الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾ يَعْنِي: وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ مَعَ المُسْلِمِينَ قامُوا (p-٦٧)كُسالى، أيْ: مُتَثاقِلِينَ مُتَباطِئِينَ وهو مَعْنى الكَسَلِ في اللُّغَةِ، وسَبَبُ ذَلِكَ الكَسَلِ أنَّهم يَسْتَثْقِلُونَها في الحالِ ولا يَرْجُونَ بِها ثَوابًا ولا مِن تَرْكِها عِقابًا، فَكانَ الدّاعِي لِلتَّرْكِ قَوِيًّا مِن هَذِهِ الوُجُوهِ، والدّاعِي إلى الفِعْلِ لَيْسَ إلّا خَوْفُ النّاسِ، والدّاعِي إلى الفِعْلِ مَتى كانَ كَذَلِكَ وقَعَ الفِعْلُ عَلى وجْهِ الكَسَلِ والفُتُورِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ (كُسالى) بِضَمِّ الكافِ وفَتْحِها جَمْعُ كَسْلانٍ كَسُكارى في سَكْرانَ. * * * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُراءُونَ النّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا﴾ والمَعْنى أنَّهم لا يَقُومُونَ إلى الصَّلاةِ إلّا لِأجْلِ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، لا لِأجْلِ الدِّينِ. فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى المُراآةِ وهي مُفاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ ؟ قُلْنا: إنَّ المُرائِيَ يُرِيهِمْ عَمَلَهُ وهم يُرُونَهُ اسْتِحْسانَ ذَلِكَ العَمَلِ، وفي قَوْلِهِ ﴿ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِذِكْرِ اللَّهِ الصَّلاةُ، والمَعْنى أنَّهم لا يُصَلُّونَ إلّا قَلِيلًا، لِأنَّهُ مَتى لَمْ يَكُنْ مَعَهم أحَدٌ مِنَ الأجانِبِ لَمْ يُصَلُّوا، وإذا كانُوا مَعَ النّاسِ فَعِنْدَ دُخُولِ وقْتِ الصَّلاةِ يَتَكَلَّفُونَ حَتّى يَصِيرُوا غائِبِينَ عَنْ أعْيُنِ النّاسِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِذِكْرِ اللَّهِ أنَّهم كانُوا في صَلاتِهِمْ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا، وهو الَّذِي يَظْهَرُ مِثْلُ التَّكْبِيراتِ، فَأمّا الَّذِي يَخْفى مِثْلُ القِراءَةِ والتَّسْبِيحاتِ فَهم لا يَذْكُرُونَها. الثّالِثُ: المُرادُ أنَّهم لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ في جَمِيعِ الأوْقاتِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ الوَقْتُ وقْتَ الصَّلاةِ أوْ لَمْ يَكُنْ وقْتَ الصَّلاةِ إلّا قَلِيلًا نادِرًا. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وهَكَذا نَرى كَثِيرًا مِنَ المُتَظاهِرِينَ بِالإسْلامِ، ولَوْ صَحِبْتَهُ الأيّامَ واللَّيالِيَ لَمْ تَسْمَعْ مِنهُ تَهْلِيلَةً ولا تَسْبِيحَةً، ولَكِنَّ حَدِيثَ الدُّنْيا يَسْتَغْرِقُ بِهِ أيّامَهُ وأوْقاتَهُ لا يَفْتُرُ عَنْهُ. الرّابِعُ: قالَ قَتادَةُ: إنَّما قِيلَ: إلّا قَلِيلًا، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَقْبَلْهُ، وما رَدَّهُ اللَّهُ تَعالى فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وما قَبِلَهُ اللَّهُ فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: مُذَبْذَبِينَ، إمّا حالٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿يُراءُونَ﴾ أوْ مِن قَوْلِهِ ﴿ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الذَّمِّ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مُذَبْذَبِينَ: أيْ: مُتَحَيِّرِينَ، وحَقِيقَةُ المُذَبْذَبِ الَّذِي يُذَبُّ عَنْ كِلا الجانِبَيْنِ، أيْ: يُرَدُّ ويُدْفَعُ فَلا يَقَرُّ في جانِبٍ واحِدٍ، إلّا أنَّ الذَّبْذَبَةَ فِيها تَكْرِيرٌ لَيْسَ في الذَّبِّ، فَكانَ المَعْنى كُلَّما مالَ إلى جانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ. واعْلَمْ أنَّ السَّبَبَ في ذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلى الدّاعِي، فَإنْ كانَ الدّاعِي إلى الفِعْلِ هو الأغْراضُ المُتَعَلِّقَةُ بِأحْوالِ هَذا العالَمِ كَثُرَ التَّذَبْذُبُ والِاضْطِرابُ؛ لِأنَّ مَنافِعَ هَذا العالَمِ وأسْبابَهُ مُتَغَيِّرَةٌ سَرِيعَةُ التَّبَدُّلِ، وإذا كانَ الفِعْلُ تَبَعًا لِلدّاعِي، والدّاعِي تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ ثُمَّ إنَّ المَقْصُودَ سَرِيعُ التَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ في (p-٦٨)المَيْلِ والرَّغْبَةِ، ورُبَّما تَعارَضَتِ الدَّواعِي والصَّوارِفُ فَيَبْقى الإنْسانُ في الحَيْرَةِ والتَّرَدُّدِ. أمّا مَن كانَ مَطْلُوبُهُ في فِعْلِهِ إنْشاءَ الخَيْراتِ الباقِيَةِ، واكْتِسابَ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ، وعَلِمَ أنَّ تِلْكَ المَطالِبَ أُمُورٌ باقِيَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ لا جَرَمَ كانَ هَذا الإنْسانُ ثابِتًا راسِخًا، فَلِهَذا المَعْنى وصَفَ اللَّهُ تَعالى أهْلَ الإيمانِ بِالثَّباتِ فَقالَ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [إبْراهِيمَ: ٢٧] وقالَ ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٨] وقالَ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفَجْرِ: ٢٦] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ (مُذَبْذِبِينَ) بِكَسْرِ الذّالِ الثّانِيَةِ، والمَعْنى يُذَبْذِبُونَ قُلُوبَهم أوْ دِينَهم أوْ رَأْيَهم، بِمَعْنى يَتَذَبْذَبُونَ كَما جاءَ صَلْصَلَ وتَصَلْصَلَ بِمَعْنًى، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مُتَذَبْذِبِينَ، وعَنْ أبِي جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدّالِ المُهْمَلَةِ، وكَأنَّ المَعْنى أنَّهم تارَةً يَكُونُونَ في دُبَّةٍ وتارَةً في أُخْرى، فَلا يَبْقَوْنَ عَلى دُبَّةٍ واحِدَةٍ، والدُّبَّةُ الطَّرِيقَةُ وهي الَّتِي تَدِبُّ فِيها الدَّوابُّ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أيْ: بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ، أوْ بَيْنَ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ، وكَلِمَةُ (ذَلِكَ) يُشارُ بِهِ إلى الجَماعَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البَقَرَةِ: ٦٨] وذِكْرُ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ قَدْ جَرى في هَذِهِ القِصَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ وإذا جَرى ذِكْرُ الفَرِيقَيْنِ فَقَدْ جَرى ذِكْرُ الكُفْرِ والإيمانِ؛ قالَ قَتادَةُ: مَعْنى الآيَةِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ مُخْلَصِينَ ولا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الحَيْرَةَ في الدِّينِ إنَّما تَحْصُلُ بِإيجادِ اللَّهِ تَعالى وقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ يَقْتَضِي فاعِلًا قَدْ ذَبْذَبَهم وصَيَّرَهم مُتَحَيِّرِينَ مُتَرَدِّدِينَ، وذَلِكَ لَيْسَ بِاخْتِيارِ العَبْدِ، فَإنَّ الإنْسانَ إذا وقَعَ في قَلْبِهِ الدَّواعِي المُتَعارِضَةُ المُوجِبَةُ لِلتَّرَدُّدِ والحَيْرَةِ، فَلَوْ أرادَ أنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أصْلًا، ومَن رَجَعَ إلى نَفْسِهِ وتَأمَّلَ في أحْوالِهِ عَلِمَ أنَّ الأمْرَ كَما ذَكَرْنا، وإذا كانَتْ تِلْكَ الذَّبْذَبَةُ لا بُدَّ لَها مِن فاعِلٍ، وثَبَتَ أنَّ فاعِلَها لَيْسَ هو العَبْدُ ثَبَتَ أنَّ فاعِلَها هو اللَّهُ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ﴾ يَقْتَضِي ذَمَّهم عَلى تَرْكِ طَرِيقَةِ المُؤْمِنِينَ وطَرِيقَةِ الكافِرِينَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى ما ذَمَّهم عَلى طَرِيقَةِ الكُفّارِ وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. قُلْنا: إنَّ طَرِيقَةَ الكُفّارِ وإنْ كانَتْ خَبِيثَةً إلّا أنَّ طَرِيقَةَ النِّفاقِ أخْبَثُ مِنها، ولِذَلِكَ فَإنَّهُ تَعالى ذَمَّ الكُفّارَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ في آيَتَيْنِ، وذَمَّ المُنافِقِينَ في بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وما ذاكَ إلّا أنَّ طَرِيقَةَ النِّفاقِ أخْبَثُ مِن طَرِيقَةِ الكُفّارِ، فَهو تَعالى إنَّما ذَمَّهم لا لِأنَّهم تَرَكُوا الكُفْرَ، بَلْ لِأنَّهم عَدَلُوا عَنْهُ إلى ما هو أخْبَثُ مِنهُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلِهِمْ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ ذِكْرَ هَذا الكَلامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإلّا لَمْ يَتَّصِلْ هَذا الكَلامُ بِما قَبْلَهُ. والثّانِي: أنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أضَلَّهُ عَنِ الدِّينِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: مَعْنى هَذا الإضْلالِ سَلْبُ الألْطافَ، أوْ هو عِبارَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالضَّلالِ، أوْ هو عِبارَةٌ عَنْ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُضِلُّهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، وهَذِهِ الوُجُوهُ قَدْ تَكَلَّمْنا عَلَيْها مِرارًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب