الباحث القرآني

ومِن غَرِيبِ ما يُحْكى أنَّ شَخْصًا رَأى في النَّوْمِ في كَفِّهِ مَكْتُوبًا خَمْسُ واواتٍ، فَعُبِّرَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَسَألَ ابْنَ سِيرِينَ، فَقالَ: تَهَيَّأْ لِما لا يَسُرُّ، فَقالَ لَهُ: مِن أيْنَ أخَذْتَ هَذا ؟ فَقالَ: مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والطُّورِ﴾ [الطور: ١] إلى ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ [الطور: ٧]، فَما مَضى يَوْمانِ أوْ ثَلاثَةٌ حَتّى أُحِيطَ بِذَلِكَ الشَّخْصِ. وانْتَصَبَ يَوْمٌ بِدافِعٍ، قالَهُ الحَوْفِيُّ، وقالَ مَكِّيُّ: لا يَعْمَلُ فِيهِ واقِعٌ، ولَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ المَنعِ. وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: (لَواقِعٌ)، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ﴿ما لَهُ مِن دافِعٍ﴾ [الطور: ٨] عَلى هَذا جُمْلَةُ اعْتِراضٍ بَيْنَ العامِلِ والمَعْمُولِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (تَمُورُ): تَضْطَرِبُ. وقالَ أيْضًا: تَشَقَّقُ. وقالَ الضَّحّاكُ: يَمُوجُ بَعْضُها في بَعْضٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: تَدُورُ. ﴿وتَسِيرُ الجِبالُ سَيْرًا﴾ [الطور: ١٠]، هَذا في أوَّلِ الأمْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ حَتّى تَصِيرَ آخِرًا ﴿كالعِهْنِ المَنفُوشِ﴾ [القارعة: ٥] . (فَوَيْلٌ): عُطِفَ عَلى جُمْلَةٍ تَتَضَمَّنُ رَبْطَ المَعْنى وتَأْكِيدَهُ. والخَوْضُ: التَّخَبُّطُ في الباطِلِ، وغَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في الِانْدِفاعِ في الباطِلِ. ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ﴾ [الطور: ١٣]، وذَلِكَ أنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَغُلُّونَ أيْدِيَ الكُفّارِ إلى أعْناقِهِمْ، ويَجْمَعُونَ نَواصِيَهم إلى أقْدامِهِمْ، ويَدْفَعُونَهم إلى النّارِ دَفْعًا عَلى وُجُوهِهِمْ وزَجًّا في أقْفِيَتِهِمْ. وقَرَأ عَلِيٌّ وأبُو رَجاءٍ والسُّلَمِيُّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُدْعَوْنَ، بِسُكُونِ الدّالِ وفَتْحِ العَيْنِ: مِنَ الدُّعاءِ، أيْ يُقالُ لَهم: هَلُمُّوا إلى النّارِ، وادْخُلُوها (دَعًّا): مَدْعُوعِينَ، يُقالُ لَهم: ﴿هَذِهِ النّارُ﴾ [الطور: ١٤] . لَمّا قِيلَ لَهم ذَلِكَ، وقَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلى الجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُمْكِنُ دُخُولُ الشَّكِّ في أنَّها النّارُ، وهي: إمّا أنْ يَكُونَ سِحْرٌ يُلَبِّسُ ذاتَ المَرْئِيِّ، وإمّا أنْ يَكُونَ في نَظَرِ النّاظِرِ اخْتِلالٌ، فَأمَرَهم بِصِلِيِّها عَلى جِهَةِ التَّقْرِيعِ. ثُمَّ قِيلَ لَهم عَلى قَطْعِ رَجائِهِمْ: ﴿فاصْبِرُوا أوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور: ١٦]: عَذابُكم حَتْمٌ، فَسَواءٌ صَبْرُكم وجَزَعُكم لا بُدَّ مِن جَزاءِ أعْمالِكم، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. (p-١٤٨)وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿أفَسِحْرٌ هَذا﴾ [الطور: ١٥]، يَعْنِي كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِلْوَحْيِ: هَذا سِحْرٌ. . ﴿أفَسِحْرٌ هَذا﴾ [الطور: ١٥]، يُرِيدُ: أهَذا المِصْداقُ أيْضًا سِحْرٌ ؟ ودَخَلَتِ الفاءُ لِهَذا المَعْنى. ﴿أمْ أنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ [الطور: ١٥]: كَما كُنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ في الدُّنْيا، يَعْنِي: أمْ أنْتُمْ عُمْيٌ عَنِ المُخْبَرِ عَنْهُ، كَما كُنْتُمْ عُمْيًا عَنِ الخَبَرِ ؟ وهَذا تَقْرِيعٌ وتَهَكُّمٌ. فَإنْ قُلْتَ: لِمَ عَلَّلَ اسْتِواءَ الصَّبْرِ وعَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: ١٦] ؟ قُلْتُ: لِأنَّ الصَّبْرَ إنَّما يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلى الجَزَعِ لِنَفْعِهِ في العاقِبَةِ، وبِأنْ يُجازى عَلَيْهِ الصّابِرُ جَزاءَ الخَيْرِ. فَأمّا الصَّبْرُ عَلى العَذابِ، الَّذِي هو الجَزاءُ ولا عاقِبَةَ لَهُ ولا مَنفَعَةَ، فَلا مَزِيَّةَ لَهُ عَلى الجَزَعِ. انْتَهى. وسِحْرٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وهَذا: مُبْتَدَأٌ، وسَواءٌ: مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أيِ الصَّبْرُ والجَزَعُ. وقالَ أبُو البَقاءِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ صَبْرُكم وتَرْكُهُ سَواءٌ. ولَمّا ذَكَرَ حالَ الكُفّارِ، ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ، لِيَقَعَ التَّرْهِيبُ والتَّرْغِيبُ، وهو إخْبارٌ عَنْ ما يَئُولُ إلَيْهِ حالُ المُؤْمِنِينَ، أُخْبِرُوا بِذَلِكَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ القَوْلِ لِلْكُفّارِ إذْ ذَلِكَ زِيادَةٌ في غَمِّهِمْ وتَنْكِيدٌ لَهم، والأوَّلُ أظْهَرُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَكِهِينَ، نَصْبًا عَلى الحالِ والخَبَرِ في ﴿جَنّاتٍ ونَعِيمٍ﴾ [الطور: ١٧] . وقَرَأ خالِدٌ: بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ إنَّ، وفي جَنّاتٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. ومَن أجازَ تَعْدادَ الخَبَرِ، أجازَ أنْ يَكُونا خَبَرَيْنِ. (ووَقاهم) مَعْطُوفٌ عَلى ﴿فِي جَنّاتٍ﴾ [الطور: ١٧]، إذِ المَعْنى: اسْتَقَرُّوا في جَنّاتٍ، أوْ عَلى (آتاهم)، وما مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ فَكِهِينَ بِإيتائِهِمْ رَبُّهُمُ النَّعِيمَ ووِقايَتِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الواوُ في (ووَقاهم) واوَ الحالِ، ومَن شَرَطَ قَدْ في الماضِي، قالَ: هي هُنا مُضْمَرَةٌ، أيْ وقَدْ وقاهم. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: ووَقاهم، بِتَشْدِيدِ القافِ. ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾ [الطور: ١٩] عَلى إضْمارِ القَوْلِ: أيْ يُقالُ لَهم: (هَنِيئًا) . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أكْلًا وشُرْبًا هَنِيئًا، أوْ طَعامًا وشَرابًا هَنِيئًا، وهو الَّذِي لا تَنْغِيصَ فِيهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ: ؎هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرُ داءٍ مُخامِرٍ لِعِزَّةٍ مِن أعْراضِنا ما اسْتَحَلَّتْ أعْنِي: صِفَةٌ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمالَ المَصْدَرِ القائِمِ مَقامَ الفِعْلِ، مُرْتَفِعًا بِهِ ما اسْتَحَلَّتْ، كَما يَرْتَفِعُ بِالفِعْلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: هُنا عِزَّةُ المُسْتَحِلِّ مِن أعْراضِنا. وكَذَلِكَ مَعْنى هَنِيئًا هاهُنا: هَنَّأكُمُ الأكْلُ والشُّرْبُ، أوْ هَنَّأكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أيْ جَزاءُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، والباءُ مَزِيدَةٌ كَما في: (كَفى بِاللَّهِ)، والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلُوا واشْرَبُوا، إذا جَعَلْتَ الفاعِلَ الأكْلَ والشُّرْبَ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ مُشْبَعًا عَلى (هَنِيئًا) في سُورَةِ النِّساءِ. وأمّا تَجْوِيزُهُ زِيادَةَ الباءِ، فَلَيْسَتْ زِيادَتُها مَقِيسَةً في الفاعِلِ، إلّا في فاعِلِ كَفى عَلى خِلافٍ فِيها؛ فَتَجْوِيزُ زِيادَتِها في الفاعِلِ هُنا لا يَسُوغُ. وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ الباءَ تَتَعَلَّقُ بِـ كُلُوا واشْرَبُوا، فَلا يَصِحُّ إلّا عَلى الأعْمالِ، فَهي تَتَعَلَّقُ بِأحَدِهِما. وانْتَصَبَ (مُتَّكِئِينَ) عَلى الحالِ. قالَ أبُو البَقاءِ: مِنَ الضَّمِيرِ في (كُلُوا)، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في (ووَقاهم)، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في (آتاهم)، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في (فاكِهِينَ)، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّهُ حالٌ مِنَ الظَّرْفِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فِي جَنّاتٍ﴾ [الطور: ١٧] . وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: عَلى سُرَرٍ، بِفَتْحِ الرّاءِ، وهي لُغَةٌ لِكَلْبٍ في المُضَعَّفِ، فِرارًا مِن تَوالِي ضَمَّتَيْنِ مَعَ التَّضْعِيفِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ: ﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الطور: ٢٠] عَلى الإضافَةِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور: ٢١] مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ (ألْحَقْناهُ) . وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ (والَّذِينَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى تَقْدِيرِ: وأكْرَمْنا الَّذِينَ آمَنُوا. ومَعْنى الآيَةِ، قالَ الجُمْهُورُ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُما: أنَّ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم في الإيمانِ يَكُونُونَ في مَراتِبِ آبائِهِمْ، وإنْ لَمْ يَكُونُوا في التَّقْوى والأعْمالِ مِثْلَهم كَرامَةً لِآبائِهِمْ. فَبِإيمانٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وأتْبَعْناهُمْ﴾ [القصص: ٤٢] . ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، قالَ: ”«إنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ المُؤْمِنِ مَعَهُ في دَرَجَتِهِ وإنْ كانَ لَمْ يَبْلُغْها بِعَمَلِهِ لِيُقِرَّ بِها عَيْنَهُ“ ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يُلْحِقُ الأبْناءَ الصِّغارَ، وإنْ لَمْ يَبْلُغُوا الإيمانَ بِأحْكامِ الآباءِ المُؤْمِنِينَ. انْتَهى. فَيَكُونُ بِإيمانٍ مُتَعَلِّقًا بِألْحَقْنا، أيْ ألْحَقْنا (p-١٤٩)بِسَبَبِ الإيمانِ الآباءَ بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ، وهُمُ الصِّغارُ الَّذِينَ ماتُوا ولَمْ يَبْلُغُوا التَّكْلِيفَ، فَهم في الجَنَّةِ مَعَ آبائِهِمْ، وإذا كانَ أبْناءُ الكُفّارِ، الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّكْلِيفِ في الجَنَّةِ، كَما ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، فَأحْرى بِأوْلادِ المُؤْمِنِينَ. وقالَ الحَسَنُ: الآيَةُ في الكِبارِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ هي في الصِّغارِ لا في الكِبارِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: الَّذِينَ آمَنُوا: المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، والذُّرِّيَّةُ: التّابِعُونَ. وعَنْهُ أيْضًا: إنْ كانَ الآباءُ أرْفَعَ دَرَجَةً، رَفَعَ اللَّهُ الأبْناءَ إلَيْهِمْ، فالآباءُ داخِلُونَ في اسْمِ الذُّرِّيَّةِ. وقالَ النَّخَعِيُّ: المَعْنى: أعْطَيْناهم أُجُورَهم مِن غَيْرِ نَقْصٍ، وجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهم كَذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور: ٢١]، مَعْطُوفٌ عَلى حُورٍ عِينٍ. أيْ قَرَنّاهم بِالحُورِ العِينِ؛ وبِالَّذِينَ آمَنُوا: أيْ بِالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ مِنهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧]، فَيَتَمَتَّعُونَ تارَةً بِمُلاعَبَةِ الحُورِ، وتارَةً بِمُؤانَسَةِ الإخْوانِ المُؤْمِنِينَ، وأتْبَعْناهم ذُرِّيّاتِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ، ثُمَّ قالَ: فَيَجْمَعُ اللَّهُ لَهم أنْواعَ السُّرُورِ بِسَعادَتِهِمْ في أنْفُسِهِمْ، وبِمُزاوَجَةِ الحُورِ العِينِ، وبِمُؤانَسَةِ الإخْوانِ المُؤْمِنِينَ، وبِاجْتِماعِ أوْلادِهِمْ بِهِمْ ونَسْلِهِمْ. ثُمَّ قالَ: بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ: أيْ بِسَبَبِ إيمانٍ عَظِيمٍ رَفِيعِ المَحَلِّ، وهو إيمانُ الآباءِ، ألْحَقْنا بِدَرَجاتِهِمْ ذُرِّيَّتِهِمْ، وإنْ كانُوا لا يَسْتَأْهِلُونَها، تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ وعَلى آبائِهِمْ، لِنُتِمَّ سُرُورَهم ونُكَمِّلَ نَعِيمَهم. فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى تَنْكِيرِ الإيمانِ ؟ قُلْتُ: مَعْناهُ الدَّلالَةُ عَلى أنَّهُ إيمانٌ خاصٌّ عَظِيمُ المَنزِلَةِ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ إيمانُ الذُّرِّيَّةِ الدّانِي المَحَلِّ، كَأنَّهُ قالَ: بِشَيْءٍ مِنَ الإيمانِ لا يُؤَهِّلُهم لِدَرَجَةِ الآباءِ ألْحَقْناهم بِهِمْ. انْتَهى. ولا يَتَخَيَّلُ أحَدٌ أنَّ (والَّذِينَ) مَعْطُوفٌ عَلى ﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الطور: ٢٠] غَيْرُ هَذا الرَّجُلِ، وهو تَخَيُّلٌ أعْجَمِيٌّ مُخالِفٌ لِفَهْمِ العَرَبِيِّ القُحِّ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ. والأحْسَنُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، ويُعَضِّدُهُ الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ، لِأنَّ الآياتِ كُلَّها في صِفَةِ إحْسانِ اللَّهِ تَعالى إلى أهْلِ الجَنَّةِ. وذَكَرَ مِن جُمْلَةِ إحْسانِهِ أنَّهُ يَرْعى المُحْسِنَ في المُسِيءِ. ولَفْظَةُ ﴿ألْحَقْنا﴾ [الطور: ٢١] تَقْتَضِي أنَّ لِلْمُلْحَقِ بَعْضَ التَّقْصِيرِ في الأعْمالِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: وأتْبَعْناهم؛ وباقِي السَّبْعَةِ: واتَّبَعَتْهم؛ وأبُو عَمْرٍو: و”ذُرِّيّاتِهِمْ“ جَمْعًا نَصْبًا؛ وابْنُ عامِرٍ: جَمْعًا رَفْعًا؛ وباقِي السَّبْعَةِ: مُفْرَدًا؛ وابْنُ جُبَيْرٍ: وأتْبَعْناهم ذُرِّيَّتَهم، بِالمَدِّ والهَمْزِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ألَتْناهُمْ﴾ [الطور: ٢١]، بِفَتْحِ اللّامِ، مِن ألاتَ؛ والحَسَنُ وابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِها؛ وابْنُ هُرْمُزٍ: آلَتْناهم، بِالمَدِّ مَن آلَتَ، عَلى وزْنِ أفْعَلَ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ وأُبَيٌّ: لِتْناهم مِن لاتَ، وهي قِراءَةُ طَلْحَةَ والأعْمَشِ؛ ورُوِيَتْ عَنْ شِبْلٍ وابْنِ كَثِيرٍ، وعَنْ طَلْحَةَ والأعْمَشِ أيْضًا: لَتْناهم بِفَتْحِ اللّامِ. قالَ سَهْلٌ: لا يَجُوزُ فَتْحُ اللّامِ مِن غَيْرِ ألِفٍ بِحالٍ، وأنْكَرَ أيْضًا آلَتْناهم بِالمَدِّ، وقالَ: لا يُرْوى عَنْ أحَدٍ، ولا يَدُلُّ عَلَيْها تَفْسِيرٌ ولا عَرَبِيَّةٌ، ولَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ قَدْ نَقَلَ أهْلُ اللُّغَةِ آلَتَ بِالمَدِّ، كَما قَرَأ ابْنُ هُرْمُزٍ. وقُرِئَ: وما ولَتْناهم، ذَكَرَهُ ابْنُ هارُونَ. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: فَيَكُونُ هُنا الحَرْفُ مِن لاتَ يَلِيتُ، ووَلَتَ يَلِتُ، وألَتَ يَأْلِتُ، وألاتَ يَلِيتُ، ويُؤْلِتُ، وكُلُّها بِمَعْنى نَقَصَ. ويُقالُ: ألَتَ بِمَعْنى غَلُظَ. وقامَ رَجُلٌ إلى عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَوَعَظَهُ، فَقالَ رَجُلٌ: لا تَأْلِتْ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أيْ لا تُغْلِظْ عَلَيْهِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ألَتْناهم عائِدٌ عَلى المُؤْمِنِينَ. والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يُلْحِقُ المُقَصِّرَ بِالمُحْسِنِ، ولا يُنْقِصُ المُحْسِنَ مِن أجْرِهِ شَيْئًا، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ جُبَيْرٍ والجُمْهُورِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الأبْناءِ. ﴿مِن عَمَلِهِمْ﴾ [الطور: ٢١]: أيِ الحَسَنِ والقَبِيحِ، ويُحَسِّنُ هَذا الِاحْتِمالَ قَوْلُهُ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: ٢١]: أيْ مُرْتَهِنٌ وفِيهِ، ﴿وأمْدَدْناهُمْ﴾ [الطور: ٢٢]: أيْ يَسَّرْنا لَهم شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى يَكِرَّ ولا يَنْقَطِعَ. ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها﴾ أيْ يَتَعاطَوْنَ، قالَ الأخْطَلُ: ؎نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرّاحِ الشَّمُولِ وقَدْ ∗∗∗ صاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وقْعَةُ السّارِي أوْ يَتَنازَعُونَ: يَتَجاذَبُونَ تَجاذُبَ مُلاعَبَةٍ، إذْ أهْلُ الدُّنْيا لَهم في ذَلِكَ لَذَّةٌ، وكَذَلِكَ في الجَنَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾، بِرَفْعِهِما؛ وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِهِما، واللَّغْوُ: السَّقْطُ مِنَ الكَلامِ، كَما يَجْرِي (p-١٥٠)بَيْنَ شُرّابِ الخَمْرِ في الدُّنْيا. والتَّأْثِيمُ: الإثْمُ الَّذِي يَلْحَقُ شارِبَ الخَمْرِ في الدُّنْيا. ﴿غِلْمانٌ لَهُمْ﴾: أيْ مَمالِيكُ. (مَكْنُونٌ): أيْ في الصَّدَفِ، لَمْ تَنَلْهُ الأيْدِي، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وهو إذْ ذاكَ رَطْبٌ، فَهو أحْسَنُ وأصْفى. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِـ ”مَكْنُونٌ“: مَخْزُونٌ، لِأنَّهُ لا يُخْزَنُ إلّا الغالِي الثَّمَنِ. والظّاهِرُ أنَّ التَّساؤُلَ هو في الجَنَّةِ، إذْ هَذِهِ كُلُّها مَعاطِيفُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، أيْ يَتَساءَلُونَ عَنْ أحْوالِهِمْ وما نالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا﴾: أيْ بِهَذا النَّعِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَساؤُلُهم إذا بُعِثُوا في النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ، حَكاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ. (مُشْفِقِينَ): رَقِيقِي القُلُوبِ، خاشِعِينَ لِلَّهِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: ووَقّانا بِتَشْدِيدِ القافِ، والسَّمُومُ هُنا النّارُ؛ وقالَ الحَسَنُ: اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ. (مِن قَبْلُ): أيْ مِن قَبْلِ لِقاءِ اللَّهِ والمَصِيرِ إلَيْهِ. ﴿نَدْعُوهُ﴾ نَعْبُدُهُ ونَسْألُهُ الوِقايَةَ مِن عَذابِهِ، ﴿إنَّهُ هو البَرُّ﴾: المُحْسِنُ، (الرَّحِيمُ): الكَثِيرُ الرَّحْمَةِ، إذا عُبِدَ أثابَ، وإذا سُئِلَ أجابَ. أوْ ﴿نَدْعُوهُ﴾ مِنَ الدُّعاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو جَعْفَرٍ ونافِعٌ والكِسائِيُّ: أنَّهُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، أيْ لِأنَّهُ وباقِي السَّبْعَةِ: إنَّهُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ وجَماعَةٍ، وفِيها مَعْنى التَّعْلِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب