الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهم إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ . قَوْلُهُ: ﴿كَيْفَ﴾ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ كَما تَقُولُ: كَيْفَ يَسْبِقُنِي مِثْلُكَ ؟ أيْ لا يَنْبَغِي أنْ يَسْبِقَنِي وفي الآيَةِ مَحْذُوفٌ وتَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مَعَ إضْمارِ الغَدْرِ فِيما وقَعَ مِنَ العَهْدِ إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ، لِأجْلِ أنَّهم ما نَكَثُوا وما نَقَضُوا قِيلَ: إنَّهم بَنُو كِنانَةَ وبَنُو ضَمْرَةَ فَتَرَبَّصُوا أمْرَهم ولا تَقْتُلُوهم فَما اسْتَقامُوا لَكم عَلى العَهْدِ فاسْتَقِيمُوا لَهم عَلى مِثْلِهِ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي مَنِ اتَّقى اللَّهَ يُوفِي بِعَهْدِهِ لِمَن عاهَدَ واللَّهُ أعْلَمُ. ﴿كَيْفَ وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم لا يَرْقُبُوا فِيكم إلًّا ولا ذِمَّةً يُرْضُونَكم بِأفْواهِهِمْ وتَأْبى قُلُوبُهم وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إنَّهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً وأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَيْفَ﴾ تِكْرارٌ لِاسْتِبْعادِ ثَباتِ المُشْرِكِينَ عَلى العَهْدِ، وحُذِفَ الفِعْلُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا أيْ كَيْفَ يَكُونُ عَهْدُهم وحالُهم أنَّهم إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم بَعْدَما سَبَقَ لَهم مِن تَأْكِيدِ الإيمانِ والمَواثِيقِ لَمْ يَنْظُرُوا إلى حِلْفٍ ولا عَهْدٍ ”ولَمْ يُبْقُوا عَلَيْكم“ هَذا هو المَعْنى، ولا بُدَّ مِن تَفْسِيرِ الألْفاظِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ يُقالُ: (p-١٨٤)ظَهَرْتُ عَلى فُلانٍ إذا عَلَوْتُهُ، وظَهَرْتُ عَلى السَّطْحِ إذا صِرْتُ فَوْقَهُ، قالَ اللَّيْثُ: الظُّهُورُ الظَّفَرُ بِالشَّيْءِ، وأظْهَرَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ عَلى المُشْرِكِينَ أيْ أعْلاهم عَلَيْهِمْ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ [الصَّفِّ: ١٤] وقَوْلُهُ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٣] أيْ لِيُعْلِيَهُ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ مَن غَلَبَ غَيْرَهُ حَصَلَتْ لَهُ صِفَةُ كَمالٍ، ومَن كانَ كَذَلِكَ أظْهَرَ نَفْسَهُ ومَن صارَ مَغْلُوبًا صارَ كالنّاقِصِ، والنّاقِصُ لا يُظْهِرُ نَفْسَهُ ويُخْفِي نُقْصانَهُ فَصارَ الظُّهُورُ كِنايَةً لِلْغَلَبَةِ لِكَوْنِهِ مِن لَوازِمِها فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ يُرِيدُ إنْ يَقْدِرُوا عَلَيْكم وقَوْلُهُ: ﴿لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ﴾ قالَ اللَّيْثُ: رَقَبَ الإنْسانَ يَرْقُبُهُ رِقْبَةً ورُقُوبًا وهو أنْ يَنْتَظِرَهُ ورَقِيبُ القَوْمِ حارِسُهم وقَوْلُهُ: ﴿ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤] أيْ لَمْ تَحْفَظْهُ، أمّا الأوَّلُ فَفِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ العَهْدُ قالَ الشّاعِرُ: ؎وجَدْناهم كاذِبًا إلُّهم وذُو الإلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ يَعْنِي العَهْدَ. الثّانِي: قالَ الفَرّاءُ: الإلُّ القَرابَةُ. قالَ حَسّانُ: ؎لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِن قُرَيْشٍ ∗∗∗ كَإلِّ السَّقْبِ مِن رَأْلِ النَّعامِ يَعْنِي القَرابَةَ. والثّالِثُ: الإلُّ الحِلْفُ، قالَ أوْسُ بْنُ حُجْرٍ: ؎لَوْلا بَنُو مالِكٍ والإلُّ مَرْقَبَةٌ ∗∗∗ ومالِكٌ فِيهِمُ الآلاءُ والشَّرَفُ يَعْنِي الحِلْفَ. والرّابِعُ: الإلُّ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وعَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ لَمّا سَمِعَ هَذَيانَ مُسَيْلِمَةَ قالَ: إنَّ هَذا الكَلامَ لَمْ يَخْرُجْ مِن إلٍّ، وطَعَنَ الزَّجّاجُ في هَذا القَوْلِ وقالَ: أسْماءُ اللَّهِ مَعْلُومَةٌ مِنَ الأخْبارِ والقُرْآنِ ولَمْ يُسْمَعْ أحَدٌ يَقُولُ: يا إلُّ. الخامِسُ: قالَ الزَّجّاجُ: حَقِيقَةُ الإلِّ عِنْدِي عَلى ما تُوجِبُهُ اللُّغَةُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ، فَمِن ذَلِكَ الإلَّةُ الحَرْبَةُ. وأُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ، فالإلُّ يَخْرُجُ في جَمِيعِ ما فُسِّرَ مِنَ العَهْدِ والقَرابَةِ. السّادِسُ: قالَ الأزْهَرِيُّ: إيلْ مِن أسْماءِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِالعِبْرانِيَّةِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ عُرِّبَ، فَقِيلَ إلٌّ. السّابِعُ: قالَ بَعْضُهم: الإلُّ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: ألَّ يَؤُلُّ ألًّا، إذا صَفا ولَمَعَ ومِنهُ الآلُ لِلَمَعانِهِ، وأُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ شَبِيهَةٌ بِالحَرْبَةِ في تَحْدِيدِها ولَهُ ألِيلٌ أيْ أنِينٌ يَرْفَعُ بِهِ صَوْتَهُ، ورَفَعَتِ المَرْأةُ ألِيلَها إذا ولْوَلَتْ، فالعَهْدُ سُمِّيَ إلًّا، لِظُهُورِهِ وصَفائِهِ مِن شَوائِبِ الغَدْرِ، أوْ لِأنَّ القَوْمَ إذا تَحالَفُوا رَفَعُوا بِهِ أصْواتَهم وشَهَرُوهُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا ذِمَّةً﴾ فالذِّمَّةُ العَهْدُ، وجَمْعُها ذِمَمٌ وذِمامٌ، كُلُّ أمْرٍ لَزِمَكَ، وكانَ بِحَيْثُ لَوْ ضَيَّعْتَهُ لَزِمَتْكَ مَذَمَّةٌ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: الذِّمَّةُ ما يُتَذَمَّمُ مِنهُ، يَعْنِي ما يُجْتَنَبُ فِيهِ الذَّمُّ يُقالُ: تَذَمَّمَ فُلانٌ، أيْ ألْقى عَلى نَفْسِهِ الذَّمَّ، ونَظِيرُهُ تَحَوَّبَ، وتَأثَّمَ وتَحَرَّجَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُرْضُونَكم بِأفْواهِهِمْ وتَأْبى قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ كَلامًا حُلْوًا طَيِّبًا، والَّذِي في قُلُوبِهِمْ بِخِلافِ ذَلِكَ، فَإنَّهم لا يُضْمِرُونَ إلّا الشَّرَّ والإيذاءَ إنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ﴿وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: المَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كُفّارٌ، والكُفْرُ أقْبَحُ وأخْبَثُ مِنَ الفِسْقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ وصْفُهم بِالفِسْقِ في مَعْرِضِ المُبالَغَةِ في الذَّمِّ ؟ السُّؤالُ الثّانِي: إنَّ الكُفّارَ كُلَّهم فاسِقُونَ، فَلا يَبْقى لِقَوْلِهِ: ﴿وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ فائِدَةٌ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الكافِرَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا في دِينِهِ، وقَدْ يَكُونُ فاسِقًا خَبِيثَ النَّفْسِ في دِينِهِ، (p-١٨٥)فالمُرادُ هَهُنا أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ الَّذِينَ مِن عادَتِهِمْ نَقْضُ العُهُودِ ﴿وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ في دِينِهِمْ وعِنْدَ أقْوامِهِمْ، وذَلِكَ يُوجِبُ المُبالَغَةَ في الذَّمِّ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي عَيْنُ ما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّ الكافِرَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَرِزًا عَنِ الكَذِبِ، ونَقْضِ العَهْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ، وقَدْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ، ومِثْلُ هَذا الشَّخْصِ يَكُونُ مَذْمُومًا عِنْدَ جَمِيعِ النّاسِ وفي جَمِيعِ الأدْيانِ، فالمُرادُ بِقَوْلِهِ:(﴿وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ أنَّ أكْثَرَهم مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ، وأيْضًا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ أُولَئِكَ الكُفّارِ قَدْ أسْلَمَ وتابَ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ: ﴿وأكْثَرُهم فاسِقُونَ﴾ حَتّى يَخْرُجَ عَنْ هَذا الحُكْمِ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسْلامِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ المُشْرِكُونَ، قالَ مُجاهِدٌ: أطْعَمَ أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ حُلَفاءَهُ، وتَرَكَ حُلَفاءَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَقَضُوا العَهْدَ الَّذِي كانَ بَيْنَهم بِسَبَبِ تِلْكَ الأكْلَةِ. الثّانِي: لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ طائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ أعانُوا المُشْرِكِينَ عَلى نَقْضِ تِلْكَ العُهُودِ، فَكانَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ ذَمَّ أُولَئِكَ اليَهُودِ، وهَذا اللَّفْظُ في القُرْآنِ كالأمْرِ المُخْتَصِّ بِاليَهُودِ، ويَقْوى هَذا الوَجْهُ بِما أنَّ اللَّهَ تَعالى أعادَ قَوْلَهُ: ﴿لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً﴾ ولَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ المُشْرِكِينَ لَكانَ هَذا تِكْرارًا مَحْضًا، ولَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ اليَهُودَ لَمْ يَكُنْ هَذا تِكْرارًا، فَكانَ ذَلِكَ أوْلى. ثُمَّ قالَ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾ يَعْنِي يَعْتَدُونَ ما حَدَّهُ اللَّهُ في دِينِهِ وما يُوجِبُهُ العَقْدُ والعَهْدُ، وفي ذَلِكَ نِهايَةُ الذَّمِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب