الباحث القرآني

(p-١٤١٣)لَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن ذِكْرِ أهْلِ الجَنَّةِ عَلى العُمُومِ ذَكَرَ حالَ طائِفَةٍ مِنهم عَلى الخُصُوصِ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذَرِّيَّتَهم﴾ والمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ ألْحَقْنا بِهِمْ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أيْ وأكْرَمْنا الَّذِينَ آمَنُوا، ويَكُونُ ألْحَقْنا مُفَسِّرًا لِهَذا الفِعْلِ المُقَدَّرِ. قَرَأ الجُمْهُورُ واتَّبَعَتْهم بِإسْنادِ الفِعْلِ إلى الذُّرِّيَّةِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو " أتْبَعْناهم " بِإسْنادِ الفِعْلِ إلى المُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ ألْحَقْنا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ذُرِّيَّتَهم بِالإفْرادِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِالجَمْعِ، إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو قَرَأ بِالنَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِكَوْنِهِ قَرَأ: وأتْبَعْناهم، ورُوِيَتْ قِراءَةُ الجَمْعِ هَذِهِ عَنْ نافِعٍ، والمَشْهُورُ عَنْهُ كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بِالإفْرادِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ عَلى الجَمْعِ، وجُمْلَةُ ﴿واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم﴾ مَعْطُوفٌ عَلى آمَنُوا أوْ مُعْتَرِضَةٌ، وبِإيمانٍ مُتَعَلِّقٌ بِالِاتِّباعِ، ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ المُؤْمِنِ إلَيْهِ وإنْ كانُوا دُونَهُ في العَمَلِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ وتَطِيبَ نَفْسُهُ بِشَرْطِ أنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَن يَتَّصِفُ بِالإيمانِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وهُمُ البالِغُونَ دُونَ الصِّغارِ، فَإنَّهم وإنْ كانُوا لاحِقِينَ بِآبائِهِمْ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ. وقِيلَ إنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلى الكِبارِ والصِّغارِ كَما هو المَعْنى اللُّغَوِيُّ، فَيَلْحَقُ بِالآباءِ المُؤْمِنِينَ صِغارُ ذَرِّيَّتِهِمْ وكِبارُهم، ويَكُونُ قَوْلُهُ: بِإيمانٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ بِإيمانٍ مِنَ الآباءِ. وقِيلَ إنَّ الضَّمِيرَ في بِهِمْ راجِعٌ إلى الذُّرِّيَّةِ المَذْكُورَةِ أوَّلًا: أيْ ألْحَقَنا بِالذُّرِّيَّةِ المُتَّبِعَةِ لِآبائِهِمْ بِإيمانٍ ذُرِّيَّتَهم. وقِيلَ المُرادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا المُهاجِرُونَ والأنْصارُ فَقَطْ، وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ، ولا يُوجِبُ تَخْصِيصَها بِالمُهاجِرِينَ والأنْصارِ كَوْنُهُمُ السَّبَبَ في نُزُولِها إنْ صَحَّ ذَلِكَ، فالِاعْتِبارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ﴿وما ألَتْناهم مِن عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ اللّامِ مِن ألَتْنا وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِها أيْ: وما نَقَصْنا الآباءَ بِإلْحاقِ ذُرِّيَّتِهِمْ بِهِمْ مِن ثَوابِ أعْمالِهِمْ شَيْئًا، فَضَمِيرُ المَفْعُولِ عائِدٌ إلى الَّذِينَ آمَنُوا. وقِيلَ المَعْنى: وما نَقَصْنا الذَّرِّيَّةَ مِن أعْمالِهِمْ شَيْئًا لِقِصَرِ أعْمارِهِمْ، والأوَّلُ أوْلى، وقَدْ قَدَّمْنا تَحْقِيقَ مَعْنى لاتَهُ وألاتَهُ في سُورَةِ الحُجُراتِ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ " آلَتْناهم " بِالمَدِّ، وهو لُغَةٌ، قالَ في الصِّحاحِ: يُقالُ ما آلَتَهُ مِن عَمَلِهِ شَيْئًا، أيْ: ما نَقَصَهُ. ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾ ورَهِينٌ بِمَعْنى مَرْهُونٍ والظّاهِرُ أنَّهُ عامٌّ وأنَّ كُلَّ إنْسانٍ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، فَإنْ قامَ بِهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَكَّهُ وإلّا أهْلَكَهُ. وقِيلَ هو بِمَعْنى راهِنٍ، والمَعْنى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ دائِمٌ ثابِتٌ. وقِيلَ هَذا خاصٌّ بِالكُفّارِ لِقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلّا أصْحابَ اليَمِينِ﴾ [المدثر: ٣٩، ٣٨] . ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما أمَدَّهم بِهِ مِنَ الخَيْرِ فَقالَ: ﴿وأمْدَدْناهم بِفاكِهَةٍ ولَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ أيْ زِدْناهم عَلى ما كانَ لَهم مِنَ النَّعِيمِ بِفاكِهَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، ولَحْمٍ مِن أنْواعِ اللُّحْمانِ مِمّا تَشْتَهِيهِ أنْفُسُهم ويَسْتَطِيبُونَهُ. ﴿يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا﴾ أيْ يَتَعاطَوْنَ ويَتَناوَلُونَ كَأْسًا، والكَأْسُ إناءُ الخَمْرِ، ويُطْلَقُ عَلى كُلِّ إناءٍ مَمْلُوءٍ مَن خَمْرٍ أوْ غَيْرِهِ، فَإذا فَرَغَ لَمْ يُسَمَّ كَأْسًا ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: لا يَجْرِي بَيْنَهم ما يُلْغِي ولا ما فِيهِ إثْمٌ كَما يَجْرِي بَيْنَ مَن يَشْرَبُ الخَمْرَ في الدُّنْيا، والتَّأْثِيمُ تَفْعِيلٌ مِنَ الإثْمِ، والضَّمِيرُ في فِيها راجِعٌ إلى الكَأْسِ، وقِيلَ " لا لَغْوٌ فِيها ": أيْ في الجَنَّةِ ولا يَجْرِي فِيها ما فِيهِ إثْمٌ والأوَّلُ أوْلى. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لا تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ فَيَلْغَوْا كَما يَكُونُ مِن خَمْرِ الدُّنْيا، ولا يَكُونُ مِنهم ما يُؤَثِّمُهم. وقالَ الضَّحّاكُ: لا تَأْثِيمَ: أيْ لا كَذِبَ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ فِيهِما. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِهِما مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ. قالَ قَتادَةُ: اللَّغْوُ الباطِلُ. وقالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: لا فُضُولَ فِيها. وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: لا رَفَثَ فِيها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: لا سِبابَ ولا تَخاصُمَ فِيها. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ صِفَةً لِ كَأْسًا. ﴿ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ﴾ أيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ بِالكَأْسِ والفَواكِهِ والطَّعامِ وغَيْرِ ذَلِكَ مَمالِيكٌ لَهم، وقِيلَ أوْلادُهم كَأنَّهم في الحُسْنِ والبَهاءِ ﴿لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ أيْ مَسْتُورٌ مَصُونٌ في الصَّدَفِ لَمْ تَمَسَّهُ الأيْدِي. قالَ الكِسائِيُّ: كَنَنْتُ الشَّيْءَ: سَتَرْتُهُ وصُنْتُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وأكْنَنْتُهُ: جَعَلْتُهُ في الكِنِّ، ومِنهُ كَنَنْتُ الجارِيَةَ وأكْنَنْتُها فَهي مَكْنُونَةٌ. ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ أيْ يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا في الجَنَّةِ عَنْ حالِهِ، وما كانَ فِيهِ مِن تَعَبِ الدُّنْيا وخَوْفِ العاقِبَةِ، فَيَحْمَدُونَ اللَّهَ الَّذِي أذْهَبَ عَنْهُمُ الحَزَنَ والخَوْفَ والهَمَّ، وما كانُوا فِيهِ مِنَ الكَدِّ والنَّكَدِ بِطَلَبِ المَعاشِ وتَحْصِيلِ ما لا بُدَّ مِنهُ مِنَ الرِّزْقِ. وقِيلَ يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: بِمَ صِرْتُمْ في هَذِهِ المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ ؟ وقِيلَ إنَّ التَّساؤُلَ بَيْنَهم عِنْدَ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ. والأوَّلُ أوْلى لِدَلالَةِ السِّياقِ عَلى أنَّهم قَدْ صارُوا في الجَنَّةِ. وجُمْلَةُ: ﴿قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهْلِنا مُشْفِقِينَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عِنْدَ التَّساؤُلِ ؟ فَقِيلَ: قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ: أيْ قَبْلَ الآخِرَةِ، وذَلِكَ في الدُّنْيا في أهْلِنا خائِفِينَ وجِلِينَ مِن عَذابِ اللَّهِ أوْ كُنّا خائِفِينَ مِن عِصْيانِ اللَّهِ. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا﴾ بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ أوْ بِالتَّوْفِيقِ لِطاعَتِهِ ﴿ووَقانا عَذابَ السَّمُومِ﴾ يَعْنِي عَذابَ جَهَنَّمَ، والسَّمُومُ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ كَذا قالَ الحَسَنُ ومُقاتِلٌ. وقالَ الكَلْبِيُّ، وأبُو عُبَيْدَةَ: هو عَذابُ النّارِ وقالَ الزَّجّاجُ: سُمُومُ جَهَنَّمَ ما يُوجَدُ مِن حَرِّها. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: السَّمُومُ بِالنَّهارِ، وقَدْ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، والحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وقَدْ يَكُونُ بِالنَّهارِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ السَّمُومُ في لَفْحِ البَرْدِ، وفي لَفْحِ الشَّمْسِ والحَرِّ أكْثَرَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎اليَوْمَ يَوْمٌ بارِدٌ سَمُومُهُ مَن جَزِعَ اليَوْمَ فَلا ألُومُهُ وقِيلَ سُمِّيَتِ الرِّيحُ سَمُومًا لِأنَّها تَدْخُلُ المَسامَّ. ﴿إنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ أيْ نُوَحِّدُ اللَّهَ ونَعْبُدُهُ: أوْ نَسْألُهُ أنْ يَمُنَّ عَلَيْنا بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ ﴿إنَّهُ هو البَرُّ الرَّحِيمُ﴾ قَرَأ (p-١٤١٤)الجُمْهُورُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وقَرَأ نافِعٌ، والكِسائِيُّ بِفَتْحِها أيْ: لِأنَّهُ، والبَرُّ كَثِيرُ الإحْسانِ، وقِيلَ اللَّطِيفُ، والرَّحِيمُ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِعِبادِهِ. ﴿فَذَكِّرْ فَما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ﴾ أيِ اثْبُتْ عَلى ما أنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الوَعْظِ والتَّذْكِيرِ والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ هو الحالُ: أيْ ما أنْتَ مُلْتَبِسًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْكَ مِن رَجاحَةِ العَقْلِ والنُّبُوَّةِ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ، وقِيلَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ: أيْ ما أنْتَ حالَ إذْكارِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ، وقِيلَ الباءُ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ، والمَعْنى: انْتَفى عَنْكَ الكِهانَةُ والجُنُونُ بِسَبَبِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ كَما تَقُولُ ما أنا بِمُعْسِرٍ بِحَمْدِ اللَّهِ. وقِيلَ الباءُ لِلْقَسَمِ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ اسْمِ ما وخَبَرِها، والتَّقْدِيرُ: ما أنْتَ ونِعْمَةِ اللَّهِ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ، والكاهِنُ هو الَّذِي يُوهِمُ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ مِن دُونِ وحْيٍ: أيْ لَيْسَ ما تَقُولُهُ كِهانَةٌ، فَإنَّكَ إنَّما تَنْطِقُ بِالوَحْيِ الَّذِي أمَرَكَ اللَّهُ بِإبْلاغِهِ. والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ رَدُّ ما كانَ يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ: إنَّهُ كاهِنٌ أوْ مَجْنُونٌ. ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ " أمْ " هي المُنْقَطِعَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخِلافُ هَلْ هي مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ والهَمْزَةِ، أوْ بِبَلْ وحْدَها. قالَ الخَلِيلُ: هي هُنا لِلِاسْتِفْهامِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: خُوطِبَ العِبادُ بِما جَرى في كَلامِهِمْ. قالَ النَّحّاسُ: يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ أنَّ " أمْ " في كَلامِ العَرَبِ لِلْخُرُوجِ مِن حَدِيثٍ إلى حَدِيثٍ، ونَتَرَبَّصُ في مَحَلِّ رَفْعٍ صِفَةً لِشاعِرٍ، ورَيْبُ المَنُونِ: صُرُوفُ الدَّهْرِ، والمَعْنى: نَنْتَظِرُ بِهِ حَوادِثَ الأيّامِ فَيَمُوتُ كَما ماتَ غَيْرُهُ، أوْ يَهْلِكَ كَما هَلَكَ مَن قَبْلَهُ، والمَنُونُ يَكُونُ بِمَعْنى الدَّهْرِ، ويَكُونُ بِمَعْنى المَنِيَّةِ. قالَ الأخْفَشُ: المَعْنى نَتَرَبَّصُ إلى رَيْبِ المَنُونِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ، كَما تَقُولُ: قَصَدْتُ زَيْدًا وقَصَدْتُ إلى زَيْدٍ، ومِن هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّها ∗∗∗ تُطَلَّقُ يَوْمًا أوْ يَمُوتُ خَلِيلُها وقَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ: ؎أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِها تَتَوَجَّعُ ∗∗∗ والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَن يَجْزَعُ قالَ الأصْمَعِيُّ: المَنُونُ واحِدٌ لا جَمْعَ لَهُ. قالَ الفَرّاءُ: يَكُونُ واحِدًا وجَمْعًا. وقالَ الأخْفَشُ: هو جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ. ثُمَّ أمَرَهُ سُبْحانَهُ أنْ يُجِيبَ عَنْهم، فَقالَ: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإنِّي مَعَكم مِنَ المُتَرَبِّصِينَ﴾ أيِ انْتَظِرُوا مَوْتِي أوْ هَلاكِي، فَإنِّي مَعَكم مِنَ المُتَرَبِّصِينَ لِمَوْتِكم أوْ هَلاكِكم. قَرَأ الجُمْهُورُ " نَتَرَبَّصُ " بِإسْنادِ الفِعْلِ إلى جَماعَةِ المُتَكَلِّمِينَ. قَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. ﴿أمْ تَأْمُرُهم أحْلامُهم بِهَذا﴾ أيْ بَلْ أتَأْمُرُهم عُقُولُهم بِهَذا الكَلامِ المُتَناقِضِ، أنَّ الكاهِنَ هو المُفْرِطُ في الفِطْنَةِ والذَّكاءِ، والمَجْنُونُ: هو ذاهِبُ العَقْلِ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ فِطْنَةٌ وذَكاءٌ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ كانَتْ عُظَماءُ قُرَيْشٍ تُوصَفُ بِالأحْلامِ والعُقُولِ فَأزْرَأ اللَّهُ بِحُلُومِهِمْ حِينَ لَمْ تُثْمِرْ لَهم مَعْرِفَةَ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ ﴿أمْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ أيْ بَلْ أطْغَوْا وجاوَزُوا الحَدَّ في العِنادِ، فَقالُوا ما قالُوا، وهَذِهِ الإضْراباتُ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ مَعَ الِاسْتِفْهامِ كَما هو مَدْلُولُ أمِ المُنْقَطِعَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ ما تَعَقَّبَها أشْنَعُ مِمّا تَقَدَّمَها، وأكْثَرُ جُرْأةً وعِنادًا. ﴿أمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أيِ اخْتَلَقَ القُرْآنَ مِن جِهَةِ نَفْسِهِ وافْتَعَلَهُ، والتَّقَوُّلُ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا في الكَذِبِ في الغالِبِ، وإنْ كانَ أصْلُهُ تَكَلُّفَ القَوْلِ، ومِنهُ اقْتالَ عَلَيْهِ، ويُقالُ اقْتالَ عَلَيْهِ: بِمَعْنى تَحَكَّمَ عَلَيْهِ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومَنزِلَةٍ في دارِ صِدْقٍ وغِبْطَةٍ ∗∗∗ وما اقْتالَ في حُكْمٍ عَلَيَّ طَبِيبُ ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنْ قَوْلِهِ: تَقَوَّلَهُ وانْتَقَلَ إلى ما هو أشَدُّ شَناعَةً عَلَيْهِمْ فَقالَ: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أيْ سَبَبُ صُدُورِ هَذِهِ الأقْوالِ المُتَناقِضَةِ عَنْهم كَوْنُهم كُفّارًا لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا يُصَدِّقُونَ ما جاءَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ . ثُمَّ تَحَدّاهم سُبْحانَهُ وألْزَمَهُمُ الحُجَّةَ فَقالَ: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ أيْ مِثْلِ القُرْآنِ في نَظْمِهِ وحُسْنِ بَيانِهِ وبَدِيعِ أُسْلُوبِهِ ﴿إنْ كانُوا صادِقِينَ﴾ فِيما زَعَمُوا مِن قَوْلِهِمْ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ تَقَوَّلَهُ وجاءَ بِهِ مِن جِهَةِ نَفْسِهِ مَعَ أنَّهُ كَلامٌ عَرَبِيٌّ، وهم رُؤُوسُ العَرَبِ وفُصَحاؤُهم والمُمارِسُونَ لِجَمِيعِ الأوْضاعِ العَرَبِيَّةِ مِن نَظْمٍ ونَثْرٍ. وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وهَنّادٌ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ المُؤْمِنِ مَعَهُ في دَرَجَتِهِ في الجَنَّةِ وإنْ كانُوا دُونَهُ في العَمَلِ لِتَقَرَّ بِهِ عَيْنُهُ. ثُمَّ قَرَأ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَهُ البَزّارُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا دَخَلَ الرَّجُلُ الجَنَّةَ سَألَ عَنْ أبَوَيْهِ وزَوْجَتِهِ ووَلَدِهِ، فَيُقالُ إنَّهم لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ وعَمَلَكَ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي ولَهم، فَيُؤْمَرُ بِإلْحاقِهِمْ بِهِ»، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ المَسْنَدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ المُؤْمِنِينَ وأوْلادَهم في الجَنَّةِ وإنَّ المُشْرِكِينَ وأوْلادَهم في النّارِ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والَّذِينَ آمَنُوا الآيَةَ» وإسْنادُهُ هَكَذا. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمانَ، عَنْ زاذانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: «سَألَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ولَدَيْنِ ماتا لَها في الجاهِلِيَّةِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هُما في النّارِ، فَلَمّا رَأى الكَراهَةَ في وجْهِها قالَ: لَوْ رَأيْتِ مَكانَهُما لَأبْغَضْتِهِما، قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَوَلَدِي مِنكَ. قالَ: في الجَنَّةِ، قالَ: ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ المُؤْمِنِينَ وأوْلادَهم في الجَنَّةِ، وإنَّ المُشْرِكِينَ وأوْلادَهم في النّارِ، ثُمَّ قَرَأ والَّذِينَ آمَنُوا الآيَةَ» . وقالَ الإمامُ أحْمَدُ في المُسْنَدِ: حَدَّثَنا يَزِيدُ حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عاصِمِ بْنِ أبِي النَّجُودِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصّالِحِ في الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ مِن أيْنَ لِي هَذا، فَيَقُولُ بِاسْتِغْفارِ ولَدِكَ لَكَ» وإسْنادُهُ صَحِيحٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وما ألَتْناهُمْ﴾ قالَ: ما نَقَصْناهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿لا لَغْوٌ فِيها﴾ يَقُولُ: (p-١٤١٥)باطِلٌ ﴿ولا تَأْثِيمٌ﴾ يَقُولُ كَذِبٌ. وأخْرَجَ البَزّارُ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ اشْتاقُوا إلى الإخْوانِ، فَيَجِيءُ سَرِيرُ هَذا حَتّى يُحاذِيَ سَرِيرَ هَذا، فَيَتَحَدَّثانِ فَيَتَّكِئُ ذا ويَتَّكِئُ ذا فَيَتَحَدَّثانِ بِما كانُوا في الدُّنْيا، فَيَقُولُ أحَدُهُما: يا فُلانُ تَدْرِي أيَّ يَوْمٍ غَفَرَ اللَّهُ لَنا ؟ يَوْمَ كُنّا في مَوْضِعِ كَذا وكَذا، فَدَعَوْنا اللَّهَ فَغَفَرَ لَنا» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: لَوْ فَتَحَ اللَّهُ عَلى أهْلِ الأرْضِ مِن عَذابِ السَّمُومِ قَدْرَ الأُنْمُلَةِ لَأحْرَقَتِ الأرْضَ ومَن عَلَيْها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هو البَرُّ﴾ قالَ: اللَّطِيفُ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا اجْتَمَعُوا إلى دارِ النَّدْوَةِ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ قائِلٌ مِنهُمُ احْبِسُوهُ في وثاقٍ، وتَرَبَّصُوا بِهِ المَنُونَ حَتّى يَهْلِكَ كَما هَلَكَ مَن قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَراءِ: زُهَيْرٌ والنّابِغَةُ، إنَّما هو كَأحَدِهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿رَيْبَ المَنُونِ﴾ قالَ: المَوْتُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب