الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأمْدَدْناهم بِفاكِهَةٍ ولَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ أيْ زِدْناهم مَأْكُولًا ومَشْرُوبًا، أمّا المَأْكُولُ فالفاكِهَةُ واللَّحْمُ، وأمّا المَشْرُوبُ فالكَأْسُ الَّذِي يَتَنازَعُونَ فِيها، وفي تَفْسِيرِها لَطائِفُ: اللَّطِيفَةُ الأُولى: لَمّا قالَ: ﴿ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [ الطُّورِ: ٢١] بَيَّنَ الزِّيادَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جارِيًا عَلى عادَةِ المُلُوكِ في الدُّنْيا إذا زادُوا في حَقِّ عَبْدٍ مِن عَبِيدِهِمْ يَزِيدُونَ في أقْدارِ أخْبازِهِمْ وأقْطاعِهِمْ، واخْتارَ مِنَ المَأْكُولِ أرْفَعَ الأنْواعِ وهو الفاكِهَةُ واللَّحْمُ فَإنَّهُما طَعامُ المُتَنَعِّمِينَ، وجَمَعَ أوْصافًا حَسَنَةً في قَوْلِهِ مِمّا يَشْتَهُونَ، لِأنَّهُ لَوْ ذَكَرَ نَوْعًا فَرُبَّما يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ غَيْرَ مُشْتَهًى عِنْدَ بَعْضِ النّاسِ فَقالَ كُلُّ أحَدٍ يُعْطى ما يَشْتَهِي، فَإنْ قِيلَ الِاشْتِهاءُ كالجُوعِ وفِيهِ نَوْعُ ألَمٍ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الِاشْتِهاءُ بِهِ اللَّذَّةُ واللَّهُ تَعالى لا يَتْرُكُهُ في الِاشْتِهاءِ بِدُونِ المُشْتَهى حَتّى يَتَألَّمَ، بَلِ المُشْتَهى حاصِلٌ مَعَ الشَّهْوَةِ، والإنْسانُ في الدُّنْيا لا يَتَألَّمُ إلّا بِأحَدِ أمْرَيْنِ، إمّا بِاشْتِهاءٍ صادِقٍ وعَجْزِهِ عَنِ الوُصُولِ إلى المُشْتَهى، وإمّا بِحُصُولِ أنْواعِ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ عِنْدَهُ وسُقُوطِ شَهْوَتِهِ، وكِلاهُما مُنْتَفٍ في الآخِرَةِ. اللَّطِيفَةُ الثّانِيَةُ: لَمّا قالَ: ﴿وما ألَتْناهُمْ﴾ ونَفْيُ النُّقْصانِ يَصْدُقُ بِحُصُولِ المُساوِي، فَقالَ لَيْسَ عَدَمُ النُّقْصانِ بِالِاقْتِصارِ عَلى المُساوِي بِطَرِيقٍ آخَرَ وهو الزِّيادَةُ والإمْدادُ، فَإنْ قِيلَ أكْثَرَ اللَّهُ مِن ذِكْرِ الأكْلِ (p-٢١٨)والشُّرْبِ، وبَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُونَ لِخاصَّةِ اللَّهِ بِاللَّهِ شُغْلٌ شاغِلٌ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ وكُلِّ ما سِوى اللَّهِ، نَقُولُ هَذا عَلى العَمَلِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [ الواقِعَةِ: ٢٤] وقالَ: ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [ الطُّورِ: ١٩] وأمّا عَلى العِلْمِ بِذَلِكَ فَذَلِكَ، ولِهَذا قالَ: ﴿لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [ يس: ٥٨] أيْ لِلنُّفُوسِ ما تَتَفَكَّهُ بِهِ، ولِلْأرْواحِ ما تَتَمَنّاهُ مِنَ القُرْبَةِ والزُّلْفى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا﴾ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلى عادَةِ المُلُوكِ إذا جَلَسُوا في مَجالِسِهِمْ لِلشُّرْبِ يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ بِفَواكِهَ ولُحُومٍ وهم عَلى الشُّرْبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَتَنازَعُونَ﴾ أيْ يَتَعاطَوْنَ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ التَّنازُعُ التَّجاذُبُ وحِينَئِذٍ يَكُونُ تَجاذُبُهم تَجاذُبَ مُلاعَبَةٍ لا تَجاذُبَ مُنازَعَةٍ، وفِيهِ نَوْعُ لَذَّةٍ وهو بَيانُ ما هو عَلَيْهِ حالُ الشَّرابِ في الدُّنْيا فَإنَّهم يَتَفاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الشُّرْبِ ولا يَتَفاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الأكْلِ، ولِهَذا إذا شَرِبَ أحَدُهم يَرى الآخَرُ واجِبًا أنْ يَشْرَبَ مِثْلَ ما شَرِبَهُ حَرِيفُهُ ولا يَرى واجِبًا أنْ يَأْكُلَ مِثْلَ ما أكَلَ نَدِيمُهُ وجَلِيسُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ وسَواءٌ قُلْنا (فِيها) عائِدَةٌ إلى الجَنَّةِ أوْ إلى الكَأْسِ فَذِكْرُهُما لِجَرَيانِ ذِكْرِ الشَّرابِ وحِكايَتِهِ عَلى ما في الدُّنْيا، فَقالَ تَعالى: لَيْسَ في الشُّرْبِ في الآخِرَةِ كُلَّ ما فِيهِ في الدُّنْيا مِنَ اللَّغْوِ بِسَبَبِ زَوالِ العَقْلِ ومِنَ التَّأْثِيمِ الَّذِي بِسَبَبِ نُهُوضِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ عِنْدَ وُفُورِ العَقْلِ والفَهْمِ، وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ: وهو أنْ يُقالَ لا يَعْتَرِيهِ كَما يَعْتَرِي الشّارِبَ بِالشُّرْبِ في الدُّنْيا فَلا يُؤْثَمُ أيْ لا يُنْسَبُ إلى إثْمٍ، وفِيهِ وجْهٌ رابِعٌ: وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ التَّأْثِيمِ السُّكْرَ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وذَلِكَ لِأنَّ مِنَ النّاسِ مَن يَسْكَرُ ويَكُونُ رَزِينَ العَقْلِ عَدِيمَ اعْتِيادِ العَرْبَدَةِ فَيَسْكُنُ ويَنامُ ولا يُؤْذِي ولا يَتَأذّى ولا يَهْذِي ولا يَسْمَعُ إلى مَن هَذى، ومِنهم مَن يُعَرْبِدُ فَقالَ: ﴿لا لَغْوٌ فِيها﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب