الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (١٤٢) ﴾ قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه"، ووجه"خداع الله إياهم"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك. [[انظر ما سلف ١: ٢٧٢ - ٢٧٧، ثم: ٣٠١ -٣٠٦، تضمينًا.]] * * * فتأويل ذلك: إنّ المنافقين يخادعون الله، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفرَ، استدراجًا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم، كما:- ١٠٧٢١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم، ويُضرب بينهم بالسُّور. ١٠٧٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان، [["أبو عامر بن النعمان"، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وأظنه قد أسقط الناسخ من اسمه ما أنا مثبته، فإن المذكور مع عبد الله بن أبي بن سلول في المنافقين هو: "أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان، أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو الذي يقال له"أبو عامر الراهب"، وهو أبو"حنظلة الغسيل" يوم أحد. وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان في قومه من الأوس شريفًا مطاعًا. فلما جاء الله بالإسلام، أبى إلا الكفر والفراق لقومه الأوس، فخرج مفارقًا للإسلام ولرسول الله ﷺ، فقال رسول الله: "لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق". انظر سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٤، ٢٣٥. هذا، ولم أجد أحدًا غيره في المنافقين أو غيرهم يقال له: "أبو عامر بن النعمان"، فثبت عندي أن ما قلته هو الصواب.]] وفي المنافقين="يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: مثل قوله في"البقرة": (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة: ٩] . [[في المطبوعة: "وما يخادعون إلا أنفسهم"، وهي إحدى قراءتين، وأثبت قراءتنا في مصحفنا، وهي أيضًا القراءة التي أوجب لها الصحة أبو جعفر فيما سلف ١: ٢٧٧.]] قال: وأما قوله:"وهو خادعهم"، فيقول: في النور الذي يعطَى المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سُلب، وما ذكر الله من قوله [[في المخطوطة: "وما ذكر منه انظرونا نقتبس من نوركم"، وهو ناقص، والذي في المطبوعة مقارب للصواب.]] ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [سورة الحديد: ١٣] . قال قوله:"وهو خادعهم". ١٠٧٢٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يُلقَى على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فينادونهم: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة الحديد: ١٣، ١٤] . قال الحسن: [[في المطبوعة: "فتلك خديعة الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.]] فذلك خديعة الله إياهم. [[الأثر: ١٠٧٢٣ -"سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي"، مضى برقم: ٣٤٧١، ٣٨٧٩، ٦٤٦٢.]] * * * وأما قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئًا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرُّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعادٍ ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة إبقاءً على أنفسهم، [[في المطبوعة: "بقاء على أنفسهم"، والصواب ما في المخطوطة.]] وحذارًا من المؤمنين عليها أن يُقتلوا أو يُسلبوا أموالهم. فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى إليها، رياءً للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى، [[انظر تفسير"الرياء" فيما سلف ٥: ٥٢١، ٥٢٢ / ٨: ٣٥٦.]] كما:- ١٠٧٢٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى"، قال: والله لولا الناسُ ما صَلَّى المنافق، ولا يصلِّي إلا رياء وسُمْعة. ١٠٧٢٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلُّوا. * * * وأما قوله:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟. قيل له: إن معنى ذلك= بخلاف ما ذهبت=: ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء، [[في المطبوعة: "إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرًا رياء"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه صواب، وقوله: "بخلاف ما ذهبت" اعتراض في الكلام، وضعته بين خطين.]] ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية. فلذلك سماه الله"قليلا"، لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغًي به التقرّب إلى الله، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو، وإن كثر، من وجه نَصَب عامله وذاكره، [["النصب" (بفتحتين) : التعب.]] في معنى السراب الذي له ظاهرٌ بغير حقيقة ماء. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٠٧٢٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلَّ لأنه كان لغير الله. ١٠٧٢٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلّ ذكر المنافق، لأن الله لم يقبله. وكل ما رَدَّ الله قليل، وكل ما قبلَ الله كثير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب