الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتُهم وما ألَتْناهم مِن عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾ ﴿وَأمْدَدْناهم بِفاكِهَةٍ ولَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهم كَأنَّهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ ﴿وَأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهْلِنا مُشْفِقِينَ﴾ ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ووَقانا عَذابَ السَمُومِ﴾ ﴿إنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هو البَرُّ الرَحِيمُ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وطَلْحَةُ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وأهْلُ مَكَّةَ: "واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتُهُمْ"، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ -بِخِلافٍ عنهُ - وأبُو عَمْرٍو - بِخِلافٍ عنهُ وشَيْبَةُ، والجَحْدَرِيُّ، وعِيسى: " واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ"، ورَوى خارِجَةُ عنهُ مِثْلَ قِراءَةِ حَمْزَةَ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَحّاكُ: "وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان أحلقنا بهم ذرياتهم" وقَرَأ أبُو عَمْرو، والأعْرَج، وأبُو رَجاء، والشَعْبِيّ، وابْن جُبَيْر، والضَحّاك: "وَأتْبَعْناهم ذُرِّيّاتِهِمْ بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ"، فَلِكَوْنِ "الذُرِّيَّةِ" (p-٩٢)جَمْعًا في نَفْسِهِ حَسُنَ الإفْرادُ في هَذِهِ القِراءاتِ، ولِكَوْنِ المَعْنى يَقْتَضِي انْتِشارًا أو كَثْرَةً حَسُنُ جَمْعُ الذُرِّيَّةِ في قِراءَةِ مَن قَرَأ: "ذُرِّيّاتِهِمْ". واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى الآيَةِ - قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والجُمْهُورُ: أخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّ المُؤْمِنَيْنِ اللَذِينَ تَتَّبِعُهم ذُرِّيَّتُهم في الإيمانِ فَيَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ كَآبائِهِمْ، وإنْ لَمْ يَكُونُوا في التَقْوى والأعْمالِ كالآباءِ، فَإنَّهُ يُلْحِقُ الأبْناءَ بِمَراتِبِ أُولَئِكَ الآباءِ كَرامَةً لِلْآباءِ، وقَدْ ورَدَ في هَذا المَعْنى حَدِيثٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، فَجَعَلُوا الحَدِيثَ تَفْسِيرَ الآيَةِ، وكَذَلِكَ ورَدَتْ أحادِيثُ تَقْتَضِي أنَّ اللهَ تَعالى يَرْحَمُ الآباءَ رَعْيًا لِلْأبْناءِ الصالِحِينَ، وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى إخْراجِ هَذا المَعْنى مِن هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لا يَتَرَتَّبُ إلّا بِأنْ نَجْعَلَ اسْمَ "الذُرِّيَّةِ" بِمَثابَةِ نَوْعِهِمْ عَلى نَحْوِ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهم في الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١]، وفي هَذا نَظَرٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، والضَحّاكُ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى يُلْحِقُ الأبْناءَ الصِغارَ بِأحْكامِ الآباءِ المُؤْمِنِينَ في المُوارَثَةِ والدَفْنِ في قُبُورِ الإسْلامِ، وفي أحْكامِ الآخِرَةِ في الجَنَّةِ، وحَكى أبُو حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: الآيَةُ في الكِبارِ مِنَ الذُرِّيَّةِ ولَيْسَ فِيها مِنَ الصِغارِ شَيْءٌ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هي في الصِغارِ لا في الكِبارِ، وحَكى الطَبَرِيُّ قَوْلًا مَعْناهُ أنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ تَعالى: "بِهِمْ" عائِدٌ عَلى الذُرِّيَّةِ، والضَمِيرُ الَّذِي بَعْدَهُ في "ذُرِّيّاتِهِمْ" عائِدٌ عَلى "الَّذِينَ"، أيْ: اتَّبَعَهُمُ الكِبارُ وألْحَقْنا نَحْنُ بِالكِبارِ الصِغارَ، وهَذا قَوْلٌ مُسْتَكْرَهٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: "بِإيمانٍ" هو في مَوْضِعِ الحالِ، فَمَن رَأى أنَّ الآيَةَ في الأبْناءِ الصِغارِ (p-٩٣)فالحالُ مِنَ الضَمِيرِ في قَوْلِهِ تَعالى: "اتَّبَعَتْهُمْ"، فَهو مِنَ المَفْعُولَيْنِ، ومَن رَأى أنَّ الآيَةَ في الأبْناءِ الكِبارِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الحالُ مِنَ المَفْعُولَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّبِعِينَ الفاعِلِينَ، وأرْجَحُ الأقْوالِ في هَذِهِ الآيَةِ القَوْلُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ الآياتِ كُلَّها في صِفَةِ إحْسانِ اللهِ تَعالى إلى أهْلِ الجَنَّةِ، فَذَكَرَ مِن جُمْلَةِ إحْسانِهِ أنَّهُ يَرْعى المُحْسِنَ في المُسِيءِ، ولَفْظَةُ "ألْحَقْنا" تَقْتَضِي أنَّ لِلْمُلْحَقِ بَعْضُ التَقْصِيرِ في الأعْمالِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ القُرّاءِ: "ألَتْناهُمْ" بِفَتْحِ اللامِ، مَن "ألَتَ" وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو يَحْيى، وشِبْلُ: "ألَتْناهُمْ" مِن "ألِتَ" بِكَسْرِ اللامِ، وقَرَأ الأعْرَجُ: "وَما ألَتْناهُمْ"عَلى وزْنِ أفْعَلْناهُمْ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ: "لِتْناهُمْ" مِن "لاتَ"، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُصَرِّفٍ، ورَواها القَوّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وتَحْتَمِلُ قِراءَةَ مَن قَرَأ: "ألَتْناهُمْ" بِفَتْحِ اللامِ أنْ تَكُونَ مِن "ألاتَ" فَإنَّهُ يُقالُ: ألاتَ يُلِيتُ إلاتَةً، ولاتَ يَلِيتُ لَيْتًا، وآلَتَ يُؤْلِتُ إيلاتًا، وألَتَ يَأْلِتُ، وألِتَ يَأْلِتُ ولْتًا، كُلُّها بِمَعْنى بَعْض. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى يَلْحَقُ المُقَصِّرَ بِالمُحْسِنِ ولا يَنْقُصُ المُحْسِنَ مَن أجْرِهِ شَيْئًا، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ والجُمْهُورِ، ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما ألَتْناهم مِن عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ أنْ يُرِيدَ: مِن عَمَلِهِمُ الحَسَنَ والقَبِيحَ، ويَكُونُ الضَمِيرُ في "عَمَلِهِمْ" عائِدًا عَلى الأبْناءِ، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ زَيْدٍ، ويُحَسِّنُ هَذا الِاحْتِمالَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾، والرَهِينُ: المُرْتَهِنُ، وفي هَذِهِ الألْفاظِ وعِيدٌ، وحَكى أبُو حاتِمٍ عَنِ الأعْمَشِ أنَّهُ قَرَأ: "وَما لَتْناهُمْ" بِغَيْرِ ألِفٍ وبِفَتْحِ اللامِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: لا تَجُوزُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. و"أمْدَدْتُ الشَيْءَ" إذا سَيَّرْتَ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ يُكَثِّرُهُ أو يَكْثُرُ لَدَيْهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ إشارَةٌ إلى ما رُوِيَ مِن أنَّ المُنْعِمَ إذا اشْتَهى لَحْمًا نَزَلَ ذَلِكَ الحَيَوانُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلى الهَيْئَةِ الَّتِي اشْتَهاهُ فِيها، ولَيْسَ يَكُونُ في الجَنَّةِ لَحْمٌ يَخْتَرُ، ولا يَتَكَلَّفُ فِيهِ الذَبْحُ والسَلْخُ والطَبْخُ، وبِالجُمْلَةِ لا كُلْفَةَ في الجَنَّةِ. (p-٩٤)وَ"يَتَنازَعُونَ" مَعْناهُ: يَتَعاطَوْنَ، ومِنهُ قَوْلُ الأخْطَلِ: ؎ نازَعْتَهُ طَيِّبَ الراحِ الشُمُولِ وقَدْ صاحَ الدَجاجُ وحانَتْ وقْعَةُ السارِي و"الكَأْسُ": الإناءُ وفِيهِ الشَرابُ، ولا يُقالُ في فارِغٍ "كَأْسٌ"، قالَهُ الزَجّاجُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ السَبْعَةِ وغَيْرُهُمْ: "لا لَغْوٌ" بِالرَفْعِ "وَلا تَأْثِيمٌ" كَذَلِكَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والحَسَنُ: "لا لَغْوَ فِيها ولا تَأْثِيمَ" بِالنَصْبِ عَلى التَبْرِيَةِ، وعَلى الوَجْهَيْنِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: "فِيها" هو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وأغْنى خَبَرُ الأوَّلِ عن ذِكْرِ خَبَرِ الثانِي، و"اللَغْوُ": السَقْطُ مِنَ القَوْلِ، و"التَأْثِيمُ" يَلْحَقُ خَمْرَ الدُنْيا في نَفْسِ شُرْبِها وفي الأفْعالِ الَّتِي تَكُونُ مِن شَرابِها، وذَلِكَ كُلُّهُ مُرْتَفِعٌ في الآخِرَةِ. و"اللُؤْلُؤُ المَكْنُونُ" أجْمَلُ اللُؤْلُؤِ لِأنَّ الصَوْنَ والَكِنَّ يُحْسِنُهُ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أرادَ أنَّهُ الَّذِي في الصُدَفِ لَمْ تَنَلْهُ الأيْدِي، «وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إذا كانَ الغِلْمانُ كاللُؤْلُؤِ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "هم كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ"،» ثُمَّ وصَفَ تَعالى عنهم أنَّهم في جُمْلَةِ تَنَعُّمِهِمْ يَتَساءَلُونَ، عن أحْوالِهِمْ وما نالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُمْ، وأنَّهم يَتَذَكَّرُونَ حالَ الدُنْيا وخَشْيَتَهم فِيها عَذابُ الآخِرَةِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: تَساؤُلُهم إذا بَعَثُوا في النَفْخَةِ الثانِيَةِ، و"الإشْفاقُ" أشَدُّ الخَشْيَةِ ورِقَّةُ القَلْبِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "وَوَقّانا" بِشَدِّ القافِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِها، (p-٩٥)وَأمالَ عِيسى الثَقَفِيُّ "وَقانا" بِتَخْفِيفِ القافِ، و"السَمُومِ": الحارُّ، قالَ الرُمّانِيُّ: هو الَّذِي يَبْلُغُ مَسامَّ الإنْسانِ، وهو النارُ في هَذِهِ الآيَةِ، وقَدْ يُقالُ في حَرِّ الشَمْسِ وفي الرِيحِ: سُمُومٌ. وقالَ الحَسَنُ: السَمُومُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ. و"نَدْعُوهُ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: نَعْبُدُهُ، ويُحْسِنُ هَذا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: "أنَّهُ" بِفَتْحِ الألِفِ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ -بِخِلافٍ- والكِسائِيِّ، وأبِي جَعْفَرٍ، والحَسَنِ، وأبِي نَوْفَلٍ، أيْ: مِن أجْلِ أنَّهُ، وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ، والأعْرَجُ، وجَماعَةٌ: "إنَّهُ" عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، ويَحْسُنُ مَعَ هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ "نَدْعُوهُ" بِمَعْنى نَعْبُدُهُ، أو بِمَعْنى الدُعاءِ نَفْسِهِ، ومَن رَأى "نَدْعُوهُ" بِمَعْنى الدُعاءِ نَفْسِهِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ تَعالى: "أنَّهُ" بِالفَتْحِ هو نَفْسُ الدُعاءِ الَّذِي كانَ في الدُنْيا، و"البَرُّ" هو الَّذِي يَبِرُّ ويُحْسِنُ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: ؎ جاءَتْ مِنَ البِيضِ زُعْرًا لا لِباسَ لَها ∗∗∗ إلّا الدِهاسُ وأُمٌّ بَرَّةٌ وأبُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب