الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكم فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكم وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكم ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ ولَنْ يَجْعَلَ اللهِ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ ﴿إنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وهو خادِعُهم وإذا قامُوا إلى الصَلاةِ قامُوا كُسالى يُراءُونَ الناسَ ولا يَذْكُرُونَ اللهَ إلا قَلِيلا﴾ ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ ومَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا﴾ "اَلَّذِينَ"؛ صِفَةٌ لِلْمُنافِقِينَ؛ و"يَتَرَبَّصُونَ"؛ مَعْناهُ: "يَنْتَظِرُونَ دَوْرَ الدَوائِرِ عَلَيْكُمْ؛ فَإنْ كانَ فَتْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ادَّعَوْا فِيهِ النَصِيبَ بِحُكْمِ ما يُظْهِرُونَهُ مِنَ الإيمانِ؛ وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَيْلٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ ادَّعَوْا فِيهِ النَصِيبَ بِحُكْمِ ما يُبْطِنُونَهُ مِن مُوالاةِ الكُفّارِ؛ وهَذا حالُ المُنافِقِينَ". و"نَسْتَحْوِذْ"؛ مَعْناهُ: (نَغْلِبُ عَلى أمْرِكُمْ؛ ونَحُوطُكُمْ؛ ونَحْمِي أمْرَكُمْ)؛ ومِنهُ قَوْلُ العَجّاجِ في صِفَةِ ثَوْرٍ وبَقَرٍ: ؎ يَحُوذُهُنَّ ولَهُ حُوذِيُّ (p-٤٩)أيْ: يَغْلِبُهُنَّ عَلى أمْرِهِنَّ؛ ويُغْلِبُ الثِيرانَ عَلَيْهِنَّ؛ ويُرْوى: "يَحُوزُهُنَّ" بِالزايِ؛ ومِنَ اللَفْظَةِ قَوْلُ لَبِيدٍ في صِفَةِ عِيرٍ وأُتُنٍ: ؎ إذا اجْتَمَعَتْ وأحْوَذَ جانِبَيْها ∗∗∗ ∗∗∗ وأورَدَها عَلى عُوجٍ طِوالِ أحْوَذَ جانِبَيْها: قَهَرَها؛ وغَلَبَ عَلَيْها؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَيْطانُ﴾ [المجادلة: ١٩] ؛ مَعْناهُ: غَلَبَ عَلَيْهِمْ؛ وشَذَّ هَذا الفِعْلُ في أنْ لَمْ تُعَلَّ واوُهُ؛ بَلِ اسْتُعْمِلَتْ عَلى الأصْلِ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ "وَمَنَعْناكم مِنَ المُؤْمِنِينَ"؛ وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "وَنَمْنَعَكُمْ"؛ بِفَتْحِ العَيْنِ؛ عَلى الصَرْفِ. ثُمَّ سَلّى وآنَسَ المُؤْمِنِينَ بِما وعَدَهم بِهِ؛ في قَوْلِهِ: ﴿فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ ؛ أيْ: وبَيْنَهُمْ؛ ويُنْصِفُكم مِن جَمِيعِهِمْ؛ وبِقَوْلِهِ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ ؛ وقالَ يُسَيْعٌ الحَضْرَمِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ؛ أرَأيْتَ قَوْلَ اللهِ تَعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ ؛ كَيْفَ ذَلِكَ؛ وهم يُقاتِلُونَنا ويَظْهَرُونَ عَلَيْنا أحْيانًا؟ فَقالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: مَعْنى ذَلِكَ: يَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ الحُكْمُ؛ وبِهَذا قالَ جَمِيعُ أهْلِ التَأْوِيلِ. و"اَلسَّبِيلُ": اَلْحُجَّةُ؛ والغَلَبَةُ. ومُخادَعَةُ المُنافِقِينَ هي لِأولِياءِ اللهِ تَعالى ؛ إذْ يَظُنُّونَهم غَيْرَ أولِياءَ؛ فَفي الكَلامِ حَذْفُ مُضافٍ؛ وإلْزامُ ذَنْبٍ اقْتَضَتْهُ أفْعالُهُمْ؛ وإنْ كانَتْ نِيّاتُهم لَمْ تَقْتَضِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَقْصِدُ أحَدٌ مِنَ البَشَرِ مُخادَعَةَ اللهِ تَعالى. (p-٥٠)وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ خادِعُهُمْ﴾ ؛ أيْ: مُنْزِلُ الخِداعِ بِهِمْ؛ وهَذِهِ عِبارَةٌ عن عُقُوبَةٍ سَمّاها بِاسْمِ الذَنْبِ؛ فَعُقُوبَتُهم في الدُنْيا ذُلُّهُمْ؛ وخَوْفُهُمْ؛ وغَمُّ قُلُوبِهِمْ؛ وفي الآخِرَةِ عَذابُ جَهَنَّمَ؛ وقالَ السُدِّيُّ ؛ وابْنُ جُرَيْجٍ ؛ والحَسَنُ ؛ وغَيْرُهم مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذا الخَدْعَ هو أنَّ اللهَ تَعالى يُعْطِي لِهَذِهِ الأُمَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ نُورًا لِكُلِّ إنْسانٍ مُؤْمِنٍ؛ أو مُنافِقٍ؛ فَيَفْرَحُ المُنافِقُونَ؛ ويَظُنُّونَ أنَّهم قَدْ نَجَوْا؛ فَإذا جاؤُوا إلى الصِراطِ طُفِئَ نُورُ كُلِّ مُنافِقٍ؛ ونَهَضَ المُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ المُنافِقِينَ: ﴿انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣] ؛ وذَلِكَ هو الخَدْعُ الَّذِي يَجْرِي عَلى المُنافِقِينَ؛ وقَرَأ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَحْوِيُّ: "وَهُوَ خادِعْهُمْ"؛ بِإسْكانِ العَيْنِ؛ وذَلِكَ عَلى التَخْفِيفِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى كَسَلَهم في القِيامِ إلى الصَلاةِ؛ وتِلْكَ حالُ كُلِّ مَن يَعْمَلُ العَمَلَ كارِهًا؛ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ فِيهِ الصَوابَ؛ تُقْيَةً؛ أو مُصانَعَةً؛ وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزٍ الأعْرَجُ: "كَسالى"؛ بِفَتْحِ الكافِ؛ وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يُرَؤُّونَ"؛ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَ الراءِ والواوِ؛ دُونَ ألِفٍ؛ وهي تَعْدِيَةُ "رَأى"؛ بِالتَضْعِيفِ؛ وهي أقْوى في المَعْنى مِن "يُراؤُونَ"؛ لِأنَّ مَعْناها: "يَحْمِلُونَ الناسَ عَلى أنْ يَرَوْهُمْ؛ ويَتَظاهَرُونَ لَهم بِالصَلاةِ؛ وهم يُبْطِنُونَ النِفاقَ"؛ وتَقْلِيلُهُ ذِكْرَهم يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ؛ قالَ الحَسَنُ: قَلَّ لِأنَّهُ كانَ لِغَيْرِ اللهِ"؛ فَهَذا وجْهٌ؛ والثانِي أنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِسْبَةِ إلى خَوْضِهِمْ في الباطِلِ؛ وقَوْلِهِمُ الزُورَ والكُفْرَ. "مُذَبْذَبِينَ"؛ مَعْناهُ: مُضْطَرِبِينَ؛ لا يَثْبُتُونَ عَلى حالٍ؛ و"اَلتَّذَبْذُبُ": اَلِاضْطِرابُ بِخَجَلٍ؛ أو خَوْفٍ؛ أو إسْراعٍ في مَشْيٍ؛ ونَحْوِهِ؛ ومِنهُ قَوْلُ النابِغَةِ: ... ؎ تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ خَيالٌ لِأُمِّ السَلْسَبِيلِ ودُونَها ∗∗∗ ∗∗∗ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ المُذَبْذِبِ (p-٥١)بِكَسْرِ الذالِ الثانِيَةِ؛ قالَ أبُو الفَتْحِ: أيِ: "اَلْمُهْتَزِّ؛ القَلِقِ؛ الَّذِي لا يَثْبُتُ؛ ولا يَتَمَهَّلُ"؛ فَهَؤُلاءِ المُنافِقُونَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الكُفّارِ؛ والمُؤْمِنِينَ ﴿لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ﴾ ؛ كَما قالَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "مَثَلُ المُنافِقِ مَثَلُ الشاةِ العائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ"؛» فالإشارَةُ بِذَلِكَ إلى حالَيِ الكُفْرِ؛ والإيمانِ؛ وأشارَ إلَيْهِ؛ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ؛ لِظُهُورِ تَضَمُّنِ الكَلامِ لَهُ؛ كَما جاءَ: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] ؛ و﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦]. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مُذَبْذَبِينَ"؛ بِفَتْحِ الذالِ الأُولى؛ والثانِيَةِ؛ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ: "مُذَبْذِبِينَ"؛ بِكَسْرِ الذالِ الثانِيَةِ؛ وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "مُتَذَبْذِبِينَ"؛ بِالتاءِ؛ وكَسْرِ الذالِ الثانِيَةِ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "مَذَبْذَبِينَ"؛ بِفَتْحِ المِيمِ؛ والذالَّيْنِ؛ وهي قِراءَةٌ مَرْدُودَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا﴾ ؛ مَعْناهُ: سَبِيلَ هُدًى وإرْشادٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب