قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه. فقدَّره أبو البقاء: «كيف تَطْمئنون أو: كيف يكونُ لهم عهدٌ» . وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم. والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقوى، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدَّم منه قولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] ، وقال الشاعر:
2456 - وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟ ، وقال الحطيئة: 2457 - فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ ... على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي: كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ: «وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم» . قلت: ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه.
قوله: {وَإِن يَظْهَرُوا} هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169] . و «لا يرقُبوا» جوابُ الشرط. وقرأ زيد بن علي: «وإن يُظْهَروا» ببنائِه للمفعول، مِنْ أظهره عليه أي: جعله غالباً له.
قوله: {إِلاًّ} مفعولٌ به ب «يرقُبوا» أي: لا يَحْفظوا. وفي «الإِلِّ» أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي، ومنه قول الشاعر:
2458 - لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف. وقال آخر:
2459 - وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ ... وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ وقال آخر:
2460 - أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا ... قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع: «بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلّ، بَرودُ الظلّ» أي: وفيُّ العهد.
الثاني: أن المرادَ به القَرابة، وبه قال الفراء، وأنشد لحسان رضي الله عنه:
2461 - لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله:
2462 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث: أن المرادَ به الله تعالى أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله: «إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ» أي: الله عز وجل. ولم يرتضِ هذا الزجاج قال: «لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ افعلْ لي كذا.
الرابع: أن الإِلَّ الجُؤَار، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً، ومنه قول أبي جهل:
2463 - لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه ... متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ
الخامس: أنه مِنْ «ألَّ البرقُ» أي: لَمَع. قال الأزهري: «الأَلِيل: البريق، يقال: ألَّ يَؤُلُّ أي: صفا ولمع» . وقيل: الإِلُّ مِن التحديد ومنه «الأَلَّةُ» الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها. وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك، فقال الزجاج: «حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء، فَمِنْ ذلك: الأَْلَّةُ: الحَرْبَةُ، وأُذُن مُؤَلَّلَة، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار من هذا، فإذا قلت في العهد:» بينهما إلٌّ «فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ العهود، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة. وقال الراغب:» الإِلُّ: كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي: تَلْمَع، وألَّ الفَرَسُ: أسرع، والأَْلَّةُ: / الحَرْبَةُ اللامعة «، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم فتح مكة:
2464 - إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ ... هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ
وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ ... قال:» وقيل: الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله تعالى، وليس ذلك بصحيحٍ، والألَلاَن صفحتا السكين «انتهى. ويُجمع الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ، والأصل: أَأْلُل بزنة أَفْلُس، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأُدْغمت اللامُ في اللام. وفي الكثرة على إلال كذِئْب وذِئاب. والأَْلُّ بالفتح قيل: شدَّة القنوط. قال الهروي في الحديث:» عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم «قال أبو عبيد:» المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتْحُها، وهو أشبهُ بالمصادر، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم، ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاء، ومنه يقال: له الويل والأَلِيل، ومنه قولُ الكميت:
2465 - وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُ
انتهى. وقرأت فرقة: «ألاًّ» بالفتح، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة: «إيلاً» بكسرِ الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنه اسمُ الله تعالى، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله. والثاني: أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة. وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ ياءً كريح. الثالث: أنه هو الإِلُّ المضعف، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم: أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته. قال: الشاعر: 2466 - يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها ... أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ
قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} الذِّمَّة: قيل العهد، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ لفظِه إذا قلنا: إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى:
{صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] .
وقوله:
2467 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقوله:
2468 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ
وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي أي: في ضماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين، ويقال: «له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة، وهي الذِّمُّ» . قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحرث:
2469 - يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة ... كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقال الراغب: «الذِّمام: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة» يعني بالفتح والكسر وقيل: لي مَذَمَّةٌ فلا تَهْتكها. وقال غيره: «سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة» ، وتُجْمع على ذِمّ كقوله:
2470 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما ناشد الذِّمَّ. . . . . . . . . . .
وعلى ذِمَم وذِمَام. وقال أبو زيد: «مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من الذَّمِّ» . وقال الأزهري: «الذِّمَّة: الأمان» ، وفي الحديث: «ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم» ، قال أبو عبيد: «الذمَّة الأمانُ ههنا، يقول: إذا أعطى أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع العسكر» . وقال الأصمعي: «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى» .
قوله: {يُرْضُونَكُم} فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أن حالهم كذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لا يَرْقُبوا» ، قال أبو البقاء: «وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون المؤمنين» .
قوله: {وتأبى} يقال: أبى يأبى إبىً أي: اشتد امتناعُه: فكلُّ إباءٍ امتناعُ مِنْ غير عكس قال:
2471 - أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه ... فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ
وقال آخر: 2472 - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه ... عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق/ الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ، ومثله قَلَى يقلى في لغة.
{"ayah":"كَیۡفَ وَإِن یَظۡهَرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ لَا یَرۡقُبُوا۟ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ یُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَـٰسِقُونَ"}