنا تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِبْعادِ الَّذِي في الأُولى، و"لا يَرْقُبُوا" مَعْناهُ: لا يُراعُوا ولا يُحافِظُوا، وأصْلُ الِارْتِقابِ بِالبَصَرِ، ومِنهُ الرَقِيبُ في المَيْسِرِ وغَيْرِهِ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مَن حافَظَ عَلى شَيْءٍ وراعاهُ: راقَبَهُ وارْتَقَبَهُ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "إلًّا"، وقَرَأ عِكْرِمَةُ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما بِياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ خَفِيفَةَ اللامِ: "إيلًا"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "ألًّا" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فَأمّا مَن قَرَأ: "إلًّا" فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وأبُو مِجْلَزٍ، وهو اسْمُهُ بِالسُرْيانِيَّةِ وعُرِّبَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ حِينَ سَمِعَ كَلامَ مُسَيْلِمَةَ، فَقالَ: هَذا كَلامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِن إلٍّ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ العَهْدُ، والعَرَبُ تَقُولُ لِلْعَهْدِ والخُلُقِ والجِوارِ ونَحْوِ هَذِهِ المَعانِي: إلًّا، ومِنهُ قَوْلُ أبِي جَهْلٍ:
؎ لِإلٍّ عَلَيْنا واجِبٌ لا نُضَيِّعُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ مَتِينٌ قُواهُ غَيْرُ مُنْتَكَثِ الحَبْلِ
ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ القَرابَةُ، فَإنَّ القَرابَةَ في لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ لَها: إلٌّ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
؎ أفْسَدَ الناسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ∗∗∗ ∗∗∗ قَطَعُوا الإلَّ وأعْراقَ الرَحِمْ
(p-٢٦٦)أنْشُدَهُ أبُو عُبَيْدَةَ عَلى القَرابَةِ، وظاهِرُهُ أنَّهُ في العُهُودِ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ:
؎ لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ في قُرَيْشٍ ∗∗∗ ∗∗∗ كَإلِّ السَقْبِ مِن رَأْلِ النَعامِ
وأمّا مَن قَرَأ: "ألًّا" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ فَهو مَصْدَرٌ مِن فِعْلِ الألِّ الَّذِي هو العَهْدُ، ومَن قَرَأ: "إيلًا" فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فَإنَّهُ يُقالُ: إلٌّ وإيلٌ، وفي البُخارِيِّ: قالَ اللهُ: جِبْرَ، ومِيكَ، وسِرافَ: عَبْدٌ بِالسُرْيانِيَّةِ، وإيلُ: اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ "إلًّا" المُتَقَدِّمَ فَأبْدَلَ مِن أحَدِ المِثْلَيْنِ ياءً، كَما فَعَلُوا ذَلِكَ في قَوْلِهِمْ: أمّا وأيْما، ومِنهُ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ قُرْطٍ يَهْجُو أُمَّهُ:
؎ يا لَيْتَما أُمُّنا شالَتْ نَعامَتُها ∗∗∗ ∗∗∗ أيْما إلى جَنَّةٍ أيْما إلى نارِ
ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ:
؎ رَأتْ رَجُلًا أيْما إذا الشَمْسُ عارَضَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ فَيَضْحى وأمّا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
وقالَ آخَرُ:
؎ لا تُفْسِدُوا أبًا لَكم ∗∗∗ ∗∗∗ إيما لَنا إيما لَكُمْ
قالَ أبُو الفَتْحِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِن آلَ يَؤُولُ إذا ساسَ.
(p-١٦٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
كَما قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "قَدْ أُلْنا وإيلَ عَلَيْنا"، فَكانَ المَعْنى -عَلى هَذا-: لا يَرْقُبُونَ فِيكم سِياسَةً ولا مُداراةً ولا ذِمَّةً، وقُلَبَتِ الواوُ ياءً لِسُكُونِها والكَسْرَةِ قَبْلَها.
و"الذِمَّةُ" أيْضًا بِمَعْنى المَتابِ والحِلْفِ والجِوارِ، ونَحْوُهُ قَوْلُ الأصْمَعِيِّ: "الذِمَّةُ كُلُّ ما يَجِبُ أنْ يُحْفَظَ ويُحْمى"، فَمَن رَأى في "الإلِّ" أنَّهُ العَهْدُ جَعَلَهُما لَفْظَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ لِمَعْنًى واحِدٍ أو مُتَقارِبٍ، ومَن رَأى "الإلَّ" لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُما لَفْظانِ لِمَعْنَيَيْنِ.
و( تَأْبى قُلُوبُهم ) مَعْناهُ: تَأْبى أنْ تُذْعِنَ لِما يَقُولُونَهُ بِالألْسِنَةِ، وأبى يَأْبى شاذٌّ، لا يُحْفَظُ فَعَلَ يَفْعَلُ بِفَتْحِ العَيْنِ في الماضِي والمُسْتَقْبَلِ، وقَدْ حُكِيَ رَكَنَ يَرْكَنُ. وقَوْلُهُ: ﴿وَأكْثَرُهُمْ﴾ يُرِيدُ بِهِ الكُلَّ، أو يُرِيدُ اسْتِثْناءَ مَن قَضى لَهُ بِالإيمانِ، كُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ الآيَةُ. اللازِمُ مِن ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ هَذِهِ الطائِفَةَ الكافِرَةَ المَوْصُوفَةَ بِما تَقَدَّمَ لَمّا تَرَكَتْ آياتِ اللهِ ودِينَهُ وآثَرَتِ الكُفْرَ وحالَها في بِلادِها، كُلُّ ذَلِكَ كالشِراءِ والبَيْعِ لَمّا كانَ تَرْكًا لِما قَدْ مُكِّنُوا مِنهُ وأخْذًا لِما يُمْكِنُ نَبْذُهُ، وهَذِهِ نَزْعَةُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ في مَنعِ اخْتِيارِ المُشْتَرِي فِيما تَخْتَلِفُ آحادُ جِنْسِهِ، ولا يَجُوزُ التَفاضُلُ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَصَدُّوا عن سَبِيلِهِ﴾ يُرِيدُ: صَدُّوا أنْفُسَهم وغَيْرَهُمْ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّ عَمَلَهم سَيِّئٌ، و"ساءَ" في هَذِهِ الآيَةِ -إذْ لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُها- يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُضَمَّنَةً كَبِئْسَ، فَأمّا إذا قُلْتَ: "ساءَنِي فِعْلُ زَيْدٍ" فَلَيْسَ تَضْمِينٌ بِوَجْهٍ، وإنْ قَدَّرْتَ في هَذِهِ الآيَةِ مَفْعُولًا زالَ التَضْمِينُ.
ورُوِيَ أنَّ أبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ جَمَعَ بَعْضَ العَرَبِ عَلى طَعامٍ، ونَدَبَهم إلى وجْهٍ مِن (p-٢٦٨)وُجُوهِ النَقْضِ فَأجابُوا إلى ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: هَذِهِ في اليَهُودِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا القَوْلُ وإنَّ كانَتْ ألْفاظُ هَذِهِ الآيَةِ تَقْتَضِيهِ فَما قَبْلَها وما بَعْدَها يَرُدُّهُ ويَتَبَرَّأُ مِنهُ، ويَخْتَلُّ أُسْلُوبُ القَوْلِ بِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَرْقُبُونَ﴾ الآيَةُ، وصْفٌ لِهَذِهِ الطائِفَةِ المُشْتَرِيَةِ يَضْعُفُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن قالَ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ﴾ هو في اليَهُودِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي مُؤْمِنٍ﴾ إعْلامٌ بِأنَّ عَداوَتَهم إنَّما هي بِحَسَبِ الإيمانِ فَقَطْ، وقَوْلُهُ أوَّلًا: فِيكم كانَ يُحْتَمَلُ أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ ذَلِكَ لِلْإحَنِ الَّتِي وقَعَتْ فَزالَ هَذا الِاحْتِمالُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي مُؤْمِنٍ﴾ ثُمَّ وصَفَهم بِالِاعْتِداءِ والبَداءَةِ بِالنَقْضِ لِلْعُهُودِ والتَعَمُّقِ في الباطِلِ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["كَیۡفَ وَإِن یَظۡهَرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ لَا یَرۡقُبُوا۟ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ یُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَـٰسِقُونَ","ٱشۡتَرَوۡا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰا فَصَدُّوا۟ عَن سَبِیلِهِۦۤۚ إِنَّهُمۡ سَاۤءَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","لَا یَرۡقُبُونَ فِی مُؤۡمِنٍ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُعۡتَدُونَ"],"ayah":"كَیۡفَ وَإِن یَظۡهَرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ لَا یَرۡقُبُوا۟ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ یُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق