الباحث القرآني

﴿إنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ أيْ: يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُ المُخادِعُ، فَيُظْهِرُونَ الإيمانَ ويُضْمِرُونَ نَقِيضَهُ. وعَنِ الحَسَنِ - واخْتارَهُ الزَّجّاجُ - أنَّ المُرادَ يُخادِعُونَ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى حَدِّ ﴿إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ ﴿وهُوَ خادِعُهُمْ﴾ أيْ: فاعِلٌ بِهِمْ ما يَفْعَلُ الغالِبُ في الخِداعِ، حَيْثُ تَرَكَهم في الدُّنْيا مَعْصُومِي الدِّماءِ والأمْوالِ، وأعَدَّ لَهم في الآخِرَةِ الدَّرْكَ الأسْفَلَ مِنَ النّارِ، وقِيلَ: خِداعُهُ تَعالى لَهم أنْ يُعْطِيَهم سُبْحانَهُ نُورًا يَوْمَ القِيامَةِ يَمْشُونَ بِهِ مَعَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ يَسْلُبُهم ذَلِكَ النُّورَ، ويَضْرِبُ بَيْنَهم بِسُورٍ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ أيْضًا، والسُّدِّيِّ، واخْتارَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، ولِلَّهِ تَعالى الحَمْدُ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أوْ مَعْطُوفَةٌ عَلى خَبَرِ (إنَّ) أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ كالأُولى. ﴿وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾ أيْ: مُتَثاقِلِينَ مُتَباطِئِينَ، لا نَشاطَ لَهُمْ، ولا رَغْبَةَ، كالمُكْرَهِ عَلى الفِعْلِ؛ لِأنَّهم لا يَعْتَقِدُونَ ثَوابًا في فِعْلِها، ولا عِقابًا عَلى تَرْكِها، وقُرِئَ بِفَتْحِ الكافِ، وهُما جَمْعا (كَسْلانَ). ﴿يُراءُونَ النّاسَ﴾ لِيَحْسَبُوهم مُؤْمِنِينَ، والمُراآةُ مُفاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، إمّا بِمَعْنى التَّفْعِيلِ؛ لِأنَّ فاعَلَ بِمَعْنى فَعِلَ (p-176)وارِدٌ في كَلامِهِمْ كَنَعِمَ وناعَمَ، وقِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وإسْحاقَ (يُرُوُونَ) تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، أوْ لِلْمُقابَلَةِ لِأنَّهم لِفِعْلِهِمْ في مُشاهَدٍ يَرَوْنَ النّاسَ والنّاسُ يَرَوْنَهُمْ، وهم يَقْصِدُونَ أنْ تُرى أعْمالُهُمْ، والنّاسُ يَسْتَحْسِنُونَها، فالمُفاعَلَةُ في الرُّؤْيَةِ مُتَّحِدَةٌ، وإنَّما الِاخْتِلافُ في مُتَعَلَّقِ الإراءَةِ، فَلا يَرِدُ عَلى هَذا الشِّقِّ أنَّ المُفاعَلَةَ لا بُدَّ في حَقِيقَتِها مِنِ اتِّحادِ الفِعْلِ ومُتَعَلِّقِهِ، والجُمْلَةُ إمّا اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِنَ الكَلامِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يُرِيدُونَ بِقِيامِهِمْ هَذا؟ فَقِيلَ: يُراءُونَ إلَخْ، أوْ حالٌ مِن ضَمِيرِ (قامُوا) أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في (كُسالى). ﴿ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلا قَلِيلا﴾ عَطْفٌ عَلى (يُراءُونَ) وقِيلَ: حالٌ مِن فاعِلِهِ، أيْ: ولا يَذْكُرُونَهُ سُبْحانَهُ مُطْلَقًا إلّا زَمانًا قَلِيلًا، أوْ إلّا ذِكْرًا قَلِيلًا، إذِ المُرائِي لا يَفْعَلُ إلّا بِحَضْرَةِ مَن يُرائِيهِ، وهو أقَلُّ أحْوالِهِ، أوْ لِأنَّ ذِكْرَهم بِاللِّسانِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الذِّكْرِ بِالقَلْبِ، وقِيلَ: إنَّما وُصِفَ بِالقِلَّةِ لِأنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ، وكُلُّ ما لَمْ يَقْبَلْهُ اللَّهُ تَعالى قَلِيلٌ وإنْ كانَ كَثِيرًا، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ، وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ، وغَيْرُهُ، عَنِ الحَسَنِ ما بِمَعْناهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - أنَّهُ قالَ: «لا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ تَقْوى، وكَيْفَ يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ»؟! وقِيلَ: المُرادُ بِالذِّكْرِ الذِّكْرُ الواقِعُ في الصَّلاةِ، نَحْوُ التَّكْبِيرِ والتَّسْبِيحِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ. وأُيِّدَ بِما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وأبُو داوُدَ، عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««تِلْكَ صَلاةُ المُنافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتّى إذا كانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطانٍ قامَ فَنَقَرَ أرْبَعًا لا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى فِيها إلّا قَلِيلًا»». وقِيلَ: الذِّكْرُ بِمَعْنى الصَّلاةِ؛ لِأنَّ الكَلامَ فِيها لا بِمَعْناهُ المُتَبادَرِ مِنهُ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالقِلَّةِ العَدَمُ، واسْتُشْكِلَ تَوْجِيهُ الِاسْتِثْناءِ حِينَئِذٍ. وأُجِيبَ بِأنَّ المَعْنى: (لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ) تَعالى (إلّا) ذِكْرًا مُلْحَقًا بِالعَدَمِ؛ لِأنَّهُ لا يَنْفَعُهم فَلا إشْكالَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّ القِلَّةَ بِمَعْنى العَدَمِ مَجازٌ، وجَعْلُ العَدَمِ ما لا نَفْعَ فِيهِ مَجازٌ آخَرُ، ومَعَ ذَلِكَ لَيْسَ في الكَلامِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ في تَوْجِيهِ الكَلامِ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ: إنَّ المَعْنى حِينَئِذٍ لَوْ صَحَّ أنْ يُعَدَّ عَدَمُ الذِّكْرِ ذِكْرًا فَذَلِكَ ذِكْرُهم عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: ؎ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ وفِيهِ - وإنْ كانَ أهْوَنَ مِنَ الأوَّلِ - ما فِيهِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى اسْتِحْبابِ دُخُولِ الصَّلاةِ بِنَشاطٍ، وعَلى كَراهَةِ قَوْلِ الإنْسانِ كَسِلْتُ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهُ يَكْرَهُ أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: إنِّي كَسْلانُ، ويَتَأوَّلُ هَذِهِ الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب