الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ . قَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: ”لا لَغْوَ“ بِالبِناءِ عَلى الفَتْحِ، ”وَلا تَأْثِيمَ“ كَذَلِكَ لِأنَّها ”لا“ الَّتِي لِنَفْيِ الجِنْسِ فَبُنِيَتْ مَعَها، وهي إنْ كانَتْ كَذَلِكَ؛ نَصٌّ في العُمُومِ، وقَرَأهُ الباقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ. لِأنَّ لا النّافِيَةَ لِلْجِنْسِ إذا تَكَرَّرَتْ كَما هُنا جازَ إعْمالُها وإهْمالُها، والقِراءَتانِ في الآيَةِ فِيهِما المِثالُ لِلْوَجْهَيْنِ، وإعْمالُها كَثِيرٌ، ومِن شَواهِدِ إهْمالِها قِراءَةُ الجُمْهُورِ في هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وَما هَجَرْتُكِ حَتّى قُلْتِ مُعْلِنَةً لا ناقَةٌ لِي في هَذا ولا جُمَلٌ وَقَوْلُهُ: ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا﴾: أيْ يَتَعاطَوْنَ، ويَتَناوَلُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ. ”كَأْسًا“ أيْ خَمْرًا، فالتَّنازُعُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلى كُلِّ تَعاطٍ وتَناوُلٍ، فَكُلُّ قَوْمٍ يُعْطِي بَعْضُهم بَعْضًا شَيْئًا (p-٤٥٥)وَيُناوِلُهُ إيّاهُ، فَهم يَتَنازَعُونَهُ كَتَنازُعِ كُئُوسِ الشَّرابِ والكَلامِ، وهَذا المَعْنى مَعْرُوفٌ في كَلامِ العَرَبِ. وَمِنهُ في الشَّرابِ قَوْلُ الأخْطَلِ: ؎وَشارِبٌ مُرْبِحٌ بِالكَأْسِ نادَمَنِي ∗∗∗ لا بِالحَصُورِ ولا فِيها بِسَوّارِ ؎نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرّاحِ الشُّمُولِ وقَدْ ∗∗∗ صاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وقْعَةُ السّارِ فَقَوْلُهُ: نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرّاحِ: أيْ ناوَلْتُهُ كُئُوسَ الخَمْرِ وناوَلْنِيها، ومِنهُ في الكَلامِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎وَلِمّا تَنازَعْنا الحَدِيثَ وأسْمَحَتْ ∗∗∗ هَصَرَتْ بِغُصْنٍ ذِي شَمارِيخَ مَيّالِ والكَأْسُ تُطْلَقُ عَلى إناءِ الخَمْرِ، ولا تَكادُ العَرَبُ تُطْلِقُ الكَأْسَ إلّا عَلى الإناءِ المَمْلُوءِ، وهي مُؤَنَّثَةٌ، وقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ يَعْنِي أنَّ خَمْرَ الجَنَّةِ الَّتِي يَتَعاطاها المُؤْمِنُونَ فِيها مُخالِفَةٌ في جَمِيعِ الصِّفاتِ لِخَمْرِ الدُّنْيا، فَخَمْرُ الآخِرَةِ لا لَغْوَ فِيها، واللَّغْوُ كُلُّ كَلامٍ ساقِطٍ لا خَيْرَ فِيهِ، فَخَمْرُ الآخِرَةِ لا تَحْمِلُ شارِبِيها عَلى الكَلامِ الخَبِيثِ والهَذَيانِ، لِأنَّها لا تُؤَثِّرُ في عُقُولِهِمْ بِخِلافِ خَمْرِ الدُّنْيا، فَإنَّهم إنْ يَشْرَبُوها سَكِرُوا وطاشَتْ عُقُولُهم، فَتَكَلَّمُوا بِالكَلامِ الخَبِيثِ والهَذَيانِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّغْوِ. والتَّأْثِيمُ: هو ما يُنْسَبُ بِهِ فاعِلُهُ إلى الإثْمِ، فَخَمْرُ الآخِرَةِ لا يَأْثَمُ شارِبُها بِشُرْبِها، لِأنَّها مُباحَةٌ لَهُ، فَنَعِمَ بِلَذَّتِها كَما قالَ تَعالى: ﴿وَأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥]، ولا تَحْمِلُ شارِبَها عَلى أنْ يَفْعَلَ إثْمًا بِخِلافِ خَمْرِ الدُّنْيا، فَشارِبُها يَأْثَمُ بِشُرْبِها ويَحْمِلُهُ السُّكْرُ عَلى الوُقُوعِ في المُحْرِماتِ كالقَتْلِ والزِّنا والقَذْفِ. وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن مُخالَفَةِ خَمْرِ الآخِرَةِ لِخَمْرِ الدُّنْيا، جاءَ مُوَضَّحًا في آياتٍ أُخَرَ مِن كِتابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ ﴿بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ ﴿لا فِيها غَوْلٌ ولا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٥ - ٤٧]، وقَوْلِهِ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾: أيْ لَيْسَ فِيها غَوْلٌ يَغْتالُ العُقُولَ فَيُذْهِبُها كَخَمْرِ الدُّنْيا. ﴿وَلا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾: أيْ لا يَسْكَرُونَ، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ ﴿بِأكْوابٍ وأبارِيقَ وكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٧ - ١٩]، (p-٤٥٦)وَقَوْلُهُ: ﴿لا يُصَدَّعُونَ﴾ أيْ لا يُصِيبُهُمُ الصُّداعُ الَّذِي هو وجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِها. وَقَدْ أوْضَحْنا مَعْنى هَذِهِ الآياتِ في صِفَةِ خَمْرِ الآخِرَةِ، وبَيَّنّا أنَّها مُخالِفَةٌ في جَمِيعِ الصِّفاتِ لِخَمْرِ الدُّنْيا، وذَكَرْنا الشَّواهِدَ العَرَبِيَّةَ في ذَلِكَ في سُورَةِ المائِدَةِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٩٠] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب